ياسين طه حافظ
رحل عن عالمنا قبل أيام قليلة الشخصية الوطنية والفكرية نجيب محيي الذين الذي يعد علماً من أعلام الحركة الوطنية في العراق ، وفي هذا المقال أسجل بعضاً من ذكرياتي مع الراحل :
في 1960، أنا طالب في السنة الثالثة قسم اللغات الأجنبية ، الشعبة ب ، دار المعلمين العالية، أو كلية التربية.
الجو السياسي صاخب، فوضوي قليلاً. حماسات حقيقية مخلصة من الجميع. بسبب أعدادهم الهائلة من الماركسيين بالذات،.
أمواج من البشر المتوثب الناري، كلاماً وفعلاً وحراكاً سياسياً ونشاطات اجتماعية مرتبطة بالسياسة أيضاً! اجتماعات حزبية في غرف الأقسام الداخلية وفي الصفوف الفارغة بخاصة في الطابق العلوي، وفي أمكنة منزوية تصلح للغرام اليوم!
ياسين طه حافظ شاعر واضح الصوت هناك. حتى إذا أوشكت السنة على الانتهاء وفي حفلٍ شعري، أعلن مقدم الحفل المرحوم محمود الجادر، وهو شاعر الكلية، يقدمني في الحفل:
اقدّم لكم شاعر الكلية ياسين طه حافظ !
وعجبت وعجب المحتفلون لهذا التنازل، كما أكبرت أنا روحه وشجاعته على الإقرار بأهمية غيرهِ!
كان لاتحاد الطلبة غرفةٌ صغيرة لا تتجاوز الأربعة عشر متراً مربعاً ، مزدحمةٌ دائماً، عشرة يدخلون وعشرة يخرجون والأستاذ اليوم د. مهدي الحافظ، رئيس اتحاد الطلبة، يحل المشاكل ويوجّه المختلفين والمتسائلين بهدوء وحصافة وحكمة رجل يرى الأمور وحلولها بوضوح .
يوماً ، وصلني “تكليف” بأن اتوجه الى نقابة المعلمين، فهم بحاجة إلي! النقابة كانت في منطقة البتاويين خلف سينما النصر أو سينما بابل.
حين دخلت النقابة، كانت على اليمين غرفة نقيب المعلمين، هناك رأيت شخصية مُطَمْئِنَة، مُحِبّة، مهذبة الكلمات يُكلّم من حوله مثل حكيم. وبين جملة وجملة يشير بهدوء محاولاً تهدئة من أمامهُ، اقناعه بالصبر قليلاً. كان ذلك هو نجيب محي الدين
وكان عليَّ من بعد التوجّه الى المناضل الكبير، سكرتير النقابة د. صفاء الحافظ. لم أرَ صفاء من قبل. سمعت صوتاً ويداً على كتفي: أين ياسين ؟ التفتّ إليه واتجهنا الى غرفة في الطابق العلوي، قال لي: هذه غرفتك!
كان صفاء مؤدباً حازماً جملتُهُ محسوبة الكلمات ولا تقبل المساومة. يعمل مثل مخلوق للنضال ولانجاز مهمة واضحة تفاصيلها لعينيه ولفكره ولروحه. لم أرَ حزبياً مُتْقناً ودقيقاً مثله. ولم أرَ أكثر منه تواضعاً ولطفاً إنسانياً. يوجّه بمحبة ويصوّب الخطأ بمحبة! قال لي:
أنت مسؤول عن لجنة النشر وما سمعته من صفاتك جعلني اختارك.إعلم أنك طالب وفي القسم الداخلي وهو بعيد من هنا، ولكننا نحتاج لك لتساعدنا. عملنا كبير!
كان ذكياً وله ذاكرة لا يمكن أن تنسى شيئاً. إذا كلفني يوم الخميس باعادة كتابة سطر، فهو يوم السبت يسألني عنه!
وفي النقابة كانت شخصيات محببة أمثال: متي الشيخ والظالمي ويتعاون مع اللجنة الثقافية : الأساتذة علي الشوك وجميل نصيف وغانم حمدون وأمجد حسين وآخرون.
في زحام العمل النقابي – السياسي أصلاً وفصلاً- وتعقيدات واضطراب ولا وضوح في الوضع السياسي واختلاف الأمزجة أو تقاطع المنافع الفردية مع الأهداف العامة واختلاف الأمزجة في التعامل مع الظاهرة – أو المشكلة الواحدة – لم يكن اتخاذ القرار سهلاً .
ومع بدء الخوف، بدأ يتغيب “اللاحقيقي” وصار يقل الزحام والنقاش في النقابة وقل المترددون عليها.
في هذا الجو حيث الرؤية صعبة، كان : استاذي وأخي نجيب محي الدين كان يدير النقابة بمحبة الوطني المتسامي. كان حكيماً هادئاً لا يرتاح للتطرّف والتجاوز . كان وطنياً متماسكاً لا تفارقه الحصافة في الرأي والسلوك.
شخصية “نجيب” علمتني التواضع والنظر الى الأمور بتأنٍ. علمتني الإلمام بالموضوع قبل الحماسة له .. علمني أن الأخلاق قبل العمل. وأن نكون وطنيين أولاً .
أنا ونجيب محي الدين، ومنذ أكثر من خمسين سنة، لم نفترق طويلاً. تسألني عنه اليوم، أقول :
نجيب محي الدين كتاب حيُّ في الأخلاق والوطنية
منذ بدايات الحركة الوطنية في العراق كانت هذه حاجة لتحقيق أي إجماع وطني باتجاه الهدف. كان العراق قبلة الجميع والرؤى والاجتهادات لكن مصادر التشجيع -او الدعم- مختلفة !
ومنذ البداية كانت الحاجة لرأي عراقي، عراقي نظيف. وكان صوت التنوير بين الدينيين، السيد جعفر ابو التمن، الحبوبي، الشيخ مهدي الخالصي يتحدث بهذا الاتجاه وتحت راية متطلبات الجهاد.
كان المدنيون بدءاً بالعراقي الكبير كامل الجادرجي، يحاول تحقيق منجز سياسي بالاتجاه العراقي، نحو الوطني المشترك. وكان “فهد” والرعيل الاول من قادة الحركة الشيوعية في العراق يعملون بهذا الاتجاه. إجماع وطني على “العراقية” المشتركة. لا أحد يدعي غيرها ولا أحد ينكرها وهو يتجاوز للأبعد منها.
فكان هناك توافق. ولم يكن الاختلاف مع القوميين وسواهم اختلافاً وطنياً. كان اختلافاً على الأولويات.
نجيب محي الدين في سيرته كلها، ظل يحمل تلك الروح. ظل وطنياً صافياً غير مشوب بمنفعةٍ أو بتأثر جانبي. كما ظل واعياً يأسف للأخطاء التي تُرتكب، وحتى اليوم ! ما انقطعت علاقتي بنجيب منذ أيام النقابة 1960 وحتى اليوم. نجلس معاً نتحدث في الشأن الوطني وفي كلانا شعور بالأسف لما يجري.
اقرأ ايضا
شذرات من ذكريات نجيب محيي الدين
اعداد واختيار : عراقيونطفولتي كانت في مدينة الخالص فانا من مواليد 1925 لم اقض فيها …