د. مجيد خدوري
فور اطلاع الملك غازي على مؤامرة الجيش اتصل هاتفياً بالسفير البريطاني السير ارشيبالد كلارك كير Sir Archibald Clark Kerr (اصبح الآن لورد انفيرتشابل Lord Inverchapel) للتشاور. وصل السفير قصر الزهور الساعة 9.45 صباحاً فوجد الملك في حالة عصبية. سأله ان كان يريد مقاومة الحركة. ردّ الملك انه لم يوافق على الحركة ولا طلب من وزرائه التحقق منها. وعليه فقد نصح سفير جلالته الملك غازي ان يدعو وزراءه للتشاور. كما نصحه بعدم تدخل الجيش في السياسة.
وعليه فقد دعا الملك وزراءه إلى اجتماع في البلاط برئاسته. حضر رئيس الوزراء ياسين الهاشمي ووزير الخارجية الجنرال نوري فوراً. كان نوري عصبياً فيما كان ياسين هادئاً. ووصل الجنرال جعفر العسكري متأخراً نوعاً ما. اما رشيد عالي، وزير الداخلية ففضل البقاء في مكتبه للمحافظة على النظام واصدار التعليمات إلى المتصرفين (حكام المقاطعات) بصدد كيفية التعامل مع الموقف.
كان النقاش في قصر الزهور محتدماً شديد السخونة. لم تدووّن محاضر حرفية ولذلك لم تُسجَّل اقوال الذين حضروا ذلك الإجتماع الفعلية. لكن مؤلف الكتاب استطاع ان يجري مقابلة مع كل من الجنرال نوري واللورد انفيرتشابل، الحيّان الوحيدان من بين الذين شاركوا في المداولات، ولذلك صار بمقدوره اقتفاء التيارات العامة للمناقشة. اقرّ ياسين وهو يستعرض الموقف السياسي بوجود معارضة لوزارته، إلاّ ان التمرد العسكري كان آخر امر قد يفكر فيه، لاسيما من جانب بكر صدقي. وذكر انه قبيل حضوره إلى البلاط كان على اتصال ببكرالذي اكد له ان “الحركة بعلم الملك وموافقته”. نفى الملك فوراً هذه الشائعة. واقترح ياسين الذي كان متردداً في الإستقالة مقاومة الحركة واعتقد انه بالقوات التي في المقاطعات سيكون قادراً على التحقق منها. لكن الملك غازي ظل صامتاً ولم يعقّب على مقترح ياسين. ولذلك استنتج ياسين ان الملك لم يؤيد المقاومة، ولذلك لاخيار امامه سوى الإستقالة. عند هذه النقطة اقترح السير ارشيبالد كلارك كير دعوة حكمت إلى الإجتماع لمناقشة الوضع معه. اصبح السير ارشيبالد واثقاً الآن ان المسألة باتت بين يدي الطرفين، ولذلك انسحب، لكنه طلب من كل من ياسين ونوري ان يوافياه في السفارة البريطانية بعد انتهاء الإجتماع.
فيما كان اجتماع قصر الزهور ينعقد، كان حكمت الذي غادر بيت رؤوف عند سماعه هدير الطائرات في طريقه وهو يحمل رسالة القائدين كُلّف بتسليمها شخصياً إلى الملك. وهكذا حضر حكمت إلى البلاط فيما كان النقاش جارياً. وحين دُعي لحضور الإجتماع رفض، واكتفى بمحض تسليم الرسالة إلى رستم حيدر رئيس الديوان الملكي بحضور عدد من ضباط الجيش اشار إليهم حكمت كشهود. غادر البلاط فوراً بعدئذ. ونص الرسالة كما يأتي:
لا شك ان جلالتكم على علم بالسياسة التي تتبعها الحكومة الحالية المشبعة بالمحسوبية المبالغ بها والتي ادت إلى تدمير الرفاهية والمصالح الشعبية العامة وتقويضها. كما ادت بعبثيتها إلى انتهاك [سلطات] التاج وربما كانت تتطلع إلى المزيد.
كما ان جلالتكم على علم بان الجيش الذي كان قادته وجنوده مخلصين في طاعتهم لأوامر [الحكومة] لأنها صادرة باسمكم. حتى اصبح الوضع لايُطاق ويزداد تدهوراً على الدوام بسبب القلاقل المتواصلة، وحيث انه لايُحتمل ان تتغير سياسة الحكومة، وحيث انه لم تَعد العدالة تُحفظ، والفاقة والتعصب الأعمى يعمّان البلاد لا لغرض سوى إثراء فئة معينة قادتها في الحكومة الحالية- فان الجيش الذي يعي مصالح البلاد ويرغب بدعمها وتقويتها، لن يظل صامتاً ازاء هذا الوضع الخطير الذي يؤدي دون ريب إلى الدمار.
ولهذا فان الجيش يتقدم إلى جلالتكم برجاء انقاذ البلاد من هذا الوضع المتردي باصدار امر بحل الوزارة الحالية وتعيين وزارة جديدة تتألف من ابناء هذه الأمة المخلصين بقيادة حكمت سليمان في غضون ثلاث ساعات [من استلام هذا الإشعار]، وفي حال عدمك اذعان الوزارة لأمر جلالتكم في حدود الوقت المعيّن، فان الجيش- الذي ما زال موالياً لجلالتكم وللبلاد- سيؤدي واجبه تجاه المصلحة العامة، [بحركة] لاشك في انكم ستؤازرونها.
القائد عبد اللطيف نوري
القائد بكر صدقي
كان على ياسين اذ اخفق في التوصل إلى تفاهم مع قادة التمرد اما ان يقاوم الحركة بالقوة أو ان يستقيل. بقي الملك معارضاً للمقاومة: لم يكن يستطيع تجربته المرّة السابقة مع رئيس الوزراء. أما الآن وقد تمرد الجيش، فقد التمس فرصة التخلص من ياسين ورشيد عالي. لم يكن لدى ياسين أي خيار فقدم رسالة استقالته. ونص الرسالة كما يلي:
سيدي
ان جلالتكم على علم بان الوزارة الحالية عملت كل مابوسعها للمحافظة على النظام في عموم البلاد وبذلت اقصى جهودها عبر كل الوسائل المتاحة لرفع مستوى البلاد وتحقيق طموحاتها قدر ما تسمح به الظروف خارج العراق. ولكن يبدو ان عدم الخبرة والجشع قادا بعض الرجال إلى الضلال [عن واجب] الدفاع عن البلاد والإتجاه إلى فعل سيؤدي، كما اظن، إلى نتائج شريرة. تدارست الموقف مع زملائي وقررنا تجنب قيادة البلاد إلى اضطراب داخلي؛ وعليه فاني اسارع إلى تقديم استقالتي إلى جلالتكم، واعتقد انكم بقبولها ترفعون عني عبء الوزارة. ادعوه تعالى ان يحفظكم من الإضطراب للدفاع عن مصالح البلاد.
يلاحظ على هذه الرسالة ان ياسين يظهر مطيعاً وموالياً للملك والبلاد، غير انه لم يقدم استقالته إلاّ متردداً تحت تهديد الجيش لا لأن الملك يرغب باستقالته. وافق الملك فوراً على استقالة ياسين ودعا حكمت إلى تشكيل وزارة جديدة.
ادى موقف الملك إلى نظرية آمن بها اصدقاء ياسين ورشيد، هي انه طالما لم يكن قلقاً من التخلص من نظام ياسين- رشيد فانه كان متحالفاً مع قادة التمرد. وعلى قدر ما استطاع مؤلف الكتاب ان يتأكد منه، فان الملك غازي لم يكن على علم مسبق بالمؤامرة. صحيح انه كان لدى الملك العديد من الأصدقاء بين ضباط الجيش، وغالباً ما كانوا يلمّحون له انهم على استعداد عند حاجته إليهم. وحيث ان الملك كان مغتاظاً من ياسين ورشيد، فقد كان من المسلّم به لدى بكر وزملائه ان موقفه سيكون في كل الأحوال متعاطفاً معهم. ويُذكر ان بكراً اشار إلى الجيش بالتحرك إلى الملك صباح يوم 29 تشرين الأول وطمأنته على ولاء الجيش للعرش. ربما كان هذا الإتصال هو ما دفع بكراً ليقول لياسين ان هذه الحركة “بعلم الملك وموافقته”. أما عن علم الملك المسبق بالحركة، فان المؤلف يميل إلى الإعتقاد بأن قادة التمرّد عدّوا كشف سر الحركة إلى الملك الشاب قبل ان تبدأ غير ضروري
عن كتاب (العراق المستقل) ــ الفصل الخامس
اقرأ ايضا
بمناسبة ذكرى افتتاحه عام 1916..شارع الرشيد.. الفكرة والتنفيذ
حيدر كامللم تكن في بغداد طرق واسعة, إذ كانت عبارة عن أزقة ملتوية ومتشابكة ذات …