ترجم القرآن وألف ليلة وليلة والمعري والمتنبي والبحتري

شاكر نوري
في هذة المقالات التي ينشرها «البيان» على مدى أيام رمضان المبارك، يقدم مستشرقون، ذوو مكانة علمية، شهاداتهم في فضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الأوروبية الحديثة، في انتشارها من الأندلس غرباً إلى تخوم الصين شرقاً، حيث أسهمت بكنوزها في الطب والكيمياء والرياضيات والفيزياء في قدوم عصر النهضة، وما صحبه من إحياء للعلوم.
ينتسب هؤلاء المستشرقون إلى مدارس مختلفة، شرقاً وغرباً، عالجوا الحضارة العربية والإسلامية في أبهى تجلياتها من إعجاز القرآن الكريم إلى الآداب، ومن ثم إلى العلوم، ورؤوا في الإسلام ديناً متسامحاً وميداناً غزيراً للإبداع منذ عرف الغرب أكبر حركة ترجمة في التاريخ على امتداد قرنين، نقل فيها معظم التراث العربي وأمهات الكتب إلى لغاته، ما أتاح للثقافة العربية أن تدخل حضارة الغرب لتضيء الحياة الفكرية والعلمية.لم يمنعه السجن أو مرض زوجته بالسل من مواصلة بحثه عن المخطوطات العربية وترجمة أشعار المعري وأبو العتاهية والمتنبي والبحتري إلى اللغة الروسية.
وكان أول من ترجم القرآن الكريم، ونشر في طبعة فنية من رقائق ذهبية ماثلة إلى يومنا هذا وأشرف على ترجمة ألف ليلة وليلة.وقام برحلات إلى العالم العربي من أجل الالتقاء بأدبائه ومثقفيه والاطلاع على مكتباته، بل وأصّر على تعلم اللهجة الشامية. ونشر تحقيقات عن المخطوطات العربية لا تزال محفوظة في أكاديمية العلوم الروسية في بطرسبورغ. يتفق الجميع على أن المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي هو مؤسس مدرسة الاستعراب الروسية حيث نشر نحو 450 بحثاً ومقالة حيث بدأ اهتمامه بالآداب الشرقية منذ سنوات صباه الأولى، فانكب على تعلم اللغات الشرقية في الجامعة منها: اللغة العربية والفارسية والتركية والتتارية.
وقد استغل فترة اعتقاله بعد ثورة أكتوبر 1917 لدراسة الأدب العربي والحضارة الإسلامية والنحو العربي، ومنها بدأ يسّود مقالاته. وبعد أن أطلق سراحه في عام 1923، عاد إلى عمله في كلية الاستشراق ونال مرتبة الأستاذية والعضو في أكاديمية العلوم.
وعلى الرغم من وجود ترجمات عديدة للقرآن الكريم إلا أن معرفته بأسرار اللغة العربية جعله يكشف أخطاءها، ولهذا كرس نفسه لترجمته علمياً، بكل المعاني والتعابير والألفاظ الدقيقة المستوحاة من كتاب الله، حيث اعتبرها المستشرقون من أدق الترجمات قاطبة.كما أن اكتشافه للأخطاء الواقعة في ترجمة أشعار أبي العلاء المعري دفعه إلى ترجمة أشعاره وخاصة كتاب «رسالة الملائكة».
مع المخطوطات العربية
أمضى كراتشكوفسكي جلّ حياته الفكرية يعمل في حقل الدراسات العربية، اكتشافها، والبحث عن سيرتها التاريخية، والعمل على تحقيقها وإخراجها بالحلة الجديدة المقروءة. فإليه يعود الفضل في اكتشاف مخطوط «المنازل والديار» للأمير السوري أسامة بن منقذ. وكذلك مخطوط «رسالة الملائكة» لأبي العلاء المعري، وكذلك كتاب «البديع» لابن المعتز.
أما في مجال المؤلفات، فقدم كراتشكوفسكي عملاً في غاية الأهمية في حقل المخطوطات العربية، ألا وهو كتابه الشهير والأساسي«مع المخطوطات العربية» الذي يعتبر مسيرة ذاتية له، قدم فيه موقفاً شاملاً من الشخصية العربية والتراث العربي الإسلامي.
ويعتبر أول عالم أوروبي كتب عن الأدب العربي الحديث، إذ وضع دراسة بعنوان «الرواية التاريخية في الأدب العربي المعاصر» في عام 1909، وصف فيها آثار أبرز ممثلي الاتجاهات الأدبية الحديثة: جرجي زيدان وجميل الزهاوي وأمين الريحاني ومحمد تيمور.
وقد تمرس في العمل الاستشراقي على يد أستاذه المؤرخ المعروف بارتولد، وسار على مبادئ ومناهج دراسة الأدب العربي التي تعلمها بشكل أكاديمي لا شك في علميته ونزاهته باعتراف الجميع. وقام أستاذه بوضع المصادر العربية والفارسية والتركية في التداول العلمي سواء في الجامعات أو في معاهد الاستشراق. وهي تعتبر اللبنات الأولى على طريق معرفة الأدب العربي والحضارة الإسلامية.
وفي مجال الريادة، قام بتحقيق كتاب «معجز أحمد» وضعه أبو العلاء المعري، يقع في 1920 صفحة، شارحاً شعر أبو الطيب المتنبي. وشاع في وقتها أنه كتاب مفقود.
وفي وقت لاحق، صدر عام 1984 ضمن سلسلة ذخائر العرب في أربعة مجلدات. وكتب له المستشرق الروسي مقدمة اشتملت على معلومات مهمة، حول الفرق بينه وبين كتاب «اللامع العزيزي» الذي رتبه حسب القوافي. كما اختصر ديوان أبي تمام وشرحه وسماه «ذكرى حبيب» وديوان البحتري وسماه «عبث الوليد».
رحلاته إلى بلدان الشرق
قبل أن يرحل إلى العالم العربي، التقى كما يذكر ذلك في كتابه «نبذة من تاريخ الاستعراب الروسي» أنه كان يلتقي بنخبة من المثقفين والأدباء العرب المغتربين في روسيا آنذاك، أي في القرن التاسع عشر.
وهؤلاء لعبوا دوراً هاماً في الاستعراب الروسي، من الدارسين في الجامعات الروسية أمثال: الشيخ عياد الطنطاوي وجورجي مرقص وفايز قلزة ومحمد عطايا وفضل الله صروف الدمشقي ورزق الله حسون اللذان عملا في جامعة سان بطرسبورغ.
كما عمل في روسيا الصحفي المصري محمد طلعت رئيس تحرير جريدة «التلميذ» الصادرة في القاهرة. ولا ننسى كلثوم عودة ـ فاسيلييفا التي أصبحت واحدة من أبرز المستعربين الروس من أصول عربية، وهي فلسطينية مسيحية تزوجت من ضابط روسي.
وبعد هذا التمهيد من العلاقات الثقافية مع العرب المغتربين في روسيا، قام برحلات إلى كل من مصر وسوريا وفلسطين وتركيا، فاطلع على خزائن كتبها، وتعرف إلى علمائها وأدبائها، وأبرزهم أمين الريحاني والشيخ محمد عبده والشيخ محمد كرد علي ولويس شيخو، وجرجي زيدان، وإسعاف النشاشييى، وغيرهم.
وكتب عن أمين الريحاني بالروسية، وانتشر صيته في أوروبا عن طريق كتابات كراتشكوفسكي كما ذكر في كتابه «مخطوطات عربية». كما قام بتعريف الأدب العربي في القرن العشرين، وكتب العديد من المقالات عن طه حسين والأخوة تيمور وقاسم أمين وغيرهم.
واستمرت صلاته ببعضهم لأغراض البحث العلمي. وقد وصل إلى بيروت عام 1908 في رحلة علمية اقترحها عليه أستاذه المستعرب روزين. وهناك التقى بالإضافة للمكفرين والأدباء العرب، بالمستعربين القادمين من أوربا الغربية أمثال المؤرخ البلجيكي «لامنس» والفرنسي «رونزفال» والإيطالي «نللينو» في أروقة جامعة القديس يوسف.
ونتيجة لعلاقاته الواسعة مع المفكرين والأدباء العرب والأوروبيين، بادر إلى تأسيس الروابط الأدبية ونشر المخطوطات والكتب العربية في روسيا، مثل تأسيس رابطة المستعربين الروس التي ترأسها، ليمد جسراً ثقافياً بين روسيا وبين العالم العربي والغربي على حد سواء. ومنذ البدايات الأولى، حرص على سلوك منهج مخالف للأوروبيين والغربيين في الاستشراق أي بالاعتماد على النصوص العربية الأصلية لا القيام بالترجمة عن لغات وسيطة.
مذكرات تلميذته
اتسم كراتشكوفسكي بروح انسانية ووداعة خاصة في علاقاته الاجتماعية، كما ذكرت تلميذته، آنا دولينينا، التي كتبت سيرته الذاتية تحت عنوان موح «سجين الواجب». وهي ورثت كرسي الجامعة بعد وفاته، واعتبرته وريثاً لأستاذه المعروف روزين.
تميز المستشرق الروسي بروح موضوعية لا تؤثر عليه الإيديولوجية، لذلك لم يكن يلتزم بقوانين علم الجمال الماركسي اللينيني، وهي شجاعة نادرة في ذلك الزمان، إذ لم يكن من السهل السير ضد التيار في نظام شمولي كالنظام السوفييتي آنذاك. وقد ظهر وكأنه يغني خارج السرب. كما لم يخضع لتأثيرات دار نشر طلبت منه بمساعدها على نشر حملة مناهضة للدين الإسلامي، فسخر من طلبها، وقاوم إغراءاتها.
واشتهرت محاضراته بموضوعاتها الشيقة: الشعر حسب تعريف النقاد العرب للعصر الوسيط، الرواية التاريخية في الأدب العربي المعاصر، مدخل إلى دراسة الثقافة العربية، وعلم اللهجات العربية، وغيرها، ما كان يصب في جوهر الثقافة العربية.
وكان يطمح إلى إحاطة الأدب العربي بكل مضامينه واتجاهاته بعنايته، وخاصة فيما يتعلق بدراسة الأدب المسيحي العربي، ولكنه لم يتمكن من تحقيق ما هو مرجو. وفي الواقع، لم تبق أعمال شيخ المستعربين الروس، في الظل، على الرغم العقبات الكثيرة، قامت الجهات المسؤولة بإصدار أعماله الكاملة وبرعاية معهد الأدب العالمي التابع لأكاديمية العلوم الروسية في مجلدات مكرسة لمجموعة من المستشرقين، وهي عبارة عن سلسلة بعنوان «كلاسيكيي الإستشراق الوطني»، وتتضمن أعمال كرتشكوفسكي.
عن ( البيان )

اقرأ ايضا

الخارجون عن النسق:كراتشكوفسكي 1883 – 1951م .. لا بلاغة كبلاغة القرآن ولا تعبير كتعبير العربية

د.هاشم الموسويان الاستشراق مؤسسة مرتبطة بأجندات كنسية لها مواقف متشنجة من الاسلام والعرب وعموم الامم …