كيف أصدر الجواهري صحيفته الأولى؟

عباس غلام نوري
عندما ألفت الوزارة السعيدية الأولى في الثالث والعشرين من آذار سنة 1930، وبعد يوم واحد من هذا التأليف أصدر نوري السعيد الإرادة الملكية من الملك بحل مجلس النواب لأنه “أي نوري السعيد” كان يخشى أن لايستطيع مواجهتهُ في موضوع المعاهدة الجديدة مع بريطانيا التي تَقرَرَ المباشرة بالتفاوض لعقدها منذ الأيام الأخيرة لعهد الوزارة السعدونية الرابعة التي أنتهى وجودها بانتحار عبد المحسن السعدون.
بدأت الوزارة السعيدية الأولى تعد العدة لعقد المعاهدة الجديدة أستمراراً للمعاهدة السابقة مع بريطانيا، ويبدو أن نوري السعيد كان محبذاً لأصدار جريدة يتولى الجواهري رئاسة إدارتها وتحريرها بأسم “الفرات” لتقف الى جانب الوزارة وتدعم موقفها في عقد المعاهدة الجديدة (أي معاهدة 1930 المعروفة)، ويروي الجواهري أنه التقى رئيس الوزراء السعيد في المنتدى الأدبي للسيد “محمود الدفتري”(وشجعهُ السعيد على إصدار الجريدة وماهية الإجراءات التي ستتخذ لهذا الغرض وأنهُ “: رأى الجواهري” قد اقتنع بذلك رغم تحذير ياسين الهاشمي المعارض للسعيد له من هذهِ الخطوة وتحذيره من خداع رئيس الوزراء له، واعتقد أن موافقة الجواهري جاءت لأسباب ذاتية وهي الشهرة والبروز في عالم الصحافة من جهة، وأن وجودهِ على رأس جريدة تدعمها الوزارة سيحقق له مكاسب مادية من جهة ثانية.
أشار الجواهري في أكثر من مناسبة في المدة التي سبقت إصدارهِ جريدة الفرات الى رئيس الوزراء بشأن المساعدة المالية ليتمكن من أصدار جريدته مما دفع رئيس الوزراء الى إتخاذ موقف يعدُ من المواقف الغريبة يعهده من رئيس سابق وهو أن نوري السعيد أصدر كتاباً الى المتصرفين في الألوية العراقية: بمساعدة جريدة الفرات، فانهالت عليه من الأشتراكات والتحويلات التي ازدادت على الحد المطلوب حتى بعد إغلاق الجريدة إذ بقي يعيش منها الجواهري مع أهل بيته. وفضلاً عن هذا الدعم المتواصل ابتداء بمنحهِ أمتيازاً بإصدار الجريدة، كانت هناك مبالغ قد تلقاها الجواهري من وزارة السعيد ويفيد هنا أحد المقربين للجواهري في السلك الصحفي أن الوزارة قد منحت الجواهري مبلغاً قبل الإصدار يربو عن اربعمائة روبية وعدتها دفعة أولى.
تقدم الجواهري بطلب الى وزارة الداخلية لإصدار جريدة الفرات فلم تمانع الوزارة من إجابة هذا الطلب بيد أنها اشترطت عليه أن لايكون موظفاً وصاحب جريدة سياسية في آن واحد، فسارع الجواهري الى تقديم استقالتهُ من البلاط وكان آنذاك قد شغل منصب معاون لمدير التشريفات الملكية في البلاط الملكي كما سبق ذكرهُ، وعندما علم الملك بذلك أرسل عليه مشيراً إلى أنّ الصحافة ليست بعيدة عنه وأنه راغب بارسالهِ في بعثة الى باريس للدراسة ناصحاً إياهُ بالتريث(اذ دار حوار بينهُ وبين الملك فيصل الأول بقول الأخيرمشيراً باللهجة العامية الدارجالى نوري السعيد رئيس الوزراء الذي شجعهُ على الاستقالة، فكان جواب الجواهري بأنه يحب العمل الصحفي.
ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن الجواهري منذ تشكيل نوري السعيد الوزارة كان تواقاً للتعاون معهُ اذ يجد فيه الشخص المناسب لتحقيق طموحات مادية وسياسية فكتب قصيدة في مدح رئيس الوزراء نوري السعيد بمناسبة تشكيلهِ الوزارة، والقصيدة من أولها الى آخرها مدح لنوري السعيد وثناء على جهودهِ وشجاعتهٍ ونعي على معارضيهِ، ولم يشر الجواهري الى تلك القصيدة في دواوينهِ الكاملة التي أصدرتها وزارة الأعلام بناء على طلبهِ الشخصي التي تعَدّ واحدة من إحدى ثوراته وتقلباته غير المحسوبة في مدح رجالات الدولة، وكالعادة ومثلما كان قد مدح وزير المعارف في وقت من الأوقات وعين معلماً، واليوم يطمح الى منصب سياسي مرموق في الوزارة الجديدة وهو طموح مشروع، في حين يورد آخر ثلاثة أبيات للموضوع نفسه داعياً نوري السعيد الى العمل في سبيل رقي الشعب.
دخل الجواهري ميدان الصحافة بوصفه صاحب امتياز حينَ أصدر جريدته اليومية السياسية “الفرات” بعد استقالته من البلاط بقليل فكانت أول جريدة يصدرها الشاعر وغدت النتائج مرضية بشان الملك، الا أن الواقع أن الجريدة كانت مؤيدة للوزارة وسياستها، تتلقى منهُ الدعم المالي والتشجيع حتى عدّتها المعارضة جريدة الوزارة.
كان العدد الأول من جريدة الفرات يحمل عدة عناوين وعلى شكل أعمدة مطولة كانت الأولى تحمل عنوان “خطتنا” تطرق فيه الجواهري الى الجهود والتضحيات وجهود الأفراد والجماعات في سبيل قضية العراق العادلة وترصين سيادته الوطنية ومن شأنه تعزيز مكانتهِ فلاقوة للبلاد ولاكيان الا بالتضحية والأخلاص ولاتصان كرامة ولاتطيب حياة الا بالتظافر ورص الصفوف والمتنزه عن المطامع والأغراض الشخصية ورفع التمازج بين الهوى والمصلحة العامة كانت خير عامل في إعلاء أصوات الشعوب.
وأشار الجواهري في الافتتاحية نفسها الى خطة الجريدة بالقول “لن تقتصر خطتنا على معالجة المسائل السياسية الراهنة فحسب بل سنعتني عناية بليغة بالأدب العربي وبالنهضة الاجتماعية وسنولي حركة التجديد أوفر نصيبا من الدرس والبحث والتأييد، ما دام حب الوطن متغلغلاً في أدمغتنا الوطنية الصادقة هدفنا الأسمى”.
وفي العدد نفسه كانت له مقالة رنانة توسطت الجريدة تحدث فيها عن المعاهدة العراقية – البريطانية الجديدة التي ستبرم وكيفية احتوائها حقوق البلد كافة تحت عنوان “المعاهدة العراقية، هل تكفل حقوق البلاد واجب العراق وأنكلترا” تحت أسم مستعار لكاتب سياسي حيث يقول “منذ أمدٍ أبتدأت المفاوضات بين بريطانيا والعراق لإحلال معاهدة جديدة محل المعاهدة الحالية التي أثقلت كاهل الشعب بالأعباء والالتزامات المرهقة، وتركت السيادة الوطنية اسماً بلامسمى”
وطالب المفاوضون العراقيون بعدم الوهن في المعمعة السياسية، فما قيمة التاريخ اذا لم تتعزز بمستقبل حافل بآيات الجهاد وان يرفعوا عن كاهل المواطن وأمتهم أعباء الحيف وأثقال المذلة، وأن يأتوا أليها بصك الحرية والاستقلال حقيقيين ضارباً خير مثال ما في الهند من سياسة نضالية إزاء البريطانيين، وفيها يقول “إننا اليوم في زمن استيقظت فيه الشعوب من رقدتها الطويلة وهبت لأستنشاق أريج الحرية وعبير الاستقلال فلاتثبت أمام نزعتها قوة ولايقف في طريقها سلطان مهما كانَ قاهراً جباراً.
ويبدو من هذا أن الجواهري لم يندفع كلياً في دعم المعاهدة رغم مساندة السعيد المتواصلة له، بل جعل دعم المعاهدة مرهوناً بما تقدمه من خير للوطن وبما يلبي طموح الأمة، وان يرتبط ذلك بإجراء انتخابات نزيهة عادلة وفيها يقول “فعلى الوزارة الحاضرة أن تدرك هذهِ الحقيقة الناصعة واذا لم توفق لاسامح الله الى تطمين رغبات البلاد وتحقيق أمانيها الوطنية في المعاهدة فأن إطلاق حرية انتخابات واستفتاء الأمة استفتاء بعيداً عن المؤثرات المعلومة يكون محملاً شريفاً وخدمة جليلة في حد ذاته.
وفي مقالة اخرى تتصل فيما يتعلق بضعف الخزانة العراقية من الأموال، فضلاً عن العجز والكساد وضيق ذات اليد وتداخل القضايا المالية بين العراق وبريطانيا أشارَ معلقاً عن هذا الموضوع بقولهِ “وقد زادَ الطين بلة عدم حل القضايا المالية المعلقة بين الحكومتين العراقية والبريطانية، وبقاء الحكم المزدوج الذي يمتص من خزانة الدولة أغزر ضروعها ويستهلك شطراً كبيراً من مواردها وهذهِ حقائق لامفر منها” وهكذا كانت الجريدة ترافق الأحداث وتتفاعل معها، ففي إحدى المرات دخل الجواهري على رئيس الوزراء طالباً منه خبراً جديداً لجريدته الفرات، فتلقى استجابة سريعة من لدن السعيد، اذ أبلغهُ بأنه من المؤمل أن يسافر الملك فيصل الأول الى أوربا للاستجمام وفي الوقت نفسه الإشراف على المفاوضات، وهنا كتب الجواهري في جريدته مقالة تحت عنوان “حول سفر الملك فيصل الى أوربا” جاء فيه:
“إن صاحب الجلالة الملك المعظم سيبحث من خلال سياحته الى أوربا أموراً مهمة منها قضية السكك الحديدية، وشؤون مالية مهمة، وقضية البترول، والإشراف على سير المفاوضات”مما أحدث زوبعة كبيرة وضجة عارمة لدى الأوساط السياسية والكتل المعارضة وصحفهم، وأعادت جريدة العراق نشر الخبر في اليوم الثاني من تاريخ نشر المقال وغيرها من الصحف المعارضة مما دفع ببعض التكتلات السياسية إلى أن تقوم بتجمع سياسي بقيادة بعض أقطاب المعارضة أمثال ياسين الهاشمي والسيد مزاحم الباجه جي الذي ردَ على هذا الخبر في الجريدة “الفرات” نفسها في 21مايس عام 1930.
عن رسالة (محمد مهدي الجواهري ودورهُ السياسي)

اقرأ ايضا

طرائف من حياة الدكتور فاضل الجمالي

سرور ميرزا محمودفي 17 ايلول 1953 شكل الدكتور فاضل الجمالي وزارته الاولى ثم اعاد تشكيلها …