عبدالمنعم الأعسم
مرّت في مايو / أيار، هذا العام 2025، ثمانون عاماً على صدور موسوعة الباحث الروسي الراحل (أغناتي كراتشكوفسكي)، الشهيرة (مع المخطوطات العربية)، التي صارت مرجعاً لأجيال المستشرقين الروس، ووثيقة معرفية بارزة في المكتبة العربية، لم يستطع أدب التحقيق في الموروث العربي أن يضاهي قيمتها ومكانتها.
وإذا عرفنا أن زمن صدور الموسوعة هو بداية النهاية للحرب العالمية الثانية، وأن مكان صدورها مدينة (بطرسبرج)، يوم كانت محاصرة بالجيوش، والهدف اليومي لغارات الطيران الألماني، فإنه يتعين حساب ما حققه (كراتشكوفسكي)، في إنقاذ (عيّنات) يلفها النسيان بمعايير أسطورية، أخذاً بالاعتبار تجربة الكاتب المثيرة في اختصاص التراث العربي وعملة المثابر بين المخطوطات والمكتبات والمدن العربية بحثاً عما لم يكن شائعاً، لا في بلاده ولا في بلاد العرب آنذاك.. يقول: “ارجو ألا ينظر إلى هذا الكتاب على أنه مذكرات شخصية للمؤلف.. فقد كتبت هنا عن المخطوطات العربية التي شاء الحظ أن أعثر عليها، التي لعبت دوراً كبيراً في حياتي”.
وتتحدث (فيرا كراتشكوفسكايا) عن مأثرة والدها خلال حصار بطرسبرج شتاء عام 1941م: “كانت المدينة محاصرة، ومعرضة بدون انقطاع لنيران المدفعية والقصف البري، فقام (كراتشكوفسكي) بعمل متفان في تدوين المخطوطات العربية الثمينة، المحفوظة في معاهد المدينة ومتاحفها ومكتباتها.”
وحين رحل (كراتشكوفسكي) عام 1951م كان قد وضع في موسوعته (مع المخطوطات العربية)، دليل المستشرق الى النزاهة اقتضاء احترام الحقائق التاريخية وموجبات البحث الشاق في التفاصيل التي تبدو للآخرين على هيئة موجودات عارضة .
تضيف (كراتشكوفسكايا) قائلةً: “من على ظهر الباخرة التي أقلته إلى بيروت، عزم والدي على الانتساب إلى اللغة العربية، وذلك من طفل بيروتي مسافر التقط من فمه ثماني مفردات، ظل يرددها.. وعلى نحو سريع أخذ يتكلم اللغة العربية مع المارة ومع اساتذته، فيما بعد.”
ومن بيروت إلى دمشق، إلى القاهرة، إلى القدس، تنقّل المستشرق الشاب بحثاً عن كنوز من المخطوطات القديمة، فيما كان حريصاً على معايشة النماذج الشعبية عن قرب، فالتقى بنواطير الكروم وسوّاقي الدواب وماسحي الأحذية، وبالتلاميذ والمعلمين وشيوخ الريف ومشاهير الأزهر، وحاور رجال الصحافة والخطباء والواعظين والشعراء، وتأمل المنائر والانصاب والأدعية والشناشيل، ودخل في حلقات رواد الفكر، صديقاً لأمين الريحاني وجرجي زيدان واحمد تيمور وغيرهم.
كان (كراتشكوفسكي) يلاحق آثار الشاعر الدمشقي المجهول (الوأواء)، وفي غضون ذلك عثر مصادفة على مخطوطة منسية للشاعر سلامة بن جندل في إحدى مكتبات الإسكندرية، حيث خرج من رحلة البحث بستمائة دراسة علمية، شغلت نظرية وتاريخ الأدب العربي مساحة كبيرة منها .
وفي موسكو، التي عاد إليها في العقد الثالث من هذا القرن، أشرف على إصدار الطبعة الروسية لترجمة (ألف ليلة وليلة)، وقام بنفسه بترجمة (كليلة ودمنة)، وقصة (الأيام) لطه حسين، وعني بتأليف كتب مدرسية للغة العربية في مدارس الاتحاد السوفياتي، وشارك مع البروفيسور (بارانوف) في تأليف القاموس العربي – الروسي الأول، وقبل وفاته بثلاثة أعوام، أصدر الطبعة الثانية من موسوعته (مع المخطوطات العربية)، ويشير في تقديمه للموسوعة، إن الظروف أسعدته بالعثور في مكتبة (ليدن) على مخطوطة لـ (ابن العديم)، كتبت ببغداد في فبراير/ شباط 1257، أي قبل عام فقط من غارة هولاكو على مدينة السلام.
اقرأ ايضا
الخارجون عن النسق:كراتشكوفسكي 1883 – 1951م .. لا بلاغة كبلاغة القرآن ولا تعبير كتعبير العربية
د.هاشم الموسويان الاستشراق مؤسسة مرتبطة بأجندات كنسية لها مواقف متشنجة من الاسلام والعرب وعموم الامم …