د. أحمد ناصر الظالمي
كان الاستشراق الروسي في نظر الدارسين مبتعدًا عن الأهداف غير العلمية، أي الأهداف السياسية تحديدًا؛ لذا فإن بعض الدارسين لم يطلقوا عليه (الاستشراق) الروسي بل أطلقوا عليه (الاستعراب) الروسي، إذ تقول الدكتورة فاطمة عبدالفتاح: «إن الاستعراب الروسي لم يكن انتقائيًّا في تعامله مع المصادر والمخطوطات العربية وبما يوظف هذه الانتقائية لخدمة أهدافٍ استعماريةٍ»، بل إن المستشرقين الروس ولا سيما كراتشكوفسكي (1883- 1951)، يُعَدّون من أفضل أساتذة الاستشراق، وكان كراتشكوفسكي لا يحبذ مصطلح (الاستشراق الروسي)، ويرى الأفضل أن يكون (الاستعراب الروسي).
كراتشكوفسكي
نشأ كراتشكوفسكي في فلنا عاصمة ليتوانيا القديمة، فقد كان أبوه يوليان فومتش مديرًا لمعهد المعلمين فيها، ويقوم بتدريس بعض اللغات الأوربية، ثم سافر إلى طشقند وبقي فيها ثلاث سنواتٍ (1885-1888) وانتدب مديرًا للمدرسة الاكليريكية، فدخل كراتشكوفسكي المدرسة الإعدادية سنة 1893 وتخرج في الإعدادية سنة 1901، وتُعدّ طشقند هي العاصمة الفكرية للمقاطعات الإسلامية التابعة لروسيا آنذاك، وقد أمضى إجناتي إغناطيوس كراتشكوفسكي طفولته في هذا الوسط الناطق باللغة الأوزبكية فتعلمها، وتركت الحياة في طشقند أثرًا عميقًا جدًّا في نفسه.
أحبَّ اللغة العربية من خلال مطالعاته آنذاك، ثم التحق بقسم اللغات الشرقية في جامعة سان بطرسبورغ، فقد درس اللغة العبرية على كولوفكوف Kolovcov، واللغة الحبشية على تورائيف Turaev، ثم اشمدت Schmidt، كما حضر دروس زوكوفسكي Zukovshij في اللغتين الفارسية والتركية، ودرس تأريخ الشرق الإسلامي عند المؤرخ الروسي العظيم بارتولد، وعلم اللغة عند Melioranskj، وتأريخ الأدب العام عند فسلوفسكي، ومع أنطوان خشاب وهو لبنانيٌّ من طرابلس وكان معيدًا للعربية، فتدرب كراتشكوفسكي على لغة التخاطب بلهجةٍ شاميةٍ[.
أنجز رسالةً عن إدارة الخليفة المهدي، نال عنها وسامًا ذهبيًّا عام 1905… ثم تم انتدابه أستاذًا، فعميدًا للكلية الشرقية. ثم أوفدته جامعته إلى الشرق من سنة 1908 وحتى عام 1910، فطاف في سوريا ولبنان وفلسطين ومصر مترددًا على خزانتها العلمية ومكتبتها، وكانت تلك السفرة بوصيةٍ من أستاذه روزن (الذي تُوفيَ في يناير سنة 1908)، وقد ذهب كذلك إلى أوديسا (جنوبي روسيا) ومنها إلى إستانبول ثم أزمير وإلى سوريا ولبنان ومصر، وبقي في لبنان شتاءين كان يحضر دروسًا في كلية اليسوعيين، واستطاع أن يتقن التخاطب باللهجة اللبنانية، وأن يتابع قراءة الصحف المحلية وأن يطلع على الأدب العربي المعاصر لا سيما اللبناني منه، وتعرّف على أمين الريحاني، فترجم له في ما بعد مجلدين من أدبه إلى الروسية وتعرّف على الأب لويس شيخو وهنري لامنس اليسوعي وإلى المستشرق الأب رونزفال الذي كان يهتم باللهجات العامية العربية.
في عام 1914 رحل إلى ليبزج وهالسه ولندن لدراسة المخطوطات وبعد ذلك أشرف على القسم الشرقي في لينينغراد، وبعد ذلك أصبح عضوًا في مجمع العلوم الروسي خلفًا لأستاذه روزن عام 1921. وحصل على وسام لينين اعترافًا بفضله على الثقافة الروسية والعالمية في حفظ المكتبات أثناء حصار لينينغراد في الحرب العالمية الثانية إذ بقي في تلك المدينة وتحديدًا في المكتبة العامة أثناء العمليات العسكرية ولم يغادرها.
عند ذهابه إلى مصر كان يتردد على قسم المخطوطات في دار الكتب المصرية آنذاك، ويتردد كذلك إلى مكتبة الجامع الأزهر، وحصل على مخطوطة رسالة الملائكة، فأمضى عشرين عامًا في دراستها، حتى نشرها عام 1932، ضمن منشورات المعهد الشرقي، ثم نشرها مرةً أخرى محمد سليم الجندي في دمشق سنة 1944، وهكذا اهتم كراتشكوفسكي بجمع مخطوطات المعري وكتب بحثًا عن (رسالة الغفران) للمعري ونشره في مجلة Islamica، الجزء الأول ص: 344-356.
وتقول المستشرقة الروسية ذات الأصل الفلسطيني كلثوم عودة فاسيليفيا أنها حضرت سنة 1916 مناقشة رسالة كراتشكوفسكي للماجستير في جامعة بترغراد، وكانت عن الوأواء الدمشقي، وحقق مخطوطة ديوانه وترجمه إلى الروسية مع التحليل والتعليق، مع مقدمةٍ مهمةٍ جدًّا عن الشعر العربي وتأريخه وتطوره. ثم تطورت علاقته معها وعملا معًا في دراسة مؤلفات أغابيوس المنبجي، وبحث في ترجمات الكتاب المقدس إلى العربية التي تمت في عهد المأمون، وكتبَ مقدمةً لكتابات كلثوم عودة فاسيليفا عندما جمعتها سنة 1928، وكانت مقدمةً شاملةً وعميقةً عن الأدب العربي الحديث خلال الربع الأول من القرن العشرين وتُرجِمَتْ هذه الدراسة إلى لغاتٍ عدةٍ وأُعيد نشرها في (مجموعة كراتشكوفسكي في الجزء الثالث ص47- 64). وكلثوم عودة فاسيليفا هي التي أشرفت على جمع وطباعة مجموعة كراتشكوفسكي في ستة مجلداتٍ وصدرت عن أكاديمية العلوم في الإتحاد السوفيتي في موسكو سنة 1965 وترجمت كلثوم مجموعةً من البحوث.
وعندما كان الأديب الروسي الكبير مكسيم غوركي مهتمًّا بمشروع نشر الآداب العالمية، شارك كراتشكوفسكي ضمن هذا المشروع وترجم كتاب الاعتبار للأمير أسامة بن منقذ إلى اللغة الروسية.
ويبقى كراتشكوفسكي ينماز عن غيره بأنه أول مستشرقٍ أوروبيٍّ يُعنى بالأدب العربي الحديث ولا سيما أدب المهجر الذي لم يشتهر آنذاك كثيرًا ولم ينل عنايةَ الباحثين عربًا ومستشرقين، بل كان أدبًا مجهولًا، فترجم كما ذكرنا أدب أمين الريحاني إلى الروسية مع مقدمةٍ مهمةٍ تعطي القارئ الروسي صورةً واضحة عن الريحاني وأُعيد نشر هذه المقدمة في ما بعد في (مجموعة كراتشكوفسكي 3/137 – 145) وخصّ الريحاني ببحث عنوانه (فيلسوف الفريكة) ونشره في كتابه مع المخطوطات العربية ص97.
وكتب كراتشكوفسكي عام 1928 دراسةً مهمةً عن (الأدب العربي في أمريكا) نشرها في مجلة (أنباء جامعة لينينجراد سنة 1928 الجزء الأول ص1-7)، فكانت أول دراسةٍ جدّيةٍ عن هذه المدرسة الأدبية. وكتب دراسةً عن ميخائيل نعيمة وأدبه (نُشرت في مجموعة كراتشكوفسكي 3/223-228)، ودراسةً عن جبران (نُشرت في مجموعته 3/348-351).
الاستشراق الروسي
امتاز الاستشراق الروسي عن غيره من مدارس الاستشراق بدراسة الأدب العربي الحديث الذي لم تهتم به تلك المدارس التي اهتمت بالدراسات الإسلامية والقرآنية والنحوية واللغوية القديمة. فبعد ثورة سنة 1917، ازداد هذا الاهتمام، لأن مدرسة الاستشراق الروسي نظرت إلى الأدب الحديث على أنه أفضل مَنْ يمثل المجتمع العربي المعاصر وليس الأدب القديم وخاصة الأدب القصصي، وأنّ استعراض هذا الموضوع (أي دراسة الاستشراق الروسي للأدب العربي الحديث) موضوعٌ يطول الوقوف عليه، وقد كتب فيه الأستاذ نجدة فتحي صفوة، وإن لم يستوفه حقه، ولكن موضوعنا هو المستشرق كراتشكوفسكي تحديدًا، إذ كتب سنة 1919 مقالًا مهمًّا استعرض فيه علاقة الأدب العربي الحديث بالآداب القديمة وما ينماز به عليها، وكتب سلسلة دراساتٍ عن:
1.جرجي زيدان (مجموعة كراتشكوفسكي 3/234-237).
2.مي زيادة (مجموعة كراتشكوفسكي 3/244-246).
3.الزهاوي (مجموعة كراتشكوفسكي 3/251-254).
4.محمود تيمور (مجموعة كراتشكوفسكي 3/255-260).
5.توفيق الحكيم (مجموعة كراتشكوفسكي 3 /344-347).
وكتب بحثًا عن الأدب العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين «نشره في مجلة فوستوك (أي الشرق) سنة 1922 الجزء الأول 67-73».
وكتب كراتشكوفسكي دراسةً مهمةً عنوانها «درس الآداب العربية الحديثة مناهجه ومقاصده في الحاضر، نظرٌ واقتراحٌ» نشرها في مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق سنة 1930 المجلد 10 ص17-28.
ويقول الدكتور نجدة فتحي صفوة: «طلب محررو الطبعة الدولية لدائرة المعارف الإسلامية في سنة 1934 أن يكتب كراتشكوفسكي لها بحثًا لمادة تأريخ الأدب العربي الحديث، فكتبه باللغة الألمانية، وكان أول بحثٍ في موضوعه باللغات الأوروبية وفيه عيّن الظروف الزمنية والجغرافية للأدب العربي الحديث واستشف الخطوط العامة لتطوره محللًا شتى الأشكال الأدبية من شعرٍ وروايةٍ وقصةٍ ومسرحيةٍ». ولكنني عندما رجعت إلى دائرة المعارف الإسلامية المُشار إليها، وبطبعتها المترجمة إلى العربية ذات الستة عشر مجلدًا لم أجد هذا البحث الذي ذكره الدكتور نجدة فتحي صفوة.
وبعد الحرب العالمية الثانية تطورت دراسات المستشرقين للأدب الحديث وكراتشكوفسكي منهم، إذ «نشر في عام 1946 كراساً عن المدارس والاتجاهات الأدبية في البلدان العربية في القرن العشرين، وألقى في عام 1947 محاضرةً عن التيارات الحديثة في الأدب العربي في مصر، عرض فيها تلك التيارات حتى نهاية سنة 1946 تقريبًا، وأشار إلى ظهور أدباء من الجيل الجديد في مصر يختلفون في آرائهم واتجاهاتهم عن كُتّاب الرعيل الأول، وعاد في سنة 1949 إلى الموضوعات نفسها في مقدمته لكتاب كلثوم عودة فاسيليفا…، كما كتب تحليلاً لشعر يوسف غصوب ومحمد مهدي الجواهري بمناسبة صدور مجموعتين من أشعارهما».
اهتم كراتشكوفسكي بكتابات طه حسين وبدراساته، فقد ترجم «إلى اللغة الروسية كتاب الأيام وعرّف القرّاء الروس بأدب هذا الكاتب العربي المعاصر، وقد نُشرت هذه الترجمة في سنة 1934 مع مقدمةٍ عن المؤلف وتعليقاتٍ على الكتاب، وكتب بعد ذلك مقالًا في (جريدة موسكو المساء) واسعة الانتشار للتعريف بالأيام ومؤلفه، ودراسةً أخرى بعنوان (طه حسين وروايته الأيام) نُشِرت في مجموعته، ولعل هاتين الدراستين هما أول ما كُتِبَ عن هذا الأديب المعاصر الكبير وكتابه الخالد، ولكراتشكوفسكي دراسةٌ أخرى عن طه حسين ناقش فيها آراءه المعروفة في الشعر الجاهلي وآراء نقـّاده».
ولكراتشكوفسكي رأيٌ مهمٌّ في كتابات طه حسين وعدّه متطرفًا ولذلك انتقده، ففي حوار خليل تقي الدين معه في بداية الخمسينيات عندما سأله «هل يصلكم شيءٌ من المؤلفات العربية الحديثة؟ فقال: يصلنا من مصر أكثر مما يصلنا من سوريا ولبنان وغيرها من البلاد العربية، وقد قرأتُ أخيرًا (وحي الصحراء) لمحمد حسين هيكل، وهو كتاب يُلفت النظر، وقرأتُ لطه حسين، وهو متطرفٌ قليلًا، اعتبرَ أنّ جميع الشعراء كوضاح اليمن منحولين وأظنه متطرفًا في هذا لكن انتقاداته مليحةٌ ونظراته طيبةٌ».
تركيزنا على دراسة كراتشكوفسكي لطه حسين، ورأيه فيه، لنا فيها غايةٌ سنعود إليها لاحقًا، وهكذا فنحن أمام مستشرقٍ كتب أول دراساته عن الأدب العربي «سنة 1911 في بحثٍ مستفيض عن الرواية التأريخية في الأدب العربي المعاصر، وهو بحثٌ نقديٌّ تحليليٌّ عن روايات جرجي زيدان ويعقوب صروف وفرح أنطوان وجميل نخلة وغيرهم، وقد تُرجِمَتْ هذه الدراسة إلى اللغة الألمانية سنة 1930 بقلم جوهرد فون مندي، وَتَحَدَّثَ عن ذلك أنستاس ماري الكرملي في مجلته لغة العرب الجزء العاشر السنة الثامنة تشرين أول سنة 1930 ص797»[.
المركز الاسلامي للدراسات ــ العتبة العباسية المقدسة
اقرأ ايضا
ترجم القرآن وألف ليلة وليلة والمعري والمتنبي والبحتري
شاكر نوريفي هذة المقالات التي ينشرها «البيان» على مدى أيام رمضان المبارك، يقدم مستشرقون، ذوو …
 ملاحق المدى
ملاحق المدى 
				 
						
					 
						
					