د . مجيد خدوري
ترجمة – وليد خالد احمد
1ــ2
أسست جماعة الأهالي عام 1931 فئة صغيرة من الشياب المتحمسين المُشبعين بافكار ليبرالية. كانوا جماعة احسّت بعمق ان السلطة السياسية كانت منذ زمن طويل بيد جماعة صغيرة من كبار السن حالت عمداً بينهم وبين نهوضهم بدورهم في حياة بلادهم السياسية. غير ان هؤلاء الشباب كانوا منقسمين على انفسهم انقسامات حادة ولذلك كانوا ضعفاء وعاجزين سياسياً. لم تكن تجمع بينهم خلفية اجتماعية كانت أم ثقافية، ولذلك كانوا منقسمين على فئات صغيرة. كانت هناك بالدرجة الأولى جماعة الذين تلقوا تعليمهم العالي في الخارج، وبالدرجة الثانية الذين تلقوا تعليمهم العالي في الداخل، ومعظمهم تخرج في كلية القانون ببغداد. اخفق شبان هذين المعسكرين، على الرغم من براعتهم وطموحاتهم في الإفادة من التعاون، بسبب عدم الثقة وغياب التواصل الحميم بينهم اساساً. لكنهم احسوا احساساً عميقاً بالحاجة إلى التقارب بينهم، وعليه فقد تشكّلت حفنة من هؤلاء الشباب عفوياً، واصبحت تُعرف باسم جماعة الأهالي، على اسم صحيفتهم اليومية. عندما انطلقت هذه المجموعة كانت تدافع بدايةً عن مبادئ الثورة الفرنسية والديمقراطية بصفتها شكل الحكومة المثالي. برزت الأهالي، صحيفة الجماعة فوراً لتكون اكثر صحف البلاد شعبيةً، لأن اعضاء الجماعة كانوا يتعاونون بينهم تعاوناً فعالاً في تحريرها ومدّها بمقالات كان لها صدى واسع في بغداد.
مرّت جماعة الأهالي بتغيير عام 1934. فتبنّت الإشتراكية، تحت تأثير عبد الفتاح ابراهيم ومحمد حديد بصفها اول مواد المعتقد. يبدو ان عبد الفتاح اصبح اشراكياً عام 1930 بسبب قراءاته عن الإتحاد السوفيتي عندما تخرّج في جامعة كولومبيا. أما حديد فقد تخرّج في مدرسة لندن للعلوم الإقتصادية والسياسية، وكان متأثراً جداً باتجاهاتها الإشتراكية الصريحة. وعلى الرغم من انه ينحدر من عائلة موصلية عريقة معروفة بثرائها ومحافظتها، إلاّ انه جلب معه إلى العراق مذهباً صدم اغلب مواطنيه. ولهذا السبب تحديداً فضّلت الجماعة الإشارة إلى ايديولوجيتها بمصطلح الشعبية، بدلاً من مصطلح الإشتراكية المعروف. الّف عبد الفتاح بمساعدة اصدقائه من الأهالي كتاباً صغيراً بجزأين شرح فيه افكار الجماعة ومُثُلها. كان الجزء الأول منهما مدخلاً إلى الثاني على الرغم من انه اكبر منه، ذلك انه تناول التاريخ السياسي منذ عهد الإغريق وصولاً إلى الثورة الروسية. أما الجزء الثاني الذي كانت جماعة الأهالي تقرأه بعناية وتركيز فقد رسم الخطوط العامة لمذهب الشعبية، واصبح برنامج الجماعة لكل النوايا والأغراض.
يسعى مذهب الشعبية إلى “رفاهية كل الناس” دون تمييز بين الأفراد والطبقات على اساس الثروة أو الأصل أو الدين، ويدافع عن الإصلاحات الإجتماعية في العراق. وانحى باللائمة على الشعب ككل لا على الأفراد، ودافع في الوقت ذاته عن حقوق الإنسان الأساسية كالحرية وتساوي الفرص والتحرر من الطغيان. ويضيف قائلاً ان على الدولة ان تعنى عناية كبيرة بصحة الفرد وتعليمه وتنظيم حقه بالعمل. وعلى هذا فان الشعبية تتألف من مبادئ كل من الديمقراطية والإشتراكية، حيث انها تعترف بالنظام البرلماني الذي يقوم على التمثيل الفعال. ومع ذلك فان الشعبية تختلف عن أي منهما؛ فهي تدافع، بمقارنتها بالديمقراطية، عن نوع من الجماعية؛ ولا تقرّ، بمقارنتها بالإشتراكية الماركسية، بوجود صراع طبقي في المجتمع، أو الإجراءات الثورية في التغيير الإجتماعي. كما انها تقرّ، مقارنةً بالإشتراكية الماركسية، بوجود مؤسستي الأسرة والدين. وتعترف الشعبية ايضاً بالوطنية بصفتها الف باء العقيدة، لكنها لاتعترف بالقومية لأنها غالباً ما تؤدي إلى الإمبريالية وهيمنة طبقة اجتماعية واحدة، في حين لاتلهم الوطنية الأفراد سوى الولاء للبلاد. “تاريخ القومية” يقول بيان الأهالي “حافل بالدم والطغيان والنفاق” بينما يفصح تاريخ الوطنية انه يؤيد عدم العدوان او التمييز الإجتماعي، ويقر باهمية كل فرد كاهميته لأرض اجداده.
مع ان جماعة الأهالي باتت نشطة واكثر نفوذاً عام 1934، فانها لم تشعر ان الوقت قد حان لتنظيم حزب سياسي. بل قررت ان تؤسس حلقة اجتماعية لنشر الشعبية. ومن هنا افتُتِح نادي بغداد في بواكير عام 1934 لكل الشباب ذوي التعليم الراغبين بالمشاركة في انشطته الإجتماعية. وعلى الرغم من حقيقة ان القوميين خربوا النادي، فان افكار الشعبية جذبت الكثير الكثير من الشباب واثارت نقاشات مفعمة بالحيوية. غير ان النادي أُغلق بعد بضعة اشهر بسبب المعارضة غير المباشرة للحكومة. لم تحقق افكار الشعبية تقدماً كبيراً لأسباب يعود معظمها إلى معارضة السياسيين كبار السن وإلى دعاية القوميين المضادة. فقد صرحوا بعنف ان الشعبية ليست سوى الشيوعين باسم آخر، وبالتالي فانها تناقض تقاليد العرب القومية والعمل على تقويض تعاليم الإسلام.
في هذه الأثناء قررت الجماعة استخدام وسيلة تروق اكثر للمجتمع العراقي. تم التخلي عن مصطلح الشعبية وتخلت الجماعة عن الأفكار الأكثر راديكالية في الوقت الراهن. وعليه فقد كان ممكناً توسيع عضوية الجماعة بضم قلة من السياسيين كبار السن الأكثر ليبرالية. فانضم كامل الجادرجي، العضو السابق في حزب الإخاء، إلى الجماعة عام 1934. وجد الجادرجي الذي ترك حزب الإخاء عندما تولى رشيد عالي الكيلاني السلطة عام 1933 ان الحزب لايتلائم وافكاره الأكثر ليبرالية، فنشر مناقشة تحفيزية عن السيادة والديمقراطية دافع فيها عن ضرورة مشاركة عموم الجماهير في الحكومة. كانت افكاره اكثر تقدمية نوعاً ما من وجهة نظر حزب الإخاء، ولذلك كان من الطبيعي ان يتمرد عليه الجادرجي وينضم إلى جماعة الأهالي. وبتأثير الجادرجي كسبت جماعة الأهالي جعفر ابو التمن وحكمت سليمان فتحسنت مكانتها الإجتماعية وقوتها. يُذكر ان جعفر ابو التمن كان قائد الحزب الوطني. كان معروفاً باخلاصه واستقامته؛ كان شخصية وطنية محترمة، ومؤمناً راسخ الإيمان بالمؤسسات الديمقراطية. غير ان اختلاط ابو التمن بشتى السياسيين القوميين في الماضي اصاب ابو التمن بخيبة امل، ولذلك مال إلى اليسار. ومن هنا كان انضمامه إلى جماعة الأهالي موضع تقدير عالٍ، ثم اصبح زعيم الجماعة. وكان حكمت سليمان عضواً سابقاً في حزب الإخاء ايضاً. ويُذكر انه كان المبادر إلى اجتماعات الصليخ، إلاّ ان اختلافه مع جماعة ياسين- رشيد جاء به هو ايضاً إلى جماعة الأهالي.
توسّعت جماعة الأهالي ابان عامي 1934- 1935 ولو انها اصبحت، وما تزال في حالة تقلّب وتغير متواصل. لكن وصول حزب الإخاء إلى السلطة في آذار 1935 جعل الجماعة تدرك ذاتها وتعمل بنشاط اكبر للوصول إلى السلطة. فشُكلت لجنة تنفيذية تتألف من ابو التمن وحكمت سليمان والجادرجي وحديد وعبد الفتاح ابراهيم. باشرت اللجنة اتصالات بسياسيين كبار السن، لاسيّما اعضاء جمعيات غير سياسية كجمعية مكافحة الأمية. كانت اجتماعات جمعية الأهالي سريّة، وكان الذين يشاركون فيها يُستجوبون ويقسمون على الإخلاص لمبادئ الجماعة قبل قبولهم فيها. ولكن لم تعد الشعبية تُذكر، وكأنها هُجِرت كلياً، واصبح الشعار الرئيس المناداة “بالإصلاحات” عموماً. ولكن كان دائما ثمة جناح يساري اكثر اهمية ضمن الجماعة يتعلق بافكار اكثر راديكالية. وكبار اعضاء هذا الجناح هم عبد القادر اسماعيل و محمد حديد وعبد الفتاح ابراهيم. كان اولهم ماركسياً صريحاً يدافع عن الشيوعية بوضوح وبساطة، فيما اكّد الآخران على مبادئ الشعبية.
عند هذا المنعطف اقترح بعض الأعضاء تحويل جماعة الأهالي إلى حزب سياسي تعترف به الحكومة ودعوا إلى معارضة علنية للنظام القائم عبر القنوات القانونية. عارض الفكرة حكمت سليمان وابو التمن، مفضلين تحشيد القوة عبر الإتصالات الشخصية بالمسؤولين الحكوميين وضباط الجيش، فيما عبّر عبد الفتاح الذي دافع عن فكرة تأسيس حزب سياسي عن عدم موافقته، وهكذا تهرّب من السلطة ساعة اقتراب النصر منسحباً من الجماعة التي عمل من اجلها بكل جد واجتهاد.
واصلت جماعة الأهالي تصعيدها المعارضة عن طريق هجومها العنيف على الحكومة في صحيفتها، غير ان مواجهة هذه الهجمات كانت سهلة عن طريق سيطرة الحكومة الشديدة على الصحافة. وإلى ذلك فان الحكومة قمعت كل عناصر المعارضة بالقوة؛ فقد القي القبض على الشيوعيين، وفُصل الموظفين الحكوميين المشكوك بهم. قدّم بعض السياسيين الليبراليين الأكبر سناً التماسات إلى الملك احتجاجاً على طغيان وزارة ياسين- رشيد، لكنها ذهبت ادراج الرياح.
اقرأ ايضا
مدينة ( القرنة ) في رحلة سيرل بورتر
د . عماد جاسم الموسويتُعدُّ مدينة القرنة من أشهر المدن العراقية البصرية ذات الأهميَّة الكبيرة …