في الكاظمية .. علي الوردي في نشأته الاولى

علي طاهر تركي
نشأ علي الوردي وترعرع في بيت صبا ، طلت اعتابه عند زقاق «محلة الشيوخ» ، واشرفت نوافذه الخلفية على «محلة الانباريين» ، وهوأمر مكنه من الاختلاط مع أطفال المحلتين، وبالتالي الاحتكاك والتعرف على عادات وتقاليد واعراف هاتيك المحلتين المتباينة في جوانب والملتقية بأخرى ، وفقاً لأسس النشأة والتكون في أصولها العشائرية وتركيبها السكانية ، فضلاً عما اتسمت به من أنشطة معرفية وحرفية اثرت في تشكيل خصائصها الاجتماعية .
ساعد هذا التنوع بين المحلتين على انماء معرفته الأولية ، ومثلما التمست خطاه الأولى طريقها نحو مراتع الطفولة وملاعب الصبا ، عرجت به الى مجالس الكاظمية الزاخرة بعلمائها وادبائها ومثقفيها من متنورين ومجددين ، فشنفت مسامعه سجالاتها الشعرية ، وداعبت حوارات باحاتها مخيلته ، مستثيرة اياها بسؤال وسؤال ، واستفهام آخر ؟! أثرت في تكوينه المعرفي المبكر الى حد كبير ، وفي توجهاتها الفكرية والعلمية فيما بعد من مسيرته الدراسية والاكاديمية . أثرت فيه قيم الصراع بين المحافظ القديم والمتنور الجديد ، وتفاعل معها تفاعلاً حسياً بدءاً ، وموضوعياً في مراحل تالية من عمره الزمني والاكاديمي ، صراع اتسم في بعض الاحيان بالحدة والعنف بين ما هو تقليدي (جامد) ومتنور (مجدد) ، برزت ملامحه منذ العقد الاول من القرن العشرين ، واتضحت صوره اعقاب الاحتلال البريطاني للبلاد خلال الحرب العالمية الاولى وما تلاها(. وتجسد صراع الرؤى والافكار بين تياري المحافظين والمجددين في ذهنه برمزية الاصطراع بين من سماهم “الملائية” ، ممن ارتكزوا في بنائهم العقائدي والفكري على قيم ومقومات الشرع الاسلامي القويم ، والتراث الانساني والعلمي العربي والاسلامي، واولئك الذين اطلق عليهم بـ”الافندية»( معظمهم من ابناء الفئة المثقفة العراقية الحديثة ، ممن درسوا في المدارس والمعاهد والكليات الحديثة ، وتأثروا بصورة عميقة بالنهضة العلمية والفكرية في اوربا ، لا بل وحتى في مظاهر السلوكية والتحرر في العلاقات العامة المرفوضة بقوة من المجتمع العراقي المحافظ ، مما كان له ابعد الاثر في تأجيج المواجهات بين الطرفين ، لم تخل في احيان غير قليلة من “لمز» و “همز” واتهامات هدفت الى تقليل الشأن في وسط الرأي العام لهذا الطرف أو ذاك .
كما تركت التناقضات بين منشئه الطبيعي – المدني (الكاظمية) ومحيطها العشائري (الريفي) من قيم وعادات وتقاليد وسلوك واعراف ، فضلاً عن انتماءاتها المذهبية، اثرها الفاعل في خوالج نفسه ورؤاه عن المجتمع العراقي ، فهو وعلى حد تعبيره جزء لم يتجزء عما كان سائداً في مجتمعه من قيم اجتماعية او تطورات اقتصادية او ارهاصات سياسية ، ولعل من الجدير بالذكر هنا ان نقتبس فقرة مما صرح به لأحد معاصريه عن ذلك:
« ان كل حادثة حدثت في العراق في تلك الفترة ، سياسية او اجتماعية او اقتصادية او طبيعية ، كان لها اثرها في نفوس الناس ، وافكارهم .. .. وانا كنت أحد هؤلاء الناس أفكر كما يفكرون» .
بدأت رحلته الشاقة في مضمار الدرس والتعلم مع نهاية الحرب العالمية الاولى ، وهو ابن خمس سنوات ، معتمراً عمامة خضراء دلالة نسبه الشريف الى البيت العلوي ، حيث درس مبادئ القراءة والكتابة وشيء من الحساب ، الى جانب حفظه للقرآن الكريم ، في احدى (كتاتيب) الكاظمية في مسجد قرب دار أبيه .
استكمل بعد ذلك دراسته في احدى مدارس الكاظمية ، على الرغم من نظرة الريبة والازدراء من المجتمع المتخلف ازاء المدارس الحديثة أو كما اطلقوا عليها يومئذ بـ»المكتب” ، وهي نظرة من مخلفات العهد العثماني ، تركت اثرها الفاعل في عزوف العديد من ابناء المدن عن ارسال اولادهم الى المدارس .
لم يستكمل علي الوردي دراسته في المرحلة الابتدائية ، اذ اخرج من المدرسة في عام 1927 وهو في الصف الاخير من دراسته ، وزج به في دكان احد أقربائه ، ليتعلم عنده، وعلى حد تعبيره ، (فن العطارة) من بيع وشراء ، لقاء أجر شهري قوامه خمس ربيات فقط، بيد ان هذا التغيير المفاجئ والطارئ في مساره التعليمي لم يرقه ولم ينسجم معه ، اذ وجد نفسه غريباً في وسط (العطارة) ، وما يتعلق بها من معاملات التسوق وتعاملات زبائنه.
فلا غرو اذ نجده مقتنصاً كل فرصة سانحة لولوج عالمه الخاص ، حيث المطالعة وقراءة الكتب داخل دكان العطار ، وهو أمر قوبل بالرفض والاستهجان من رب العمل ، مشدداً على ضرورة الاهتمام بأصول المهنة من إغراء وجلب للزبائن ، محذراً إياه في الوقت نفسه من مغبة التقاعس عن العمل ، والتوجه ، وعلى حد تعبيره ، نحو “قراءة لا تغني ولا تسمن»، متوعداً أياه بالطرد من العمل إذا استمر في نهجه هذا .
ضاق ذرعاً به صاحب الدكان ، فقرر الاستغناء عن خدماته ، فتنفس الوردي الصعداء لحرية طال انتظارها لسنوات خمس . ناءت بأوزارها عليه الى حد وصفها بـ”أبشع فترة» في حياته ، بل و»مرارة لا حد لها» ، لاسيما انها وقعت وهو في خضم سني المراهقة وريعان الشباب ، مما زاد من معاناته وتأثره في هذه المرحلة الحرجة من عمره معاناة اضافية اثرت في تكوينه الشخصي تأثيراً كبيراً ، اكده وبصورة لا لبس فيها في احدى لقاءاته الصحفية اذ جاء فيها ما نصه :
« لقد أمضيت في مهنة العطارة نحو خمس سنوات ، وكانت تلك أبشع فترة في حياتي .. وكنت في تلك الفترة اجتاز مرحلة المراهقة والبلوغ ، وهي مرحلة ذات أهمية بالغة في نمو شخصية الانسان ، ولعلني لا أغالي اذا قلت بأن شخصيتي نمت على أساس من المرارة لا حد لها “ .
اصطدم داخله التواق في الرجوع الى فصول الدراسة ومتابعة تعليمه برغبة أسرته العارمة في ضرورة ممارسة عمل يتكسب منه ويعيله في أمور دنياه ، وهوأمر أضطره على مضض ان يعود الى مهنة العطارة ، ولكن هذه المرة افتتح دكانه الخاص به ، فجمع بين المهنة والرغبة العارمة في القراءة ، بل ووجد متسعاً لكتابة اولى مقالاته في موضوعات متنوعة ، أرسل العديد الى مختلف الصحف والمجلات البغدادية يومئذ ، متأثراً بما طالعه في هذه المدة من مقالات واخبار تناولتها الصحف والمجلات المصرية والشامية ، وحازت على اهتمامه الكبير «الهلال» و «المقتطف» و “الرسالة” و “الثقافة” ، بيد ان مقالاته تلك لم تلق اهتماماً من الصحافة العراقية ، ولم يجد الكثير منها طريقه للنشر.
استمر على هذا المنوال بين القراءة والكتابة ، حتى جاءت انعطافه تاريخية مهمة في حياته وذلك خريف عام 1931 ، تلك الانعطافة المتمثلة في عودته الى مقاعد الدراسة مرة اخرى ، عندما علم يوماً بافتتاح مدرسة ابتدائية مسائية في الكاظمية ، عندها قرر التسجيل فيها والانضمام الى فصولها الدراسية وملؤه حماسة وشغف بحب العلم ، ترجمه الى تفوق في الدراسة ، اهله الى استكمال دراسته الاولية في مرحلة المتوسطة ، فانتقل للدراسة في “متوسطة الكرخ» ، تاركاً دكانه ومهنة العطارة دونما رجعة ، مستثمراً أرباحه فيها في الانفاق على دراسته التي عدها تطوراً “ذا أهمية كبيرة» في حياته .
شكلت مرحلة دراسته في المتوسطة والانتقال الى الكرخ ، تغييراً كبيراً اثر في تكوينه الشخصي ، ليس أقله الانتقال من زي (الملائية) الى البنطال والسترة والسدارة زي (الافندية)، انتقال حمل في طياته معنى ومعنى ، فهو ليس تغيير ملابس فحسب كما عدها الوردي نفسه ، بل تغيير رؤى وافكار ، كانت تصطدم مع واقع متخلف ، تمسك وسط حيوي من ناسه بكل ما هو قديم تقليدي رافض لكل مظهر من مظاهر التغيير والتجديد(.
فلا مراء اذ نجد الوردي في ذهابه وايابه الى المدرسة ، قد سلك مساراً عبر الازقة والطرقات الضيقة في الكاظمية ، تجنباً لما كانت ترمقه بعض اعين العامة من نظرات امتعاض واستهجان لارتدائه زي الافندية غير المقبول في وسطها ، بل ان البعض عدّ ارتداءه بيع (الدين بالدنيا) ، ومفسدة للسلوك القويم وابتعاداً عن الاخلاق الحميدة .
لم تهن همته او تلن عريكته على الرغم من المعوقات والمعاناة الملاحقة لمسيرته الدراسية ، أذ كانت تزيده اصراراً وعزماً ، و لم يقنع طول سني دراسته في المرحلة المتوسطة دون الحصول على المرتبة الاولى بين اقرانه من التلاميذ ، متوجاً هذا التفوق بإحرازه المرتبة الأولى على عموم العراق في الامتحانات العامة (البكلوريا) صيف عام 1935 ، فكانت النتيجة مدعاة فخر وابتهاج استاذه المدرس ، وهو ما اثر في دفع مدير المدرسة الى تقديم توصية الى وزارة المعارف (التربية) ، لمنح الطالب المتفوق اعانة مالية شهرية تعينه على استكمال دراسته في المرحلة الاعدادية ، فوافقت الوزارة على منحه ديناراً ونصف شهرياً ، وهو امر لم يستمر طويلاً، اذ سرعان ما انقطعت عنه المنحة ، وحولت الى طالب اخر بسبب المحسوبية والمنسوبية ، التي طالما عانت منها البلاد والعباد معاناة كبيرة ، فترك ذلك اثراً عميقاً في نفسه لازمه الى أواخر حياته .
عن رسالة ( علي الوردي وجهوده الفكرية واراؤه الاصلاحية )

اقرأ ايضا

مدينة الناصرية .. قصة تأسيسها الأول..كيف جرى الاتفاق بين مدحت باشا وناصر باشا السعدون ؟

حسن علي خلفإذا كانت العوامل الأفقية لبناء المدينة .. أي مدينة .. تعطي أشارات بيّنة …