نبيل خالد الأغا
تنوعت الأوصاف والنعوت التي أطلقها الكتّاب والمثقفون والباحثون والشعراء على العالم التراثي الدكتور إحسان عباس (1920-2003م) فهو سادن التراث، وحارس الأدب العربي، والعالم الموسوعي، والعلاّمة النهضوي، وشيخ الباحثين والمحققين، وعميد الأدب العربي الثاني بعد طه حسين إلخ.وأياً كان اختيارك لواحدة أو أكثر من هذه الصفات فقد حَسُن كما يمكنك إضافة صفات إنسانية تعضد بها صفاته العلمية فهو المتواضع، والزاهد، والحييّ، والوفي، والجواد، إلخ.
وقد استطاع هذا العالمُ العَلَمُ إحسان رشيد عباس أن يسجِّل بكل كفاءة واستحقاق اسمه في موسوعة الخالدين العرب في مجالات عديدة: الأدب، التاريخ، التحقيق، النقد، الترجمة، الشعر، وقد ساعده على ذلك بالإضافة إلى خبرته المتعمقة في مجالات الأدب العربي وعيه المبكر بمختلف التيارات الأدبية والنقدية في الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية بشكل عام.
وهذه المزايا أهَّلته ليتبوَّأ مرتبة متقدمة في قوائم الباحثين والنقاد، هذا إضافة إلى تسلُّحه الواعي بقضايا أمته العربية ومعاداته للصهيونية التي ارتكبت أفظع جرائمها بسلب وطنه الفلسطيني، وتدمير أكثر من خمسمئة قرية أزالتها إسرائيل من الوجود، ومن بينها قرية عين غزال التي شهدت شهقة حياته الأولى في العام 1920م.
بداية متواضعة
علامات نبوغه ظهرت دلائلها المبكرة في البيت، ثم في مدرسة القرية المتواضعة التي مكث فيها حتى السنة الثالثة الابتدائية، ونظراً لتفوقه اللافت أرسله والده ليكمل تعليمه في مدينة حيفا وما أدراك ما حيفا في عشرينيات القرن العشرين؟! لقد تركت تلك المدينة الساحلية الصاخبة الفاتنة أثرها في تكوين شخصيته، ففيها تفتحت براعم حياته، وتوهجت رؤاه على مناحي الحياة المختلفة.
وإبان وجوده في مدينة النضالين الديني والسياسي النقيين من شوائب الشعوذة والنفاق تعرف الشاب الملتزم أخلاقياً ووطنياً بقامتين من قامات النضال الإسلامي والفلسطيني: الأولى الشيخ الثائر عز الدين القسام الذي عرفه عباس عن قرب بطلاً من أبطال الجهاد الحقيقي بعقله وبلاغته وساعده، وكان عباس حريصاً على الاستمتاع بخطبه المؤثرة الموقظة للهمم وللعزائم بجامع الاستقلال في حيفا، وكانت تمثِّل البرنامج السياسي لكل فلسطيني آمن بفكر القسام في تنظيم وتدريب المواطنين الراغبين في الجهاد دفاعاً عن وطنهم الذي بدت نذر الشر المتربصة به تلوح في الأفق مبكرة.
وفي إحدى المعارك مع وحدات من الجيش البريطاني استشهد الشيخ المجاهد ذو الأربعة والستين عاماً (سورية 1871 -فلسطين 1935م) فحزن عباس على وفاته، وكان يرى فيه – مثل أي فلسطيني – صورة لكل بطل عروبي وإسلامي.
أما صاحب القامة الفلسطينية الأخرى فهو الشيخ تقي الدين النبهاني (1914-1977م) الذي كان يشغل مهمة التدريس بمدرسة حيفا الثانوية إضافة إلى وعظه بمسجد الاستقلال، وأسس في عام 1953 حزب التحرير الإسلامي، وانبهر عباس بعمق تديُّن أستاذه، واستنفاره في خدمة القضية الفلسطينية فهو يذكي شعلة الوطنية في نفوس طلابه، وينظم صفوفهم، ويدعوهم للثورة على الأجنبي ويجعل ذلك قضيته في حياته لا تعلو عليها قضية أخرى.
انتقل الطالب عباس إلى مدينة عكا التاريخية وحصل فيها على الشهادة الثانوية بتفوق، وانتسب بعدئذ إلى الكلية العربية في القدس وأمضى فيها أربع سنوات (1937-1941م) وحصل على الشهادة المتوسطة التي أهّلته ليصبح معلماً كما هو شأن متخرجي تلك الكلية العريقة.
وتعتبر فترة مكوثه بالكلية من أخصب مراحل حياته الدراسية، فإضافة إلى نظامها الصارم في التدريس والتنظيم ارتبط إحسان فيها بصداقات وارفة الظلال مع شخصيات لها أوزان ثقافية معتبرة أمثال الدكتور ناصر الدين الأسد، جبرا إبراهيم جبرا، محمد يوسف نجم، محمود الغول، وليد عرفات، حلمي سمارة وغيرهم.
وبعد تخرجه في الكلية عمل صاحب السيرة معلماً في مدرسة صفد الثانوية، وخلال إقامته فيها تزوَّج ورزقه الله تعالى فيما بعد بنرمين واياس وأسامة.
وتحققت إحدى أعز أمنياته فحصل عام 1946 على منحة دراسية إلى جامعة فؤاد الأول جامعة القاهرة حالياً، وتخصص في دراسة الأدب العربي وحاز في العام 1949 شهادة الليسانس في اللغة العربية وآدابها بتفوق، لكنه بسبب نكبة فلسطين الكبرى في العام 1948، لم يستطع العودة إلى وطنه، فعمل مدرساً بإحدى المدارس القاهرية، حيث توثقت صلته بأستاذه أحمد أمين صاحب فجر الإسلام، الذي أملى عليه سيرة حياته التي صدرت بعدئذ بعنوان حياتي، ثم تابع دراسته في الجامعة عينها ونال فيها درجة الماجستير عام 1951، وكان عنوان أطروحته حياة الأدب العربي في صقلّية، والصلة واضحة بين اختياره لهذا الموضوع وبين نكبة فلسطين.
وكتب الله تعالى له العمل “بكلية غوردون التذكارية في الخرطوم” ومكث فيها عشر سنوات كاملة تحولت الكلية خلالها إلى “جامعة الخرطوم”، وحاز في أثنائها شهادة الدكتوراه من جامعة القاهرة، وكان عنوان أطروحته “الزهد وأثره في الأدب الأموي».
وخلال فترة مكوثه في السودان أضحى عضواً له قيمته في مجتمع المثقفين السودانيين الذين قدّروه وأحبّوه، وبادلوه وداً بودّ، وساهم بقلمه الماتع في إثراء المطبوعات السودانية، وكتب عن الأدب السوداني في العديد من المطبوعات العربية وبخاصة في بيروت وعمان وعرَّف العرب خارج السودان بما يدور في هذا القُطر العربي من نهضة ثقافية وأدبية، “وكان نجم منتديات الخرطوم الثقافية، وافتتن به الكثيرون من شباب الكتّاب والشعراء أمثال صلاح أحمد إبراهيم وعلي المك»، كما شارك في ضروب مختلفة من النشاطين الأكاديمي والتربوي.
ويروي إحسان عباس أنه بنى في السودان مدرسة من نوع المدارس التي يرغب الأستاذ الجاد المخلص المحترف أن يكوّنها في وقت من حياته، وإذا كان إحسان لا يحمل الجنسية السودانية فإنه في قرارة نفسه يشعر شعوراً خاصاً لا يكاد يفسر بأنه سوداني قلباً وروحا.
ولست أدري حتى اللحظة لماذا لم يحظ عباس فيما بعد بتقدير حقيقي من المثقفين السودانيين؟ ولماذا توارت سنوات عطائه العشر خلف حجب النسيان في وطن مشهود لأهله بالكرم والوفاء والنخوة والطيبة في أبهى صورها؟
بيد أنني قرأت مؤخراً مقالاً للكاتب السوداني كمال علي الزين بعنوان “في محبة إحسان عباس” ذكر فيه أن عباساً تعرض لمضايقات من العلامة البروفيسور عبدالله الطيب زميله في شعبة اللغة العربية، فتمكن من إنهاء خدماته اعتماداً على لائحة جامعية صماء، وقد بذل البعض أمثال نصر الحاج علي وجمال محمد أحمد جهوداً مضنية لإثناء الطيب من هذا القرار المؤسف، وخلص الكاتب للقول صراحة: “لا يخالجني شك في أن السبب وراء هذا القرار هو محض الغيرة الأكاديمية من قبل الطيب.
وانتقل عباس من الخرطوم إلى بيروت، وقضى في العاصمة اللبنانية فترة خصيبة من حياته جنّدها لخدمة الثقافة العربية، ونشر أهم أعماله في تاريخ الأدب العربي ونقده.
وحينما اشتدت وطأة الحرب اللبنانية الأهلية انتقل عباس إلى الأردن وقضى فيها سنواته الأخيرة، وتميزت تلك الفترة كذلك بعطاءاته الثقافية الممتدة، فذاع اسمه وانتشرت أعماله، وارتفعت أسهم إبداعاته.
استثمار الوقت
إن المرء الذي يطالع سيرة هذا المبدع المجلي مستعرضاً نشاطاته الجمة في معظم أنساق الثقافة العربية لا يسعه إلا الانبهار بهذا الجهد الخارق للمألوف، فلقد أوقف حياته لهدف نبيل فحققه بامتياز، ولم يكن لديه متسع من الوقت ليضيعه في علاقات اجتماعية مفرغة من مضامينها الأساسية كما يفعل الكثيرون، بل إن الحضور شبه الدائم فيها لا يخلو من الغيبة والنميمة وما شابههما، أولئك الذين يغتالون أعمارهم وأوقاتهم فيما لا طائل وراءه، بينما نجد الدكتور عباس يستثمر كل يوم بل كل ساعة من حياته استثماراً فعالاً، حتى إنه اهتبل فرصة وجوده في أميركا أستاذاً زائراً في جامعة «برنستون» (1975-1977م) فأنجز كتابيه «الشعر العربي المعاصر»، و»ملامح يونانية في الأدب العربي”.
ولو قارنا إنجازاته في ميادين إبداعاته الكثيرة، وقسمناها على الفترة الزمنية التي عاشها لوجدناه من أوائل المستثمرين العرب لأوقات حيواتهم.
ولقد أوقف استثماراته لخدمة الثقافة والأدب والتراث في عصور أدبية متعددة، وتميز بدقته في اختيار أسلوبه اللغوي السلس المتسم بالعذوبة والجمال، الأمر الذي ييسر على القارئ متابعة قراءته.
يقول الدكتور ماجد أبو ماضي في إحدى دراساته: “إن إحساناً يمتلك أسلوباً لغوياً يتسم بالجمالية، وفيه من السمات والصفات ما هو أهل للدراسة والبحث، فقد كتب في أكثر من علم، ولذلك كان متنوعاً، أخذ من كل علم بطرف،فعباس هو المؤرخ الذي تأمَّل التاريخ وصوّب كتبه، وهو عالم الأدب القديم والحديث، والشاعر المتعمق في الشعر القديم والشعر الحديث، والمترجم لبعض أمهات الأدب الإنكليزي، والمحقق الدقيق، والناقد الضليع، وهو الأستاذ الجامعي المعطاء الحاني على طلابه، الهادف إلى إثراء العقل والروح والنفس الإنسانية.
وقد أثمرت جهوده المضنية عن إصدار ما يربو على ثمانين كتاباً ما بين تحقيق وتأليف وترجمة، وتجوَّل في نصوص التراث العربي فنفض غبارها، وأجلى جواهرها، وأهمل توافهها، وقد شجعته دراساته الأكاديمية على الدخول والنجاح الباهر في هذا المضمار.
مستل من مقال طويل في مجلة ( الدوحة ) بالعنوان نفسه .
اقرأ ايضا
إحسان عباس وأدب السيرة
حسين محمد بافقيهحينما أصدر احسان عباس كتابه «فن السيرة» عام 1956م كان أول ناقد عربي …