نجدة فتحي صفوة
سجل كامل الجادرجي في مذكراته رأيه في محمد حديد الذي زامله في العمل الحزبي نحو ثلاثين عاماً، قائلاً.:
(بالرغم من اني غير متفق معه كل الاتفاق في طريقة العمل، ولكنني اعتبره من الاشخاص النادرين في العراق بالنظر لمتانة اخلاقه ومقدرته العلمية في القضايا الاقتصادية والمالية، ولسعة اطلاعه في الامور الاخرى. إذ قلما تجتمع الثقافة والاخلاق في شخص مثلما اجتمعت في محمد حديد).
تولى محمد حديد وزارات المال والصناعة والاعمار في العهد الجمهوري فكان الوزير الذي يستمد قوته من كفايته ونزاهته وثقافته، والسياسي الذي لم يمالئ من اجل منصب، ولم يتراجع عن موقف من اجل مغنم، ولم يحل انتماؤه الى اسرة ثرية من وجهاء الموصل، دون اعتناقه الافكار الاشتراكية التقدمية المعتدلة التي وجدها ضرورية لرفع مستوى شعبه، ولم يتأثر بخلفيته العائلية ولا بمصالحه الشخصية. وكان سياسياً مثالي الافكار وواقعي الرؤية في الوقت نفسه، وقد حاول التوفيق بين الاماني الوطنية، والامكانات المتوافرة لتحقيقها، ونجح في مسلكه هذا نجاحاً كبيراً.
تلقى محمد حديد دراسته الابتدائية والثانوية في مدارس الموصل، ثم اكمل دراسته التحضيرية في الجامعة الاميركية في بيروت، وقد ارسله والده للدراسة في الخارج في ذلك الوقت المبكر يوم كان ارسال الاولاد للدراسة خارج العراق امراً غير مألوف. وبعد اكماله الدراسة في الجامعة الاميركية في بيروت Junior College، قبل في “مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (LSE) وهي احدى كليات جامعة لندن. و
وتخرج محمد حديد فيها سنة 1931 بدرجة شرف، ولعله كان أول عراقي يتخرج في هذه الكلية ذات المستوى العالي والمكانة العلمية المرموقة عالمياً. وكان في عداد اساتذته عدد كبير من مشاهير العلماء الاقتصاديين الذين برزوا بعد ذلك في صفوف (حزب العمال) البريطاني وشغلوا مناصب مهمة، مثل كلمينت آتلي (رئيس الوزراء في ما بعد) وهيودولتن (وزير المالية في حكمة آتلي العمالية) وريتشارد تاوني، وجون مينارد كينز (اللورد كينز)، وهارولد لاسكي وغيرهم ممن سيرد ذكرهم في هذه المذكرات.
ولاشك في ان دراسة محمد حديد في لندن على أيدي هؤلاء العلماء الاقتصاديين، كانت من اهم العوامل في صوغ افكره الديمقراطية والاشتراكية، واعتناقه مبادئ العدالة الاجتماعية التي آمن بها، ودافع عنها، وعمل لأجلها طوال حياته.
وعلى اثر عودته الى العراق عين محمد حديد في وزارة المال، وتدرج في وظائفها منذ ايلول (سبتمبر) 1931، فكان مفتشا مالياً، فوكيلا لمدير التجارة والاقتصاد، فوكيلا لمدير الواردات العام.
وفي الوقت نفسه، اتصل محمد حديد، بعد عودته، بمجموعة من المثقفين الذين سبق ان زامل بعضهم في الجامعة الاميركية في بيروت، وتعرف الى البقية بعد عودته، كان احد المؤسسين الاوائل لجماعة الاهالي التي تبنت افكارا مشابهة لمبادئ “الجمعية الفابية” وحزب العمال البريطاني في ذلك الوقت، وكان لها اثر كبير في نشر الوعي السياسي التقدمي في العراق وقد اجتذبت هذه الجماعة الى صفوفها بعض السياسيين الذين كانوا اكبر منهم سناً، مثل كامل الجادرجي وجعفر ابو التمن وحكمت سليمان، وعدداً من المثقفين منهم خليل كنه، وجميل عبد الوهاب، ممن حافظوا على اتجاههم الاشتراكي او انفضوا عنه وانقلبوا عليه في ظروف مختلفة.
وعلى أثر اغتيال بكر صدقي في الموصل، استقالت حكومة حكمت سليمان وخلفتها حكومة ألفها جميل المدفعي، وما كادت هذه الوزارة تتسلم امور البلاد في 17 آب (اغسطس) 1937 حتى بادرت الى حل مجلس النواب الذي جاءت به حكومة الانقلاب، واجرت انتخابات جديدة، لم يشترك فيها محمد حديد، فانصرف الى الاعمال الاقتصادية، واسس “شركة الزيوت النباتية” التي اصبح مديراً مفوضا لها.
وبدأت الشركة انتاجها سنة 1943، وبقي في هذا الميدان سنوات طويلة حصدت الشركة خلالها نجاحا كبيراً، وفي الوقت نفسه، لم ينقطع محمد حديد عن مواكبة الحياة السياسية، وسنة 1946 اشترك مع كامل الجادرجي في تأسيس “الحزب الوطني الديمقراطي” وانتخب نائبا لرئيسه، واسهم في تحرير جريدة الحزب “صوت الاهالي” بمقالات اقتصادية وسياسية اتسمت بموضوعيتها واسلوبها العلمي وجديتها ومعالجتها القضايا الحيوية التي تهم البلاد والشعب في رؤية تقدمية عصرية.
وفي 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1946 عهد الى نوري السعيد تأليف الحكومة التاسعة، خليفة لوزارة ارشد العمري المستقيلة. اراد السعيد ان يضفي على حكومته صبغة قومية او مؤتلفة بان يشرك فيها بعض ممثلي الاحزاب، ولكنه نأى عن “حزب الاستقلال” والحزبين اليساريين المتطرفين وهما “حزب الشعب” و”حزب الاتحاد الوطني”. كذلك سعى الى التقرب من “الحزب الوطني الديمقراطي” و”حزب الاحرار” ووفق في آخر الأمر في اقناعهما بالاشتراك معه في الحكومة، وادخل ممثلا واحدا عن كل من الحزبين، فكان علي ممتاز الدفتري يمثل “حزب الاحرار” – وزيرا للمواصلات والاشغال – ووافق “الحزب الوطني الديمقراطي” عل ان يمثله نائب رئيس الحزب محمد حديد، وزيراً للتموين. وكانت هذه وزارته الاولى.
وسنة 1952، في عهد حكومة مصطفى العمري، حدثت الاضطرابات التي عرفت باسم “انتفاضة تشرين الثاني”. وقد بدأت عقب نزاع بين طلاب كلية الصيدلة وادت الى انتشار الاحزاب بين طلاب الكليات والمدارس الاخرى، وخرجت تظاهرات صاخبة تسببت باشتباكات بين المتظاهرين ورجال الشرطة جرح على اثرها بعض الطلاب وافرد الشرطة وسقط قتيل واحد. ثم انتشرت التظاهرات خارج بغداد، فلما تفاقمت الامور وعجزت الحكومة عن تهدئة الوضع اضطر رئيس الوزراء مصطفى العمري الى الاستقالة، وعهد الوصي على العرش في تأليف الحكومة الى رجل عسكري هو (العميد الركن) نور الدين محمود الذي كان رئيساً لأركان الجيش. فاعلنت الحكومة الاحكام العرفية، وحلت الاحزاب، وعطلت الصحف، واعتقلت عدداً من الحزبيين والمعارضين.
كان محمد حديد في تلك الفترة، في زيارة الى لندن، فقام بنشاط كبير ودعاية واسعة للحزب الوطني الديمقراطي، فاتصل ببعض الصحف والمجلات المهمة مثل “الايكونوميست”، و”التريبيون” و”نيو ستيتسمان اند تيشن”، وبجرائد منها “التايمس” و “مانشستر غارديان”، وبعدد من اعضاء مجلس العموم والشخصيات البارزة في انكلترا مثل انورين بيفان وكينغزلي مارتن واليزابث مونرو، وكتب رسائل عدة الى محرري الصحف الكبرى، منها رسالة الى محرر “التايمس” اللندنية قال فيها: “ان الاحوال المؤسفة السائدة في العراق يجب القضاء عليها بالديمقراطية الصحيحة، ولا يمكن معالجة الشعور المعادي للبريطانيين إلا عندما يشعر الشعب العراقي بان بريطانيا تؤيد اقامة الديمقراطية الصحيحة في العراق.
وكتب الى محرر “مانجستر غارديان” رسالة اخرى انتقد فيها تسامح المحرر مع الدكتاتوريات العسكرية، وذكر ان شعوب الاقطار المختلفة في القرن العشرين ادركت حقوقها في الحرية والعدالة في ظل حكم دستوري، واذا ما ساندت بريطانية الدكتاتوريات فانها ستخسر ود تلك الشعوب وصداقتها”.
وقد علق المحرر على ذلك قائلا: “اذا كان الحكم العسكري هو البديل الوحيد لحكم الغوغاء، واذا نقد الاصلاحات الجذرية، فلا بأس به”.
كان محمد حديد، على امتداد حياته السياسية، معتدلا في ارائه، واقعيا في تقديره للامور. اتهمه بعض خصومه وخصوم “الحزب الوطني الديمقراطي” بالشيوعية وبقدر من المسؤولية عن انتشارها في العراق، ولكن اعماله ومواقفه تدل دلالة قاطعة على انه لم يكن شيوعيا، بل ان اليسار الشيوعي وصف “الحزب الوطني الديمقراطي” باليمينية والبرجوازية الوطنية. وكان من اهداف محمد حديد من البقاء في الحكم الحد من المد الشيوعي والحفاظ على التوازن بين القوى السياسية.
والواقع ان محمد حديد كان يؤمن بالاشتراكية المعتدلة والديمقراطية التي تناسب ظروف العراق السياسية وحالته الاجتماعية في رؤية واقعية وفهم عميق لاوضاع العراق وحاجاته، بعيدا عن المواقف المتطرفة التي تبناها الحزب الشيوعي الذي كان لاينحرف عن مواقف الاممية الشيوعية وسياسة الحزب الشيوعي السوفياتي، سواء اكانت تلك المواقف تناسب ظروف العراق وتخدم مصالحه ام تتجاهل ذلك. فقد كان ولاء محمد حديد التام للعراق، واهتمامه متجها الى مصالحه وحدها، بمنأى عن الاقليمية والطائفية والمصلحة الشخصية والنفوذ الاجنبي، نزيها، محافظا على كرامته الشخصية في جميع الظروف.
عن مقدمة مذكرات محمد حديد (الصراع من أجل الديمقراطية)
اقرأ ايضا
مدينةُ القُرنة في كتاباتِ الرحَّالةِ الأجانبِ
د. عِماد جاسم الموسويّمّا لاشكّ فيه أنَّ أدب الرحّلات والأسفار من أمتع فصول الأدب والتأريخ، …