إحسان عباس وأدب السيرة

حسين محمد بافقيه
حينما أصدر احسان عباس كتابه «فن السيرة» عام 1956م كان أول ناقد عربي يقف على أصول هذا الفن وقواعده، وأنبأ ذلك الكتاب عن مقدرة فذة وبصيرة نافذة في الكشف عن جذور فني «السيرة»، و«السيرة الذاتية» في التراث العربي والآداب الاوروبية، من خلال أظهر معالمهما، هنا وهناك، في قراءة تقرن التاريخ والتحليل بقران واحد، وتظهر القديم إلى جانب الحديث، في تلك الحقبة من عمر الثقافة العربية التي بدأ ثلة من الأدباء والساسة الالتفات إلى ذينك الفنين، ولا سيما «السيرة الذاتية» التي ذاع شأنها بعد أن أخرج طه حسين كتابه الشهير «الايام»، فتنادى نفر من الأدباء والصحفيين والساسة إلى تدوين مذكراتهم وسيرهم الذاتية.
ولم تعرف الثقافة العربية الحديثة كتاباً عن «السيرة» قبل كتاب احسان عباس، ولم يكن هناك من اهتمام يذكر بهذا النوع الأدبي، الا ما كان من الفصل الذي خصصه عبدالرحمن بدوي للسيرة الذاتية في كتابه «الموت والعبقرية: 1945م»، والذي أفاد فيه، كثيراً، من نظرات المستشرق الألماني فرنتس روزنتال في هذا الفن لدى المسلمين، والا ما كان من الكتاب الذي أصدره شوقي ضيف عن «الترجمة الشخصية: 1956م»، وان نحا فيه منحى تاريخياً.
ويأتي اهتمام احسان عباس ب «السيرة» في سياق صلته وزميله محمد يوسف نجم على أن يخرجا سلسلة من الكتب التي تعرف بالفنون الأدبية، فاخرج احسان عباس كتابه «فن الشعر: 1953م»، و«فن السيرة: 1956م»، وأخرج محمد يوسف نجم «فن القصة»، و«فن المقالة»، ثم تعاهد الناقدان على أن يخرجا عدداً من أمهات النقد الانجليزي مترجمة إلى العربية، ومن أهمها «النقد الأدبي ومدارسه الحديثة» لستانلي هايمن، بالاشتراك مع نجم (1958 – 1960م)، ومراجعته للترجمة التي أنجزها محمد يوسف نجم لكتاب «مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق» لديفيد ديتسش (1967م).
غير أن اهتمام احسان عباس ب «السيرة» يرجع إلى حقبة قديمة، بل انها ممعنة في القدم، كان ذلك في الصدر الاول من شبابه، ففي عام 1936م وقد كان في السادسة عشرة من عمره، وفي ابان الثورة الفلسطينية التي راح «مختار» قرية «عين غزال» ضحية المنازعات العائلية، فقتل غدراً، وما ان وصل نبأ مقتل «المختار» حتى «خف إلى مكان مقتله بقية أهل البلد صغيراً وكبيراً، وكنت أحد الذين تطوعوا لمشي تلك المسافة الطويلة في أرض وعرة مليئة بالاشواك والقريص. وكان أكثر الناس يبكون وينشجون، وعاد القرويون يحملون جثته إلى القرية، وكنت واحداً من الذين حزنوا كثيراً لفقده، وفاتحت ابنه محمداً لكي يعطيني ما خلفه من مذكرات، لانسج منها سيرة حياته» (غربة الراعي 91).
وفي عام 1946م قصد احسان عباس مصر للدراسة في جامعتها، وكان يحمل مخطوطة ترجمته عن الانجليزية لكتاب «فن الشعر» لأرسطو، ومخطوطة كتابه «أبو حيان التوحيدي»، الذي لم يرّ النور إلا عام 1956م – ثم اخرج كتابه عن «الحسن البصري: 1952م»، وكلا الكتابين ينمان عن وعي مبكر بالسيرة، وبخاصة سير الزهاد والمتمردين، وهو ما كان ينسجم مع أفكاره في تلك الحقبة، جراء الاحداث التي ألمت ببلدة فلسطين.
وحينما حلت نكبة فلسطين عام 1948م كان احسان عباس في أثناء دراسته الجامعية يصحبه زوجه وطفلاه، وكما شردت هذه النكبة مئات الاسر الفلسطينية، كانت قد أنزلت بعشرات من الطلبة الفلسطينيين ألواناً من الضياع والدمار والفاقة، لأنهم وجدوا انفسهم فجأة، دون عائل، وانقطع عنهم ما كان يصلهم من وطنهم السليب، فعاش احسان عباس حقبة سوداء، فقد فيها الوطن، وضاع فيها الأهل الذين هجروا من ديارهم، وبات ملاصقاً للفقر والجوع والمسغبة، في تلك المدة من حياته التي اسماها «حقبة الجوع» التي ساقته إلى الولع ب «سير» الزهاد والجوعى، «وكان كل ذلك التوجه نتاج «حقبة الجوع» التي عشتها في القاهرة، وفيها كنت اداوم قراءة سير الزهاد المسلمين وسير رهبان الصحراء المصرية وأحاول أن أرسم لنفسي منهجاً يمنحني القدرة على مصارعة الجوع أو معرفة الوسائل التي تعين على تحمله». (غربة الراعي 213).
ومن نتاج «حقبة الجوع» هذه، أن اتصل بأستاذه أحمد أمين يقرأ له – وقد عشا بصره – طائفة من الكتب والبحوث والمقالات، وفي سياق «السيرة»، أملى أحمد أمين عليه طرفاً كبيراً من سيرته الذاتية الشهيرة «حياتي» (غربة الراعي 188)، وكان من ثمرة هذه الصحبة ان أنشأ احسان عباس مقالتين عن أستاذه أحمد أمين، احداهما عن كتاب «حياتي»، (مجلة الثقافة، القاهرة، العدد 595، 1950م)، والاخرى «أحمد أمين: طريقته في الكتابة والتأليف» (مجلة الأبحاث، الجامعة الأمريكية في بيروت، العدد 4، 1955م)، وكلتا المقالتين تتصلان اتصالاً ظاهراً بأدب «السيرة الذاتية»، وكان هذان المقالان النقديان توطئة لتوفره، فيما بعد، على اخراج كتابه «فن السيرة: 1956م»، الذي كمنت وراء وضعه له «رغبة ذاتية مخلصة في أن أعرض موضوعاً أحببته وعشت تجارب أصحابه مدة من الزمن». (فن السيرة، ص 4).
وفي سياق الأعمال ذوات الطابع السيري أخرج احسان عباس جملة من المؤلفات والمحققات، وهي «أبو حيان التوحيدي: 1956م»، و«الشريف الرضي: 1956م»، و«بدر شاكر السياب: 1969م»، و«أخبار وتراجم أندلسية: 1963م»، «ونفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب، للمقري: 1968م»، و«الوافي بالوفيات، للصفدي – الجزء السابع – 1968م»، و«وفيات الأعيان، لابن خلكان: 1968 – 1972م»، و«طبقات الفقهاء، لابي اسحاق الشيرازي: 1970م»، و«فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي: 1973 – 1977م»، و«الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، للشنتريني: 1974 – 1979م»، و«معجم الأدباء لياقوت الحموي: 1993م»، «ومعجم العلماء والشعراء الصقليين: 1994م»، إلى أن يصل إلى سيرته الذاتية «غربة الراعي: 1996م». ويذكر رضوان السيد أن احسان عباس اخبره عن سر اهتمامه بكتب التراجم بقوله: «ان النخبة العالمة في عصور الثقافة العربية الزاهرة، كانت تتأمل ذاتها ودورها أو ادوارها، من خلال تدوين التراجم والطبقات، باعتبار ذلك مرآة لها، وتعبيراً عن مرجعيتها في تحمل العلم وتداوله وتوارثه في بيئات مفتوحة، تستند تراتبيتها إلى التطور والانجاز». ويعقب رضوان السيد على ذلك قائلاً: «والواقع ان هذه الفكرة قديمة لدى احسان عباس؛ فقد ظهرت في كتابه الصغير البالغ الدلالة: فن السيرة، سنة 1956م».
وإن كان كتاب «فن السيرة» يضع نفسه في سياق سلسلة أدبية قصد منها تعريف القارئ العربي بالفنون والأنواع الأدبية – فانه – وسائر كتب السلسلة – يتجاوز هذه المهمة، فهو كتاب «تأسيسي» في الثقافة العربية الحديثة، لا يقف عند حدود العرض والترجمة والتلخيص، وانما ينهض بجملة من النظرات النقدية، والتأملات الفلسفية العميقة، التي تجعل منه عملاً نقدياً مهماً حافلاً، على قدمه وريادته التاريخية، بالأفكار الجديدة، وأحسبه لا يقل أهمية عن الكتب النقدية الغربية في هذا الفن، ككتب موروا، وجورج ماي، وفيليب لوجون، وتزداد أهميته في التفاته المعمق إلى جذور «السيرة» و«السيرة الذاتية» في التراث العربي، وقفاته النقدية على أهم نتاج هذين الفنين في الأدب العربي المعاصر، ولا سيما كتب «الأيام» لطه حسين؛ و«عبقريات العقاد؛ و«جبران» لميخائيل نعيمة؛ و«حياتي لأحمد أمين؛ و«حياة الرافعي» لمحمد سعيد العريان.. وسواها.
وضع احسان عباس نصب عينه التوازي بين التاريخ والتحليل، وبرأت دراسته للسيرة من آثار النظرات الاستشرافية التي ذاعت في القرن التاسع عشر، ووجدت، فيما بعد، قبولاً في بعض المحافل العلمية العربية، ومن بينها – في سياق السيرة – ما كتبه عبدالرحمن بدوي في كتابه «الموت والعبقرية» عن «الترجمة الذاتية في العربية» والتي لم يحد فيها عن ذلك التصور «المركزي الغربي» الذي يجعل من «الروح السامي» و«الروح الآري» ضدين لا يلتقيان، ف «الفارق بين الروح السامية والروح الآرية كالفارق بين المخلوط والمزيج في لغة أصحاب الكيمياء. فعناصر الروح الاولى منفصلة عن بعضها البعض، لا تتفاعل ولا يتأثر الواحد منها بالآخر إلابمقدار ضئيل. بينما هي في الروح الثانية مرتبطة كأقوى ما يكون الارتباط، متحدة كأوثق ما يكون الاتحاد. فالزمان بالنسبة إلى الروح الاولى مكون من آنات ولحظات متناثرة ومتنافرة؛ لا تذكر اللاحقة منها السابقة، ولا تشير الحاضرة منها إلى المستقبلة أو لا تكاد. ولكنه عند الروح الآرية كل متصل مستمر، يدعو كل جزء منه الجزء الآخر، ان كان فيه ثمت اجزاء، وبه يهيب. فالماضي مستمر في الحاضر، والمستقبل كامن في هذا الحاضر كذلك، وكأن الزمان كله حاضر مستمر خالد»! (ص 113) وعلى ذلك – فيما يذكر عبدالرحمن بدوي – قامت الترجمة الذاتية لدى «الآريين»، من يونانيين وفرس، وعلى ذلك كان اهتمام «الساميين»، ومنهم العرب، بالترجمة الذاتية نتيجة هذا التأثر ب «الروح الآري»، ولكنه ذلك التأثر الذي لم يخل من «الانفصال» و«الهباء» و«التشظي»!
عن ( الرياض )

اقرأ ايضا

الناقد إحسان عباس بين الإبداع والإمتاع

نبيل خالد الأغاتنوعت الأوصاف والنعوت التي أطلقها الكتّاب والمثقفون والباحثون والشعراء على العالم التراثي الدكتور …