إبراهيم العريس
من المؤكد أن ابن الرابعة والعشرين الذي قيّض له أن يحقق فيلمه الروائي الطويل الأول في سن يكون فيها أصحابها لا يزالون على مقاعد الدراسة, لم يكن ليخطر في باله أنه بعد نحو خمسين عاما على لحظة عرض (بابا أمين) سوف يقف في قاعة أهم مهرجان سينمائي في العالم. لم يكن هذا ليخطر في باله كواقع ممكن لكنه خطر له بالتأكيد كحلم. فيوسف شاهين الذي كان عاد لتوه من كاليفورنيا بعد أن درس الفن الدرامي. والذي أوصلته الصدفة إلى الوقوف لأول مرة وراء الكاميرا صارخاً: (أكشن) كان منذ وعى الدنيا ورغباته الفنية, يريد أن يكون شيئاً ما. وهذا, على الأقل, ما علمته إياه طفولته الإسكندرانية.
من هنا لم يكن من قبيل الصدفة, أن يجعل الحلم عماد فيلمه الأول, والحلم هنا يوازي السينما, الحلم والسينما أمران هما لدى شاهين أمر واحد تقريبا. صحيح أن الواقع المتجسد في معظم أفلامه التي حققت على مدار أكثر من نصف قرن, لم تسمح للأحلام بأن تكون طاغية في أفلامه. بل إن الخيبة دون تحقق الحلم سوف تلغى بالأحرى, ومع هذا ثمة في قرارة نفس كل شخصية من شخصياته حلم ما. وغالبا ما يكون الحلم تحررا أو تقدما أو معرفة, أو الثلاثة معا مادامت هذه الأقانيم الثلاثة ستكون موحدة لدى شاهين.
وهكذا, إذا كان الموضوع الأساس لفيلمه الأول (بابا أمين) موضوعا اجتماعيا عائليا يطاول جانبا من جوانب محاولة الطبقة الوسطى الخروج من مكانتها إلى مكانة أعلى عن طريق تحسين الظروف المادية, وفشلها في ذلك, فإن المهم في هذا الفيلم لم يكن هذا الجانب, مادام جزء كبير من الأفلام المصرية التي كثر تحقيقها خلال السنوات التالية مباشرة للحرب العالمية الثانية, كانت تغوص في هذا الموضوع. والحال أن المتفرجين كان يروقهم ذلك الصعود الاجتماعي الذي يرونه أمامهم على الشاشة يتحقق إما عن طريق زواج الفقيرة بالغني, أو عن طريق ثروة تصل بشكل مفاجئ, ذلك أن الثروات التي حققتها بعض الفئات خلال الحرب, وسمحت بأن يطلق على أصحابها اسم (أثرياء الحرب) جعلت الناس يشعرون بأن من الممكن قلب الدينامية الاجتماعية عن طريق ثروات تحقق بشكل غيبي. وكان هذا الموضوع سائدا ومطلوبا, فإن لم نحقق الثراء في الواقع, فلنحققه في الخيال, على الشاشة ولنتماه مع محققيه في أحلامنا, وكان من الواضح أن شاهين إذا انطلق من هذه الفكرة, فإنه لم ينطلق منها إلا لكي يدمرها مبديا منذ البداية تلك المشاكسة التي ستظل تطبعه حتى اليوم.
لكنه لم ينسف الفكرة بشكل فظ ومباشر, بل بأسلوبه الموارب, وتحديدا عن طريق تحويل الشاشة أمام أعين المتفرجين إلى مكان للحلم. ولكن هل كان الحلم حلما حقيقيا, أم كان أشبه بلعبة السينما داخل السينما? اليوم بعد نصف قرن وأكثر بات يمكننا عن طريق وعينا بشاهين وسينماه, وفكره الدائم أن نطرح هذا السؤال. ولكن قبل ذلك قد يكون من الأفضل أن ننقل عن الناقد علي أبو شادي, في مقال لاحق كتبه عن (بابا أمين) تصويره للسينما التي كانت سائدة في ذلك الحين, والأسلوب الذي قرر شاهين من خلاله قول مشاكسته وإيمانه بالحلم/ السينما في آن واحد. فبالنسبة إلى أبو شادي (كانت السينما المصرية تمر, بعد الحرب العالمية الثانية بحالة ازدهار كاذب, بسبب إقدام رءوس أموال كثيرة على الدخول في عمليات الإنتاج السينمائي, فتزايد عدد الأفلام المنتجة سنويا من 15 فيلما (عام 1943) و23 فيلما (عام 1944) إلى ما يزيد على أربعين فيلما سنويا, حتى بلغ 55 فيلما عام 1947), والأهم من هذا, في رأي أبو شادي هو أن الأفلام (أصبحت تصنع لإرضاء كل الأذواق, وبات الفيلم أقرب إلى الوجبة الكاملة, المشبعة (…) وتسيدت الدراما الغارقة في الدموع والهزليات التافهة والاستعراضات المكدسة بالراقصات شبه العرايا, وتوارت الأعمال الجادة وضاق هامشها). وكان شاهين منذ بدايته توّاقا, إذن, إلى رفض كل هذه الأنواع من السينما, هو الذي كان يقول (لو كان هذا, حقا ما يريده الجمهور فإنني أفضل الموت جوعا..). وهكذا في ضوء هذا الواقع والرغبة في السير على عكس تياره, كانت مغامرة شاهين الأولى.
لقد روى شاهين مرارا وتكرارا, أنه حين عاد من كاليفورنيا, كان في جعبته سيناريو مقتبس عن فيلم أمريكي يريد تحقيقه ويريد له أن يكون فيلمه الأول, ولو فقط لأنه سينمائيا, كان يحمل في طياته كل ما تحمله نظرته إلى السينما كما سنرى حين نقارب هذا الفيلم. المهم أن أيا من المنتجين الذين عرض المشروع عليهم, لم يرغب في إنتاجه, وهكذا نراه يضطر إلى العمل مساعد مخرج في فيلم عنوانه (امرأة منانا) كان يحققه مخرج يدعى فرنيشو (او شيء من هذا القبيل). ويكون العمل في هذا الفيلم جوازه للدخول إلى المهنة. ويصدف في ذلك الحين أن يعتذر مخرج معروف عن العمل في مشروع معين مع شركة إنتاج, فيقترح المصور الإيطالي العامل في مصر اسم شاهين لكي يحقق فيلما مكانه. وإذ يقترح شاهين مشروعه الأثير الذي يسميه (ابن النيل), يرفض المنتجون فيقدم لهم مشروعا بديلا, هو الذي سيكون فيلمه الأول, وهو مستوحى أصلا من مسرحية أمريكية سيقول شاهين لاحقا إن ما لفته فيها هو التشابه الكبير بين الشخصية الرئيسية فيها, وهي شخصية محام, وشخصية أبيه. والحال أن هذا الحضور الموارب لشاهين, عن طريق أبيه, في سينماه, سوف يكون (قيمة) حاضرة في العديد من أفلامه. ومن هنا لم يكن هدفه أن يبدأ الحضور منذ ذلك الفيلم المبكر. وهكذا, منذ الفيلم الأول, عرف المخرج الشاب كيف يمرر سيرته الذاتية المواربة, وحبه للسينما, وتفاعله مع فكرة الحلم, في فيلم له – عند القراءة الأولى – طابع الكوميديا المقبولة, عادة, من المتفرجين.
وموضوع (بابا أمين) بسيط: إنه عن رب عائلة ينتمي إلى الطبقة الوسطى القاهرية ويعيش منذ البداية حياة هادئة, وسط عائلة محبة تتألف من الأم (زهيرة) والابنة الشابة (هدى) والطفل (نبيل), ويضاف إلى العائلة بين الحين والآخر الابنة الأخرى سامية المتزوجة التي تزورهم من حين لآخر. إن المشاهد الأولى في الفيلم تنقل إلينا عبر كاميرا متواطئة, وشديدة الحركة في تعبيرها عن دينامية هذه الحياة العائلية, الجو العائلي الذي لا يبدو في حاجة إلى خضة قوية. ولكن الذي يحدث هو أن الأب (حسين رياض) يُغوى من قبل صديق له هو مبروك أفندي بأن يوظف الستمائة جنيه التي كان اقتصدها, في مشروع يقول له مبروك إنه سوف يدر عليه ربحا كبيرا. والمشكلة أن أمين, الأب, يتصرف من دون أن يشرك أسرته في قراره, ومن دون أن يعلم أحد عن الأمر شيئاً. لاحقا, بعد فترة, وفي خضم الاستعداد الرمضاني للاحتفال بعيد الفطر تتراكم طلبات الأسرة على أمين, لكنه يعجز عن تلبيتها, لأن مبروك أفندي اختفى وطارت معه الأموال المدخرة. وإذ تزداد عصبية بابا أمين وتتغير معاملته لأسرته, وسط صيامه وقلقه على المال وخوفه من عجزه عن الاستجابة لما تطلب الأسرة, يأتيه الطبيب ليحذره من العاقبة. وإثر ذلك يشعر أمين بأوجاع في صدره, ثم نراه راقدا على سريره كالميت. وبالفعل يوحي لنا المشهد هنا بأنه مات فعلا, لأنه إذ يخرج فوق السرير من جسده, يلتقي أباه الذي يخبره أنه انضم إليه في الآخرة. وهذا ما يتيح لبابا أمين أن يجلس مراقبا ما حلّ بأسرته بعد رحيله وبعدما أضاع الثروة التي كان يمكن للعائلة أن تعيش بفضلها من بعده.
وهكذا إذ يتجول شبحه بين أفراد أسرته يلاحظ أن الأم, زوجته, تحولت إلى الخياطة لكي تعثر على المال اللازم لعيش أولادها,وابنه نبيل يبيع كلبه الحبيب, والطامة الكبرى أن ابنته هدى (فاتن حمامة) إذ تزعم أمام أمها وأخيها أنها تعمل ممرضة, تصبح في الحقيقة مغنية في ملهى يملكه رشدي زوج شقيقتها سامية. وهذا الأخير, كما يلاحظ شبح بابا أمين, ينطلق مغوياً هدى ناسيا سامية.. وتتعقد الأمور, إذ تُخدر هدى, وتكاد تسقط لولا أن علي, الذي يحبها, يعود فجأة من الإسكندرية وينقذها مما هو أسوأ. وهنا يفيق بابا أمين من حلمه, فهو في الحقيقة لم يمت بل كان يحلم. وإذ يفيق مرعوبا من حلمه. يجد أن عليه من الآن وصاعدا أن يتروى في قراراته ولا يتهور, لأنه بهذا قد يدمر حياته وحياة أسرته.
سيرة ذاتية, مواربة إلى حد كبير أيضا, هي تلك التي تكمن في خلفية الفيلم التالي لشاهين, (ابن النيل), وللوهلة الأولى قد يبدو (ابن النيل) مختلفا كليا عن (بابا أمين), خاصة أن كلا من الفيلمين مستوحى, قليلا أو كثيرا, من نص أمريكي الأصل. ولكن هذا الاختلاف وهمي ذلك أن شاهين, وكما سوف يكون دأبه, دائما, وحتى حين يتعامل مع شخصيات تاريخية مثل بونابرت أو ابن رشد, عرف هنا, وباكراً, كيف يستخدم المواضيع لقول ما هو ذاتي وخاص وحميم لديه. فنحن لو فككنا هنا (بابا أمين) و(ابن النيل) محاولين أن نقارن بين الفيلمين في أعماقهما فسوف نجد الإطار الموضوعي نفسه: إن النظرة الملقاة على العالم هي في (بابا أمين) نظرة الصبي نبيل, وهي هنا مزيج من نظرة الفلاح. وإذا أبدلنا حلم أمين بحلم المدينة لدى هذا الفلاح, والخيبة أمام الحلمين, ووصلنا حتى إلى ما يقترب من نهاية كل من الفيلمين حيث تتم عملية إنقاذ عجائبية (إنقاذ هدى على يد علي في (بابا أمين) وإنقاذ ابن الفلاح على يد أبيه في (ابن النيل)), لندنو أخيرا من فكرة الاقتناع بما نعيش فيه بدلا من التطلع إلى ما يتجاوزنا – وهي الفكرة الوعظية, الساذجة, المشتركة – سيمكننا أن نفترض أن شاهين ظل عند (القيمة) نفسها.
فما لدينا في (ابن النيل) هو طفل يمضي وقته وهو يراقب القطارات تعبر قريته الريفية متوجهة إلى القاهرة (المدينة, التسلق الاجتماعي) – تماما مثل نبيل الحالم بالحصول على دراجة في (بابا أمين). وهذا الطفل إذ يكبر لا يفارق نظرته الطفولية إلى الحياة. وحين يتزوج بضغط قسري من أبيه, يظل يتعامل مع الحياة تعامل الطفل. ولاحقا حين يخيَّل إليه أن زوجته تحتضر, يجد الفرصة سانحة لتحقيق حلم طفولته فيرحل إلى المدينة راكضا وراء سرابها. وهنا, دون أن يفارق شاهين نظرة فلاحه الطفل البريئة, يتجول معه في المدينة – الموازية لحلم الثراء في (بابا أمين) – ويعرضه لكل ما يمكن لبريء أن يتعرض له في المدينة: تخدعه الحياة الليلية والمرأة اللعوب وعصابة المهربين, فيضيع, حتى من دون أن يفقد براءته, ويرمى في السجن.
وأخيرا حين يخرج من سجنه – الذي يكاد يوازي هنا (موت) بابا أمين – يعود إلى قريته خائبا, ليصل إلى الريف فإذا بالنيل طائف, ويهرع لتخليص ولد من الغرق سرعان ما يكتشف أنه ابنه, ويجتمع مرة أخرى بزوجته التي كانت قد شفيت بأعجوبة, مكتشفاً من جديد جمال الحياة العائلية وهدوء الريف!
فهل حقا أراد شاهين هنا أن يوازن بين فضائل الريف وفسق المدينة وبؤسها وقسوتها على الناس البسطاء? في قراءة أولى يبدو الأمر هكذا. وهكذا على أي حال فُهم هذا الفيلم من قبل الكثيرين.
وهو يفهم هكذا على أي حال, إذا ما سلخ عن متن السينما الشاهينية نفسه. ومع هذا فإن قراءة لـ (ابن النيل) أكثر عمقا, قراءة تموضعه في سياق المتن الشاهيني ستضعنا أمام فيلم أسود تماما, وليس همه الأول أن يتغنى بالريف, ولا أن يفضح سواد المدينة. فالحال أن الريف الذي يقدمه إلينا شاهين هنا ليس ريفا مثاليا وهو سوف يؤكد على لا مثالية الريف هذه, لاحقا, في (الأرض) كما في عدة أعمال أخرى.
بل ليس هذا ما يهم شاهين هنا, ففي هذا الفيلم الذي يزاوج بين أسلوبي الواقعية الجديدة (من خلال شخصية بطله, وفي مشاهد الريف التي تشغل القسم الأول من الفيلم أو بأسلوب يقترب من (الأرض تهتز) لفيسكونتي) وأسلوب الفيلم الأسود, حيث الليل والمدينة والمرأة الفاسقة والجريمة, في هذا الفيلم نجد أن ما يربط بين العالمين وبالتالي بين الأسلوبين, إنما هو نظرة البطل المستقلة عن المكانين والمنتمية دائما إلى حلمها الخاص.
فإذا كان حلم البطل بالمدينة قد فشل, فليس هذا لأن المدينة هي الشر المطلق, ولا تعني عودته إلى الريف العودة إلى الخير المطلق. المهم هنا بالنسبة إلى شاهين خيبة الحلم, وإخفاق الحلول العجائبية التي يحاول المرء أن يحصل عليها من فوق, في محاولة منه لتحقيق حلم التغيير في حياته (بابا أمين عن طريق توظيف مدخراته في مشروع لا ينتمي إليه أصلا, وبطل (ابن النيل) عن طريق الانتقال المباغت من الريف إلى المدينة).
وفي هذا أولا ترانا هنا أمام الأحلام التي سوف تنزرع لدى شخصيات (عودة الابن الضال) حين ينتظر كل منهم عودة علي من سجنه, لكي يساعدهم هذا على تحقيق أحلامهم, إن علي هو الحل العجائبي الذي يُنتظر بلهفة, وهو خيب الحلم في الوقت نفسه.
إن هذا الربط بين علي في (عودة الابن الضال) وحلم الثروة وحلم المدينة في (بابا أمين) و(ابن النيل) قد يبدو تعسفياً.. ولكنه سيبدو منطقيا لو قرأناه انطلاقا من فكرة تتعلق بوحدة الرؤية الشاهينية. في أفلامه الجدية على الأقل, ونحن نعتقد أن توضيحنا لهذا الأمرمنذ البداية هنا هو الذي سيكون من شأنه أن يحدد الوجهة التي سوف تتخذها فرضياتنا في هذه القراءة – التي نتطلع إلى أن تكون مختلفة – لسينما شاهين.
ذلك أننا نرى في (ابن النيل) كناية عن السينما أيضا, إذ ثمة ما يغرينا بأن نتصور أن كل المشاهد التي تدور في المدينة والتي غالبا ما تكون ليلية ومنظورا إليها في وجهة نظر بطل الفيلم الريفي ذي النظرة الطفولية التي إذ ترى انبهارها بكل ما تراه, تعجز عن رؤية ما يحدث لها. إنها نظرة, يعميها إبهار أضواء المدينة, فلا تدرك أنها إنما دخلت وكر العنكبوت الليلي هذا, لتضيع, ليس لأن وكر العنكبوت هو مكان الضياع, بل فقط لأن على المرء أن يكون واعيا وهو يدخله. المشكلة هنا ليست في المدينة, بل في نظرتنا الساذجة إليها, تماما كما أن المشكلة في (بابا أمين) ليست في الثروة, بل أسلوبنا في الدنو منها.
فهل علينا أن نستطرد هنا ونستبق مسألة المعرفة والأجنبي والسيرة الذاتية والثورة.. وكل تلك الموضوعات التي سوف تملأ لاحقا أفلام شاهين?
بين (ابن النيل) و(باب الحديد) حقق شاهين ثمانية أفلام, متنوعة الأساليب والاتجاهات. في بعضها غاص في الميلودراما, وفي بعضها الآخر كشف عن مواهبه في صنع الأفلام الكوميدية. أما في الشرائط الأساسية منها, فإنه دنا من القضايا الاجتماعية. وفي الأحوال كافة, كان يجرب في مجال اللغة السينمائية, ساعيا جهده لتركيز لغته هذه والوصول إلى أسلوب متميز. وهو في خضم ذلك كله ابتدأ باكتشاف إمكانية أن يكون السينمائي المصري عالميا, بمعنى أن يعرض أفلامه في المهرجانات ويدفع (الأجانب) إلى الحديث عنها, أملا في طريقه أن ينال الجوائز. وهو عن طريق تلك المساعي وصل إلى (كان) وإلى (البندقية) كما إلى (برلين) وهي كلها مهرجانات كانت محط أبصار السينمائيين في شتى أنحاء العالم. لكن عدم فوزه في أي من تلك المهرجانات وبأي من الأفلام التي حققها وكانت (تستحق ذلك الفوز) أثار عنده إحباطا.
ولكن خلال تلك السنوات نفسها كانت الثورة قد قامت (يوليو 1952) وبدأت تتبدل أمور عديدة في مصر ولاسيما على الصعيد الاجتماعي.وما كان يمكن لحساسية فنان من طينة يوسف شاهين إلا أن تدرك تلك المتغيرات. ومن هنا لم يكن غريبا أن يكون أول فيلم يحققه, بعد أن استُوعِبَتْ التغيرات الثورية وأبعادها السياسية والاجتماعية, فيلما يدنو من مسائل الصراع الطبقي ويدخل شاهين مباشرة في معترك القضايا. وهذا الفيلم هو (صراع في الوادي) الذي جاء بعده ثلاثة نتاجات حائرة المعنى والمبنى, لكنها متماسكة سينمائيا, وهي (المهرج الكبير) و(سيدة القطار) و(نساء بلا رجال). وهو من بعد (صراع في الوادي), عاد إلى سيرته نفسها فحقق (شيطان الصحراء), ليعود إلى تميزه في (صراع في الميناء), قبل أن يغوص في الكوميديا الموسيقية عبر فيلمين من بطولة وإنتاج فريد الأطرش, هما (ودعت حبك) و(انت حبيبي).
صحيح أننا سنعود إلى هذه الأفلام جميعا, بعد أن نقوم بالقفزة الزمنية لنتناول (باب الحديد) ومع هذا قد يجدر بنا أن نتساءل هنا: ما هو القاسم المشترك بين كل تلك الأفلام التي تفصل بين (ابن النيل) و(باب الحديد)? ربما هناك قواسم مشتركة عديدة, ولكن يمكن هنا التوقف عند واحد أساسي, وهو أنها جميعا تسعى جاهدة للبقاء خارج أبواب المدينة. بعيدا عن القاهرة. ترى أفلم يصور لنا شاهين في (ابن النيل) حذره من المدينة وليلها? وألم تحترق المدينة نفسها (القاهرة) بعد ثلاثة أيام من بدء عرض (ابن النيل) في صالاتها? وألم يفضل شاهين دائما الميناء والريف والصحراء والوادي و(المدن) الغامضة الهلامية التي لا نساء فيها (وكل هذا مستقى بالطبع حتى من عناوين أفلامه) على المدينة ودهاليزها?
حسنا. وها هو الآن حين يدنو في فيلمه الجديد, والعاشر, (باب الحديد) من المدينة/ الحلم: القاهرة, يحرص على أن يبقى عند مدخلها, عند محطة السكة الحديد الرئيسية فيها, غير راغب في الدخول إليها.
والحال أن محطة باب الحديد, تلعب في هذا الفيلم الدور نفسه الذي يلعبه الحلم في (بابا أمين) والدور الذي تلعبه الحياة اليومية للمدينة/ الحلم – أو الكابوس إذا شئتم – في (ابن النيل): إنه المشهد. حيز المشهد. وأرض اللامكان, أي العبور المستحيل إلى عالم آخر. واللافت هنا أنه إذا كان شاهين قد تبدى بريختيا – بشكل غير مقصود – في (بابا أمين) من حيث توعيتنا, عن طريق مبدأ التغريب, إلى أنه يتوجب علينا عدم الوقوع في لعبة الإيهام بالواقع, من خلال تعليقاته – كمتفرِّج متفرَّج عليه – على فن السينما, ودفعنا لأن ندرك في النهاية أن ما هو أمامنا إنما هو حلم, فإنه في (باب الحديد) ومن دون أن يسلك أسلوبا خطيا, يضعنا في قلب واحد من الأسس الأرسطية التي تمرد عليها بريخت طويلا: وحدة الزمان والمكان في العمل الفني.
غير أن هذا نفسه يبدو خدّاعا هنا. لأنه إطار للحدث لا غير. أما الحدث نفسه فمزدوج: إنه ما يدور في قلب هذا العالم الصغير الذي تشكله السكة الحديدية من جهة, وما يدور في داخل قناوي, (البطل) الحقيقي للفيلم ومبرر وجوده من ناحية ثانية.
إذن, هنا مرة أخرى نجدنا أمام ذلك التقسيم بين بعدين: بعد العالم الداخلي, وبعد العالم الذي يتأمله الشخص المحوري في الفيلم. ومرة أخرى يبدو أسلوب شاهين نوع من المزج بين التسجيلي والخيالي: في (بابا أمين) قدمت لنا الحياة العائلية في لغة تسجيلية دينامية, وقفت بالتعارض مع الأسلوب الذي قدم إلينا فيه حلم بابا أمين (منطلقا من الإخفاق في الحصول على الثروة), وفي (ابن النيل) قدمت لنا حياة الريف, من وجهة نظر شخصية الفيلم الأساسية, بأسلوب واقعي يكاد يكون وثائقيا. أما المدينة فقدمت في لغة الحلم والليل المنتزعة من قلب لغة الفيلم الأسود الأمريكي, أي بصورة غير واقعية تماما (في انطلاق من الإخفاق في تحقيق حلم المدينة). والآن ها هو شاهين يقدم لنا عالم فيلم (باب الحديد) من ناحية وثائقيا واقعيا تتجول كاميراه بشكل يرصد حياة هذا المجتمع الصغير, الذي هو في نهاية الأمر كناية عن العالم الكبير, في الوقت نفسه الذي تجول فيه الكاميرا داخل أحاسيس وإحباطات قناوي الذي يعيش على هامش هذا العالم, وداخله في الوقت نفسه, ملاحقا, بالتخيل وبالتلصص وبالأمل, حلم المرأة (هنومة – هند رستم – هنا). وكما أخفق حلم الثروة في (بابا أمين) وحلم المدينة في (ابن النيل) ها هو حلم المرأة سيخفق في (باب الحديد).
· عن مجلة العربي
اقرأ ايضا
فنانون عراقيون يستذكرون المخرج المصري يوسف شاهين
قحطان جاسم جوادزار شاهين – العراق أكثر من مرة وقدم أفلامه هدية إلى مؤسسة السينما …