إسكندر حبش
ربما لم يعد بإمكاننا اليوم ان نتحدث عن مفجأة شيمبورسكا. فالشاعرة التي حازت نوبل للآداب العام 1996، تبدو حاضرة في الثقافة العربية بشكل كبير، أقصد، ان غالبية شعرها أصبح مترجما الى العربية وبخاصة في الكتابين اللذين أصدرتهما »دار المدى«. ففي العام 1997، ترجم هاتف الجنابي، مختارات من شعر فيسوافا شيمبورسكا، واصدرها (عن دار المدى) بعنوان »الشاعر والعالم« (راجع سفير 17 6 97). ويعود الجنابي نفسه، اليوم، لإصدار ترجمة اخرى عن الدار ذاتها بعنوان »النهاية والبداية وقصائد اخرى« (ضمن سلسلة مكتبة نوبل، وهي سلسلة تصدرها الدار وتتضمن اعمالا لجميع الذين حازوا هذه الجائزة الأدبية على مر التاريخ).
بيد ان ذلك لا يمنعنا من العودة قليلا الى الوراء، فإذا ما كان العالم الأدبي تفاجأ بمنح نوبل للآداب الى شيمبورسكا (ولدت العام 1923 في بنين وتعيش في كراكوفيا منذ 1931)، فإن المفاجأة الحقيقية تكمن في تفاجؤ الكاتبة نفسها. إذ انه وبخلاف هذه الشعبية العارمة التي تتمتع بها في مسقط رأسها (وهي شعبية لم تخفت يوما)، وبخلاف العدد الكبير من الترجمات الى لغات العالم بأسره، الا ان الشاعرة لم تكن يوما شخصا عاما. ربما كانت »بخيلة« في ظهورها الاعلامي، وربما كانت صموتة فيما يخص الموضوعات الاجتماعية الكبرى، وربما كانت غائبة من الجدال السياسي (وهذا ما يميزها عن غالبية الشعر البولندي المعاصر)، وهي بذلك كله، ترغب حقا في ان تكون بمنأى عن كل شيء. ترغب في ان تبقى حميمية وفردانية، لذلك يأتي شعرها بأسره، ليعبر عن ذلك كله بامتياز. منذ بداياتها العام 1952، لم تصدر شيمبورسكا سوى 9 مجموعات، لا تعترف إلا بسبع منها (إذ إن أول ديوانين لها »لهذا نحيا« (1952) و»أسئلة نسألها« (1954)، ليسا سوى ثمرة الانبهار الايديولوجي المنتج في تلك الحقبة، وهما ينمحيان امام العذابات اللاحقة) من هنا، تأتي المجموعات الثلاث اللاحقة »مناداة بيتي« (1957) و»الملح« (1962) و»مائة سلوى« (1967) لتسمح لها بأن تجد اخيرا صوتها الحقيقي (وتتضمن العديد من القصائد الجميلة).
هذه المجموعات كانت التمهيد الحقيقي الذي سيؤدي فيما بعد الى الحدث الكبير، العام 1972، وهو ديوان »كل حال«، إذ استقبلته الصحافة البولندية بالعديد من المقالات والدراسات، وكأنهم اكتشفوا فيه، فجأة، فضاءً جمالياً وفلسفيا متناغما، كما وجدوا فيه نضجاً استثنائياً. ومنذ ذلك الوقت، يحدث كل ديوان من دواوينها صدى مشابها حتى انه يختفي من المكتبات بسرعة. شعر شيمبورسكا، مثلما تكشف لنا القصائد التي نقرأها (حتى بالعربية)، شعر متخلص من كل مشكلة شكلانية، منفتح بشكل »محبب« الى القارئ، يكشف لنا حفرا ميتافيزيقية، تعالجها، غالبا، بمزاج ظاهر وبدهشة كاذبة، حيث ان الحساسية القصوى، تتباهى بهذه المسافة في الابتعاد التي تحاولها، كما بهذه السخرية. صحيح ان شعرها يخدش في أغلب الاحيان، لكنه لا يسقط في المرارة أبداً. التأمل يبدو التأمل في شعر شيمبورسكا، حول الوجود وحول الكائن وحول الموت، وكأنه يأخذ طرقا مختلفة. »فالأنا« بعيدة عن ان تكون، الاساس الذي يتأسس الشعر عليه. من هنا، فإن تجربة اليومي والحساس، تقف على بُعد جيد من الانغلاق داخل تأملات فلسفية مستلّة من نسق الشعر ذاته. من هنا، نجد ان القصيدة البحث عند شيمبورسكا، تروي »قصة« بشكل مصور، حيث ان هدفها يكمن في تصوير تساؤل وجودي. بيد انها، مع ذلك، لا تقترح اجابات عن اسئلة ذات طبيعة مفتوحة. إنها لا تنوجد عبر السخط، لأن الشاعرة تبقي عواطفها بعيدة. تقصي كل تظاهرة للأنا. القصيدة ترتاح فوق غموض اللغة، تحاول قول الموضوعية. كما لو انها تؤكد معنى التاريخ، باتجاهيه »المع والضد«، لذلك تبقى الشاعرة مخلصة للشكل الحكائي الذي تزرعه احيانا بالحوارات في العديد من قصائدها.
شعر شيمبورسكا، يلح على تعقد كل الاشياء التي تنسج الوجود، وهي تلعب على اللغة حيث تمارس متاهاتها المؤسسة على المزاج والتهكم. لذلك يبدو شعرها كأنه يلقي الضوء على ارتباك الواقع، على الرغم من انه شعر يلقي بتأكيداته على الوجود كما لو انه سبب وجوده هذا. من هنا، جنوح الاخصائيين الى القول ان شعرها فلسفي ويبحث في موضوعاته في الميتافيزيقيا. النهاية والبداية عملياً، يشكل ديوان »النهاية والبداية« آخر الدواوين التي أصدرتها شيمبورسكا. انه بداية النهار. فيه تتأمل العالم، تثمّن البحيرة والشجرة التي تجلس تحتها لتتأمل الماضي، لتتأمل بدايات كل شيء. كيف نعيش هنا حيث عاش آخرون وتألموا وأحبوا؟ فبدون هذا الوعي لا يبقى ابدا اي شيء من هذا الوجود كما لو ان شيئا لم يحدث. فبعد الحرب والسديم والمذابح حتى وإن لم تجنح الكاتبة في وضع استيهاماتها، الا انها تتبدى شاهدة على هذه الكارثة. لذلك تحاول من جديد ان تعيد بناء ولحاجتها نظام صغير للحياة مستقل عن الارادة البشرية. فبعد الموت تعود الحياة لتبدأ من جديد انها بداية أبدية مستعادة عبر النظام المعاكس لعبارة العنوان »البداية والنهاية«. في واقع الأمر، ما بين نظام البداية والنهاية في هذه الحركة الدائرية، لا نجد ابدا اي نهاية او بداية. فكتاب الاحداث (اي الحياة بمعنى آخر) مفتوح دائما من وسطه. من هنا، إن السؤال الذي لا يتوقف عن البداية يحيلنا على جواب مبهم بشكل كبير يفترض اللامعرفة واللايقين. ففي قلب البداية الأبدية، ليس هناك من نقاط محددة نستطيع ان نشير اليها، الى البداية والنهاية. ثمة تقليد عند شيمبورسكا، تجده في جميع كتبها، فالقصيدة ترتاح على مشاهد محسوسة من الحياة، تصور جيدا الموضوعات الكبيرة التي تجتاز المجموعة: الموت والنسيان والعودة الأبدية. فتسطيح الكتابة وتقريبها من النثر يبدو وكأنه يضع الواقع البشري دوما موضع الشك. كل ذلك عبر تحكم الوعي في مجمل عملية الخلق الشعرية. فيسوافا شيمبورسكا، شاعرة خارج المألوف، على الأقل بالنسبة الينا، نحن الذين اعتدنا شعرا يتأسس على سخط وصراخ ومباشرة. فكل ما تكتبه الشاعرة، ليس في العمق، سوى مساءلة الشعر عبر الواقع. إسكندر حبش
عن ارشيف جريدة السفير
اقرأ ايضا
“قراءة غير ملزمة” يكشف الجانب الخفي من النوبلية شيمبورسكا
شريف صالحكانت الشاعرة شيمبورسكا تقدم مراجعات لما تقرأ من كتب، وطبعت مقالاتها في أجزاء عدّة …