صنع الله إبراهيم: الفقدان الذي طوى زمن التوهّج والخيبة

فخري كريم
هو نسيجُ نفسه؛ إذ تجمّعت فيه فرادةٌ إبداعية ابتكرت سرديّةً خاصة منذ “تلك الرائحة”، وسيرةُ حياةٍ إختزلت مرحلةً ملتبسة إنتهت بإنطفاء الأمل وخيبة جيلٍ تلاشى معه حلم “الجنّة على الأرض”.
تأخّر لقائي به مرات، مرّةً لإنشغال كلٍّ منّا بالملاحقة والإعتقال والعمل السري، وقد أمضى خمس سنوات في “سجن الواحات”، قرينِ “نقرة السلمان” الصحراوي في قسوته الرمزية، كما كان “قصر النهاية” البعثي قرينًا في بشاعة التعذيب وامتهان الكرامة وتجريد الإنسان من أدنى القيم. رأى هو ورفاقه في نهوض الحركة الشعبية في العراق بعد ثورة 14 تموز مبعثًا لأملٍ يعيد رفد حركة التحرّر الوطني التي دشّنتها ثورة يوليو في مصر بقوة استنهاضٍ جديدة، وينقل التوجّه الوحدوي إلى مسارٍ أرسخ تمثيلًا لتطلّعات الشعوب إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، مع وعيٍ بتفاوت التطوّر بين الأقطار العربية.
ولأسبابٍ شتّى – وفيها ما يتّصل بتباينات السياسة الرسمية وما يُستَلّ منها من موانع – فاتتني فرصٌ كثيرة للقائه، كما فاتتني لقاءاتٌ مع رموزٍ كبار في الثقافة والفكر والإبداع والنضال بمصر، جاء اللقاءُ الأوّل في احتفالية مئوية الجواهري عام 2000 التي نظّمتها “المدى” في كردستان العراق، وشارك فيها مبدعون من مصر وسورية ولبنان والكويت وسواها. هناك بدا صنع الله على الصورة التي تشفّ عنها أعمالُه: بساطةٌ مشعّة، انبهارٌ صامت، ورغبةٌ صادقة في التفاعل مع بيئةٍ جديدة وأصدقاء يلتقيهم للمرّة الأولى.
كانت تلك فاتحةَ صداقةٍ تزهو مع كلّ لقاء، ومسعى للارتقاء بنشاطٍ مشترك أفضى إلى إصدارِ عملٍ أو أكثر، وإلى تبادلٍ للرأي والرؤية الناقدة لماضٍ ملتبسٍ أفضى إلى مساراتٍ متناقضة. أثار ذلك مزيدًا من التساؤلات والشكوك حول مصائر وعود التغيير وأدواته وأطره في العالم العربي، بعد انهيار التجربة السوفيتية و”الاشتراكية” وأنظمتها.
نما هذا التقارب وتطوّر، وكان يمكن أن يثمر إضافاتٍ تُغني الحياة الثقافية وتفتح أفقًا أوسع لعملٍ مشترك، غير أنّ الخيبة لاحقت الأمل بعد رفضه جائزة الدورة الثانية لملتقى الرواية في القاهرة – رفضًا أعدّه مشروعًا في جوهره، وإن كان قابلًا للنقاش في شكله، كانت مصر حينها ما تزال تحت وطأة بقايا عزلةٍ سياسية أعقبت زيارة السادات إلى القدس وما تلاها من سياساتٍ وتطبيعٍ رسمي مع إسرائيل، إنعكس ذلك على محيطها العربي بما عُرف من خلافاتٍ وانقساماتٍ وتمحورات، أثقلت الحركةَ الثقافية وأضعفت صلاتها العملية خارج الحدود.
بدا كسرُ ذلك الانسداد ممكنًا عبر إلتفافٍ إيجابي قاده “المجلس الأعلى للثقافة” بإدارة الراحل جابر عصفور والوزير الفنان فاروق حسني ومعهما وجوهٌ ثقافية بارزة، أُطلقت مبادراتٌ ومؤتمراتٌ نوعية وندواتٌ وإستذكارات، ودُعي مثقفون عربٌ كُثر فتجاوزوا المقاطعة السياسية، وفي تلك الفعاليات جرى حشدُ الطيف الثقافي المصري على اختلاف مواقفه – وكان معظمها رافضًا للتطبيع – وأُشركت القاماتُ الكبرى في لجان المجلس، بما فيها لجنة الجوائز، من غير تناقضٍ بين اللجان ولا ممالأةٍ للسلطة في التكريم.
على هذا الأساس قلتُ لصنع الله: لا اعتراض عندي على رفض الجائزة – وربّما تماثلتُ معك في القرار – غير أنّني متحفّظٌ على الحرج الذي أصاب صديقَنا المشترك جابر والفنّان فاروق بعدما بُلّغا بموافقتك المبدئية؛ إذ كان القبول أو الرفض شرطًا إجرائيًّا معروفًا في جوائز من هذا القبيل (ونوبل مستثناة). ولم يكن ليُضعف موقفك أن تُعلن الرفض في بيانٍ علني بعد مفاتحتك رسميًّا.
قلتُ ذلك من موقع الصداقة التي تجمعنا، ولم أتوقّع أن تُفضي هذه الملاحظة إلى ختام علاقةٍ كان لها أن تتّسعَ بمساهمةٍ مشتركة مع أيقونةٍ إبداعية تجسّدت فيها قوّة الابتكار وجرأة التجديد.
بقي صنع الله رغم رحيله أمثولةَ مثقّفٍ في التحدّي والثبات على المبدأ، ونموذجَ مبدعٍ تعفّف عن المغريات وإكتفى ببساطة العيش ودفء العلاقات، متمسكاً بـ”ذاتٍ” عصيّةٍ على الانكسار..
رحل صنع الله إبراهيم وترك وراءه حسرة من تبقى من جيل التوهج نهباً لـ ” رائحة الرثاثة والانحدار التي صارت تحاصرنا أنّى اتجهنا!.
إلى السكينة الأبدية يا صنع الله..

اقرأ ايضا

الواسطي.. وبول كليه

أمين الباشاكانت إحدى تلميذاتي في معهد الفنون في بيروت, ومن أفضلهنّ. صادفتها في باريس منذ …