رفعة عبد الرزاق محمد
لم يكن يوم 23 آب 1921 يوم تولى الامير فيصل بن الحسين عرش العراق ، حدثا تاريخيا مهما في تاريخ العراق فحسب ، بل كان حدثا جسيما ومفصليا في تاريخ الشرق العربي ، ولعل خطورته في انقضاء على ما سميت بالقرون المظلمة من تاريخ العراق بسقوط بغداد بيد المغول وانتهاء العهد العباسي سنة 1258 م ، وخضوع العراق الى دول اجنبية غازية من مغول وترك وفرس ، وقيام اول حكومة عراقية بنظام ملكي ، وخضوع العراق لنظام الانتداب البريطاني وهو من صور الوصاية الدولية وفقا لمقررات عصبة الامم سنة 1920 التي شهدت اندلاع الثورة العراقية الكبرى وما تبعها من تأليف الوزارة العراقية المؤقتة ثم قيام الدولة العراقية الجديدة واستقلالها( بدخولها عصبة الامم ) في الثالث من تشرين الاول 1932 .
يقدم كتاب ( بريطانيا والعراق .. صناعة ملك ودولة ) الصادر حديثا عن دار المدى ، اجابات للكثير من الاسئلة التي ترد حول تأسيس الدولة العراقية سنة 1921 والجهود البريطانية ( وهي جهود ليست خالصة بلا شك ) في هذا التاسيس وما حمله تاريخ العراق منذ الدخول البريطاني العسكري في الحرب العالمية الاولى من متغيرات لها ارتباط جلي بين تغيرات السياسة البريطانية والوضع العراقي بشكل تام . والكتاب في الاصل رسالة دكتوراه قدمها الباحث بيتر سلغليت في جامعو كولومبيا سنة 1976 ثم اعاد كتابته منقحا سنة 2006 ، ونهد الراحل عبد الاله النعيمي الى ترجمته ، ولعله آخر اعماله .
يقول الدكتور البرت ريحاني في تقديم الكتاب :
(( ودراسة الدكتورسلغليت الدقيقة التي تستند إلى طائفة واسعة من المصادر غير المنشورة وتسترشد بحس المؤرخ للطريقة التي تعمل بها الحكومات وتتغير المجتمعات، تساعدنا على أن نفهم، بصورة أفضل بكثير من قبل،أهداف الإدارة الإمبراطورية البريطانية وأساليبها على السواء. ويبين سرد التاريخ السياسي وتحليل السياسة الدفاعية والأمنية بوضوح أنه لم يكن الحظ أو تناغم المصالح بل الإدارة الماهرة والعمل السياسي المتحوط لكن الحازم )).
ولما كان الجانب التاريخي هو المعول عليه في مثل هذه الدراسات التي تعتمد اولا على فهم هذه المعطيات التاريخية . فالكتاب مجملا يعني بالتغيرات التي حدثت في سياسة بريطانيا المتبعة في العراق منذ احتلالها العراق في الحرب العالمية الاولى وانهائها العهد العثماني الذي استمر نحو اربعة قرون ، واعتقد ان التغير الاكبر كان في تغيير خططها مع اندلاع الثورة العراقية سنة 1920 ، بدخول ادراكها مرحلة التفكير في اقامة حكومة عراقية تمهد لقيام الدولة العراقية الجديدة بزعامة احد انجال شريف مكة الذي قاد الثورة العربية ضد العثمانيين ، وهو المطلب الرئيس لرجال ثورة العشرين ، وان يتكفل نظام الانتداب حماية المصالح البريطانية بشكل ان لا يؤثر قيام الدولة الناشئة الى تراجع حاد للوجود البريطاني في العراق .
تعتمد الدراسة الى مصادر وثائقية بريطانية متنوعة ، واغلبها كان خافيا على الباحثين العرب ، والعديد منها لم يزل بعيدا عن اعينهم ! ، واهمها اوراق المندوبين السياسيين في بغداد التي نقلت الى نيودلهي في الهند سنة 1941 ( لعل ذلك بسبب احداث مايس 1941) وهي الان في ارشيف الهند الوطني ،وتعد مصدر معلوماتي لا يقدر بثمن كما يقول المؤلف .
نتج عن الاعتماد الكلي على المصادر والمراجع الانكليزية ، ان لا نجد الا القليل من مواقف الشخصيات العراقية النافذة في عهد الانتداب ومناوراتها وصور الصراع بين البلاط الملكي والحركة الوطنية والدوائر البريطانية وفق ما تقدمه الوثائق المحلية ، ومنها المهم والمثير . ويعترف المؤلف في مقدمة كتابه بذلك بقوله : لم اكن قادرا على العودة الى مصادر ارشيفية باللغة العربية . كما ذكر في ببليوغرافية الكتاب ان المواد العراقية هي مصادر ثانوية ( يقصد وثائق وزارة الداخلية وكتب المذكرات) ولم تستخدم الا بحذر .
كما والملاحظ على الدراسات البريطانية حول المجتمع العراقي ، استغراقها في بيان الموقف المذهبي لحركة المجتمع ، ولما كان المجتمع الفلاحي هو الاكبر في العراق ، فان المصادر البريطانية تعني باكثر من غيرها بقضية حيازة الارض وما يتبعها من علاقات عشائرية ولو كانت بسيطة قبل اهتمامها بقضايا مهمة اخرى كالدفاع والتعليم ، ولعل ذلك يعود الى ان وجودها من جانبه الامني له صلة بذلك ، بينما كانت صلة الدولة العثمانية بذلك من خلال قربها او بعدها من الاتحادات العشائرية الكبيرة ، وليس مع تفرعات واقسام القبائل بشكل تفصيلي ومباشر .
ومن القضايا الخطيرة التي تناولها الكتاب في حديثه عن مقدمات تأسيس الدولة العراقية الجديدة ، قضايا هذه الدولة مع جيرانها الذين ينظرون بارتياب الى ما تخطط بريطانيا في العراق ، فالسلطات الفرنسية في سوريا ولبنان وموقفها من الامير فيصل الذي اقصته هو وحكومته العربية في دمشق كانت تنظر بقلق كبير الى ما يجري في العراق بعد مؤتمر القاهرة في اذار 1921 ووجه فيه عرش العراق الى فيصل نفسه . وموقف حكام نجد العدائي وفقا للصراع السعودي الهاشمي المعروف ، اما الجارة الشمالية تركيا فان قضية لواءالموصل ومطالبتها به لم تنته بعد وكان املها كبيرا في ضمه الى تركيا الحديثة ، اما ايران فلا ينكر تدخلاتها المستمرة وغموض الموقف الحدودي منذ ايام العثمانيين .ان الوثائق البريطانية تقدم هنا اندفاع بريطانيا وموظفيها في العراق للدفاع عن الدولة الجديدة التي انشأتها وثبتت اركانها .
وبعد، فان هذا الكتاب يهيء لقارئه فرصة معرفية فائقة ــ وفق نظرة بريطانية بلا ريب ــ لمعرفة قيام الدولة العراقية والجهود المضنية الت بذلت لتوطيدها سياسيا وعسكريا واقتصاديا . وربما كانت بريطانيا لنجاح العراقيين في فهمهم لمقدرات هذه الدولة ، كانت مجبرة على ان يكون العراق ضمن الدول المستقلة في عصبة الامم سنة 1932 .
واود هنا ان اشيد بالترجمة الامينة والدقيقة للراحل عبد الاله النعيمي ( توفي في 22 حزيران 2019) الذي قدم كتابا يعج بالاسماء والارقام والنصوص الوثائقية بشكل تشعر وكان هذه قدمت بلغتنا ، مما اضاف للكتاب متعة اضافية للاطلاع عليه وادراك حقائقه ، لاسيما للنشيء الجديد الذي يحاول فهم ما يجري اليوم في العراق من تقهقر لفكرة الدولة المدنية التي اسس العراق بموجبها سنة 1921 وفقا لاحلام تحققت في سنوات قليلة وغابت في غيرها !
اقرأ ايضا
إبراهيم عرب .. الحياة والسياسة والضحك العراقي
صادق الطائيمثل إبراهيم عرب ظاهرة اجتماعية وفنية في آن واحد؛ شخصية شعبية عراقية خرجت من …