بمناسبة ذكرى افتتاحه عام 1916..شارع الرشيد.. الفكرة والتنفيذ

حيدر كامل
لم تكن في بغداد طرق واسعة, إذ كانت عبارة عن أزقة ملتوية ومتشابكة ذات ممرات ضيقة تتناسب مع المشاة والعربات التي تجرها الحيوانات, للوصول إلى الأماكن المطلوبة, كالأسواق والجوامع والمناطق الأخرى وشعر الوالي مدحت باشا(1869 – 1872) ضمن اهتماماته الاصلاحية بضرورة وجود طرق واسعة في المدينة, وحينها أمر مهندسي الولاية برسم مخطط للطريق(الشارع) المزمع شقه، وتم إعداد ذلك المخطط,إلاَّ أنه لم ينفذ وبقى حبراً على الورق, بعد أن ترك ولايته وغادر بغداد الى الشامعام 1872(,إذ في الوقت الذي كان فيه يبذل جهوداً في التنظيم والأعمار كان خصومه في الأستانة يشوهون سمعته وينتقصون من شخصيته رافضين صرف الأموال على مشاريعه العمرانية والإصلاحية.
بعد تعيين حسين ناظم باشاوالياً على العراق عام1910,تطلعت الأنظار تجاهه إلى ما سيعمل, سيما أنهكان مزوداً بصلاحيات واسعة من قبل الحكومة، إذ خصصت في وقتها مبلغاً قدره(40,000)الف ليرة سنوياً للقيام بالإصلاحات في الولايات الثلاثة(بغداد والموصل والبصرة), فضلاً عن قيامه بإعطاء قرضاً وطنياً للبلدية للقيام بمشاريع عديدة, شملت الطرق, والأسواق, وتشيد المدارس, وبناء باب رئيسي للسراي، كما أمر في العام نفسه بفتح شارع النهر, الذي عد أول شارع في بغداد.
وعندما فتح هذا الشارعقسممبنى القنصليةالبريطانية التي كانت تعترض مساره إلى قسمين, وعارض البريطانيون ذلك الأمر, إلاَّ أن ذلك لم يمنع الوالي من إتمام مشروعه فأرسل فوجاً من العسكر الذين أحاطوا بالبناية وقاموا بتهديمها.
جدد حسين ناظم باشا فكرة إنشاء شارع عريض في المدينة واعتمد في ذلك على رسم الخريطة السابقة التي وضعها الوالي مدحت باشا،وأكد ذلك في اللقاء الذي جمعهمع القنصل البريطاني في بغداد الكابتن لوريمر(loremar), إذعرضعليه فكرة شق طريق جديد في بغداد يصل عرضه إلى عشرين متراً يمتد من باب السلطان(باب المعظم) الى بابكلوذاي(باب الشرقي) بخط مستقيم بطول ثلاثة كيلو مترات، وقد اندهش القنصل البريطاني لوريمر بهذا لمشروع,للصعوبات التي قد يواجهها.
الوالي حسين ناظم باشا واعتقد القائم بالأعمال البريطاني ميرلنغ (Marling)أن الفكرة قد تكون مؤامرة على الوالي من قبل بعض اعضاء(جمعية الاتحاد والترقي) لأجل خلق مشاكل له وتوريطه وإفشال حكمه(، سيما أن هذا المشروع ارتبط بمشروع آخر كبير,هو مد خط ترام كهربائي يمر بالشارع الجديد بعد إكماله ويمتد من ناحية الأعظمية لى ناحية الكرادة الشرقية وبطول 15 كم، إذ وضع حجر الاساس لمشروع الترام في حفل أقيم يوم 26حزيران1910, وحضره بعض القناصل الأجانب وكثير من الشخصيات البغدادية بدعوة من الوالي نفسه,ومنح امتياز تنفيذه إلى محمود الشابندر, الذي اشترط لإنجاز المشروع في مدتـــــه البالغة سنتين إِكمال فتح الشارع في ستة شهور, وفي حقيقة الأمر أن مشروع فتح الشارع الجديد واجه صعوبات عديدة,منها مسألة تعويض أصحاب الممتلكات,التي ستتعرض ممتلكاتهم للهدم لاعتراضها مسار الشارع, مما دفع الوالي إلىتشكيل لجنة خاصة لهذا الأمر, تكونت من عشرة أعضاء للنظر في تقدير قيمة التعويضات لنحو مائتي منزل سيتم هدمها كلياًأوجزئياً,وانتهت اللجنة من رفع تقريرها في حزيران 1910, الذي رفضه الوالي بسبب تقديراته المالية الكبيرة وطلب تعديله,وعلى الرغم من استمرار طلبه بإعادة النظر بتلك التقديرات, إلاَّ أن اللجنة أصرت على ذلك رغبة منها في إفشال المشروع وجعله يبدو مستحيلاً من الناحية المالية, لأن الهدم سيطال منازل تعود لأقربائهم مما دفع الوالي إلى إعادة تشكيل تلك اللجنة وقام بتغير بعض من أعضائها,فقامت الأخيرة بتقدير قيمة التعويضات بنحو(98,000) ليرة عثمانيةلتعويض(506)منزل,وألزمت في الوقت نفسه قيام أصحاب تلك الممتلكات بالتنازل عن 5% من قيمة تعويضهم كهدية للحكومة,ويبدو أنه على الرغم من ارتفاع عدد الممتلكات التي ستهدم حسب تقدير اللجنة الأخيرة الى الضعف, لكن قيمة التعويضات كانت أقل بكثير من تقديرات اللجنة السابقة الأمر الذي دفع بالوالي إلى المباشرة بانجاز المشروع, ويسّره أمامه إلى حدٍ ما التفكير.
وكانت عمليات الهدم التي شملت الأملاك العامة بنحو كلي أو جزئي,تجري من دون بالمباشرة بالعمل, إذ كان فيه متعجلاً في عملية تهديم البيوت لشق الشارع الجديد. مراعاة للقانون وعدم دفع التعويضات لأصحابها، وعندما اشيع بين الأهالي أن حكومة الولاية غير جادة في تعويضهم نظموا تظاهرة هتفوا فيها: “هذي الكاع وما ننطيها وناظم باشا حاكم بيها وفي هذا الجانب ذكر السيد مصطفى نور الدين الواعظ(, أنه كان جالساً عند الوالي حسين ناظم باشا ودخل عليهما مأمور الوالي جواد بك واخبره بأن بعض الأهالي ناقمين عليه، سرعان ما التفت لي وقال: “إن اهل بغداد الآن تشتمني لكن سيأتي يوم من الزمن تقرأ على روحي الفاتحة”..
أدرك الوالي حسين ناظم باشا صعوبة التعرض لمبنى القنصلية البريطانية الجديد الواقع في (محلة السنك) لاستكمال شق الشارع,فقام بمحاولتين لمعرفة ردة الفعل المتوقعة من جانب البريطانيين في حال هدم القنصلية, إّذ أرسل في المحاولة الأولى سكرتيره السياسي(ايرام بك),للتحدث مع أحد موظفي القنصلية مستفسراً منهم عن توقعاته للردود المترتبة عن هدم مبنى القنصلية وكان رده:”إن هذا العمل سيؤدي إلى مخاوف القنصلية ويدفعها إلى تشديد الحراسة عليها”. أما الثانية عندما أمر القائمين على العمل أن يركزوا لوحات أمام مبنى القنصلية توضحأن مسار شق الشارع سيخترق المبنى,الأمر الذي دفع القنصل البريطاني للإبراق على وجه السرعة إلى السفير البريطاني في اسطنبول جي لوثر ((G.Lowther ذاكراً له أن الهدم سيقسم القنصلية الى قسمين متساويين تقريبا، أستنكر السفير البريطاني في اسطنبول ذلك وأرسل مذكرة احتجاح إلى وزير الخارجية البريطاني أدوارد كري(Edward-Grey)دعاه فيها إلى التدخل لدى الباب العالي لمنع اِنتهاك مبنى القنصلية في بغداد، وكان لهذا الموقف أثره في تغير موقف حسين ناظم باشا واتجه إلى التهدئة وأبلغ القنصل البريطاني أنه ليست لديه نية بأنتهاك مبنىالقنصلية.
كانت للصعوبات التي واجهها الوالي حسين ناظم باشا, المتمثلة بالموقف البريطاني الرافض لهدم مبنى القنصلية, انتصار الجيش العثماني على الجيش البريطانيفي معركة(سلمان باك) ومحاصرته في الكوت أواخر عام1915, ولاشتداد حدة معارك الحرب العالمية
الأولى, وبروز الضعف فيطرق المواصلات بين الوحدات العسكرية, ما جعل الوالي خليل باشا يدرك ويفكر جدياً بأهمية العمل بالسرعة الممكنة لاستكمال شق الشارع الجديد لتسهيل نقل المعدات الحربية من بغداد إلى الجبهة, وكانت العرفةَ التي يعمل بموجبها الولاة في شق الشوارع اطلاق أسمائهم عليها رغبة في تخليد ذكراهم تاريخياً.أماما يتعلقبتعويض أصحاب الأملاك فإن ذلك يمكن تأجيلهإلى مابعد الحرب، وقد استعان خليل باشا برئيس البلدية رؤوف بك الجادرجي وضباط الركن الألمان الذين كانواتحتإمرته لتنفيذ المشروع.
كانت أبرز الصعوبات التي واجهت الاستمرار في شق الشارع تعويض أصحاب الأملاك التي ستهدم جزئياًأو كلياً, وبعض من الصعوبات الهندسية التي تمثلت بالاختلاف في مستويات الشارع إذ بلغ من متر إلى ثلاثة أمتار, وكانت معارضة رجال الدين لفكرة هدم الأملاك الوقفية مثل سوق الحيدرخانة,وضعف الإمكانيات المالية لولاية بغداد عاملاً مضافاً إلى ذلك, سيما أنالكثير من أهالي بغداد اعتقدوا أن فوائد الشارع قد تكون قليلة, فضلاًعن عدم تصديقهم بمشاريع الولاة, وفي الأخير تقع عواقبه على كاهلهم.
استعانت بلدية بغداد بمهندسين فرنسيين لأجل حل مشكلة الاختلاف في مستويات الشارع, أما مشكلة التعويضات فتم الاِتفاق مع أصحاب الأملاك على منح مبلغ أولي يعادل الإيجار لعام واحد وأن تُدفع لهم بقية المبالغ بعد انتهاء الحرب.
وذكر كامل الجادرجي أن شقيقه رؤوف بك الجادرجي رئيس البلدية قد غادر بغداد قبيل سقوطهابيد البريطانيين إلى الاستانة ومنها إلى برلين, بحجة الاطلاع على تنظيمات المدينة بصفته رئيساً لبلدية بغداد, وتخلصاً من الوضع الذينشأ من جراء فتح الشارع الجديد, ولم تعوض البلدية أصحاب الأملاك أموالاً نقديةبل اكتفت بإعطائهم سندات بقيت إلى نهاية الحرب ديناً بذمتها, أما مشكلة هدم الأوقاف فقد تم هدم سوق الحيدرخانة ليلاً, بعد إن عجزت الإدارة العثمانية عنإيجاد حلاٍ له, وبعد تخطيط عرض الشارع وأستقامته ولتثبيت المساحة التي سيشملها الهدم استعملت الحبال لتأشير تلك المساحات, وقام بعض من أصحاب الأملاك المشمولة بالتهديم بدفع الرشوة إلى المشرفين على العمل لتقليل مساحة ما سيهدم من أملاكهم التي لا تدخل مساحتها بالكامل ضمن خطة التهديم, وذكرأمين المميزأن المعاول عملت ليلاً على هدم دوروحوانيت الحيدرخانة على رؤوس ساكنيهافي مشهد يدمي القلوبمن دون الإصغاء إلى شكاواهم وظلم الكثير منهم, كما جاروا على الضعيف, على عكس الذين تمكنوا من أن يرشوا من بيده الأمر في عدم تهديم منازلهم,وفي مدة وجيزة تم استكمال فتح الشارع بعرض 16 متراً, وجرى الاحتفال بافتتاحه في 23 تموز 1916, يوم إعلان الدستوروحضره عدد من كبار الدولة.
عن رسالة (شارع الرشيد ــ دراسة تاريخية)

اقرأ ايضا

إنقلاب بكر صدقي عام 1936..الموقف الملكي من الانقلاب

د. مجيد خدوريفور اطلاع الملك غازي على مؤامرة الجيش اتصل هاتفياً بالسفير البريطاني السير ارشيبالد …