عناد غزوان.. الرجل الذي جسّر الفجوة بين الجامعة وجمهورها

د. محمد الدعمي

لم يكن هذا العملاق أستاذاً جامعياً رائداً فقط. بل كان كذلك عالماً فريداً تجلت أصالته منذ ستينيات القرن الزائل في محاولته المثابرة والناجحة لمزاوجة المعرفة الأكاديمية بالثقافة الشائعة عبر وسائل الأعلام التي كانت محدودة آنذاك ولم تزل الأجيال تستذكر وجهه البشوش وصوته الساحر بكل عرفات عندما كان يظهر على شاشات التلفزيون ليتحدث بطريقته المقنعة وبخطابته الفذة عن موضوعات لم تكن شائعة أو معروفة حينذاك، ابتداءً من الاستشراق والتثاقف وانتهاءً بمعنى وأبعاد النقد الأدبي وبالجرجاني والمتنبي لذا استقطب هذا الرجل الودود والعلاّمة الجليل محبة الناس تقديرهم وهو يترجم معارفه الممتعة إلى لغة فنية يفهمها العالم المستنير ويدرك دلالاتها الإنسان العادي.

وإذا كان منجزه بتجسير الفجوة بين الجامعة والجمهور يندرج في حقل الابتكار والتحديث في العراق وفي سواه من البلدان العربية فان أدواته الأكاديمية التي اكتسبها في الجامعات البريطانية قد أهلته لان يبرز وبين العديد من أقرانه من الذين بقوا حبيسي قاعة المحاضرات والصيغ المدرسية المحدودة. لقد كان عناد غزوان باحثاً علمياً أصيلاً وله من الطروحات والأفكار ما أهله للارتقاء إلى مصاف كبار المفكرين وأذكى الكتاب في العالمين العربي والإسلامي ناهيك عن إسهاماته العلمية عبر مئات رسائل الدكتوراه والماجستير التي اشرف عليها وناقشها على طريق تأسيس جيل كامل من أساتذة اللغة والأدب العربي ممن تفتخر بهم المؤسسات الأكاديمية العربية والعراقية اليوم.

وإذا كان الفقيد قد خدم جسراً موصلاً بين الجمهور والأكاديمية فانه قد خدم كذلك جسراً واسعاً بين ثقافتنا والثقافة الغربية، لقد كان الرجل مترجماً رفيعاً من الرعيل الأول زيادة على انه حاول ونجح في المزاوجة بين التراث الذي عدّه بعضهم تراثاً طللياً وبين الحداثة المستوحاة من الفكر الغربي الحديث. لقد كانت كنوز عناد غزوان المؤلفة هي القاعدة التي أقيمت معها عشرات المؤلفات المعربة التي لم تزل منابع لطلاب العلم والباحثين، الأمر الذي جعل منه مرجعاً مثابراً على مواكبة العصر ودليلاً لكل من يريد أن يعرف ويتعلم.

لقد كان وليد الديوانية رحمه الله مفخرة لكل عراقي لأنه كان أشبه ما يكون بنخيل تلك المدينة الفراتية الجميلة يشرب من فراتها العذب ويضرب بعنفوان بسعفاته في عنان السماء عطاء ومحبة وعنفواناً.

ويذكر له العراقيون إسهاماته المهمة في المؤسسات الثقافية العربية والعراقية فهو من أهم الأسماء العربية في عالم الثقافة والترجمة كما انه من أصحاب فكرة تأسيس جامعة الكوفة، ذلك الحلم الذي راوده من اجل أن تستعيد مدرسة الكوفة النحوية والفقهية مجدها العربي الإسلامي العتيد، أما سجاياه فقد كانت الأسمى والأرفع في عصر نخرته الأنانية والنزاعات الضيقة والميول السياسية المجهرية، كان عناد محبوباً من قبل الجميع لذا استحق أن يكون رمزاً للجميع بغض النظر عن جميع المحدوديات.

الراحل عناد غزوان عاش ومات في قاعة المحاضرات لذا استحق شرف الوصف وقوفاً في الحياة وفي الممات. حتى بعد أن تعكز العصا أواخر أيامه. هو رجل لم يتقاعد ولم يبحث عن الانعزال والعزلة قط، كان حضوره يمل الجامعات والمؤسسات والصالونات الثقافية، لايمكن لصاحب مشروع أو لمبتكر فكرة إلا أن يعود إليه طلباً للنصيحة والمشورة لأجل الاستئناس بالرأي الحصيف بعيد النظر. وبرغم هذا الحضور الذي ملأ الدنيا بقي الرجل متواضعاً معطاء ولكن بلا مقابل، فلم يحظ برعاية غير رعاية مرتبات الوظيفة الشحيحة، ولم يدق باب احد في السلطة أو خارجها مطالباً بشيء غير حقه الطبيعي، لذا غادر الرجل منزله المتواضع وسيارته الأثرية القديمة دون عرفان من دولة أو مؤسسة خاصة، ولكن عناد غزوان بقي نجماً متلألئاً في سماء العراق وفي ظلام العصر. فهل لي أن اقبل يديك الكريمتين يا سيدي الراحل الكبير؟..

اقرأ ايضا

عناد غزوان.. بعيداً عن تعنيف النصوص

د. علي ياسين بما أن النقد الأدبي نشاط ذهني يأتي لاحقا للعملية الإبداعية، فهو يدأب …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *