توفيق التميمي
قضيت أكثر من ستة أشهر كي أنهي مقابلتي مع نائب رئيس المجلس العراقي للسلم والتضامن القيادي في الحزب الوطني الديمقراطي ونقيب المعلمين في عهد عبدالكريم قاسم لدورتين متتاليتين نجيب محيي الدين، تعلمت منه خلال هذه الفترة دروسا واخلاقيات اكثر فائدة من القيمة التاريخية نفسها للوقائع والاحداث التي سردها لي في هذه الشهادة.
فلم أكن محتاجا لكلماته الاخيرة وهو يودعني عند بوابة منزله الواقع في شارع فلسطين فيما يؤكد صدق كلامه وشهادته فيما رواه لي من وقائع وأحداث وتوصيفات بحق شخصيات وأحداث ومواقف، كان شاهدا عليها عن قرب لأكثر من نصف قرن وبما اسعفته الذاكرة، كنت لا أحتاج لبرهان على صدق شهادته حرفا حرفا وكلمة كلمة، لأني لمست من الرجل أثناء المقابلة سمة الاعتدال والتوازن والموضوعية والانصاف في كل كلمة قالها بتأنٍ وصبر ليكون دقيقا في أوصافه او استذكارته ولكي لايبتعد عن الأمانة في سرد الأحداث، فتراه يختار من الكلمات والجمل ألطفها وأرقها حتى وهو يوصف خصومه السياسيين الذين اذاقوه مرارة الاعتقال والفصل من الوظيفة والتشويه الباطل، كما لفت نظري في شخصيته حرصه التام على تجنب اثارة الحساسيات التاريخية، وتسليط الضوء على مسببات الخلاف بين رفاقه مؤسسي الحزب الوطني الديمقراطي التي كانت من جرائها حصول تصدعات وخلافات لم تؤثر في تصديع البنية التنظيمية لهذا الحزب فقط، بل اثرت كذلك في اهتزاز وخلخلة البنية التنظيمية الحزبية لقوى اليسار والديمقراطية في مواجهة المد العسكري والارهابي طيلة العهدين الملكي والجمهوري.
شعرت بحزن وانا اغادر بيت هذا الرجل الذي كان يودعني بعد كل لقاء بباقة ورد ملونة يقطفها من بستانه الكبير المحيط بداره التي لم يجرف مساحاته الخضراء اي بناء اضافي ملحق او مشتمل كما يفعل جيرانه وكما نراه في احياء بغداد الراقية منها والشعبية بعدما انشطرت العوائل وانشطرت معها البيوت الساكنين فيها.
شعرت بالحزن لنهاية هذه الساعات الجميلة التي قضيتها بالقرب من شاهد على زمان الخير والعفة والنزاهة والجمال الذي غادرنا منذ زمن طويل .
تمنيت العمر المديد لنجيب محيي الدين المولود العام 1925 في قضاء دلتاوه( الخالص في ديالى ) لكي يبقى لأطول فترة ممكنة شاهدا حيا لزمان ضاعت ملامحه البيضاء وغابت خصال اهله الطيبين المعروفين بالعفة والنزاهة والولاء للعراق الواحد دون تشظياته العشائرية او الطائفية او الدينية التي نلمسها هذه الأيام .
رفض نجيب محيي الدين بأدب طلبي بتدوين مآثره ومنجزه الشخصي وهو يروي شهادته للتاريخ، بالمقابل حرص أشد الحرص على رواية مناقب آخرين عاش معهم وشاطروه أيام السعادة والرخاء وأيام الشدة والاعتقال، أروع ما تلمسه في شخصية مثل محيي الدين المعافاة تماما من وباء الطائفية والتحيز المذهبي التي ابتلى بها أغلبية الساسة في السنوات الأخيرة من تاريخ العراق، وسيبتلي بها جيل باكمله يتنفس هواءها العفن من خلال خطب وفضائيات وفتاوى متناقضة وتلقينات عائلية مسمومة، فلم اتمكن من تمييز مذهبه الديني رغم معاشرتي له خلال ستة شهور من عمر مقابلتي معه(كان يفصل بينها رحلة علاج لعمان استغرقت اكثر من شهرين )، فمعيار المفاضلة لديه في تقييم الناس والأحزاب والشخصيات العراقية هو مقدار الولاء للعراق والتفاني من أجل تحقيق المشروع الديمقراطي بنكهته العراقية التي ظهرت بوادرها في مقالات جريدة الاهالي، التي صدر عددها الاول في مطلع العام 1932 وواظب محيي الدين على قراءاتها منذ معاودة صدورها في العام 1943باسمها الجديد (صوت الاهالي)، وكانت بوابته للدخول والانخراط في صفوف الحزب وعن قناعة راسخة منذ ايام تأسيسه الاول والذي اجيز في وزارة توفيق السويدي يوم 2-4 -1946.
تبوأ محيي الدين منصب نقيب المعلمين في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم لدورتين متتاليتين بين الاعوام 1959و1960، وحقق خلالهما انجازات للأسرة التعليمية مازال يتذكرها الاحياء منهم او ابناؤهم او أحفادهم من توزيع قطع أراضٍ بأثمان رمزية وضمانات صحية وتسهيلات لاكمال دراساتهم العليا وغيرها، كما تبوأ منصب مديرعام للتعليم الابتدائي في عهد الزعيم قاسم، وخلال هذه الفترة لم يثبت خصومه السياسيين من حكومة الحرس القومي وهم يودعونه الاعتقال لمجرد انه موظف ونقابي في حكومة الزعيم قاسم اي دليل مادي يثبت تورطه في قضية فساد او تلاعب اداري مما اضطرهم لأطالة مدة اعتقاله فعسى ان يعثروا على دليل واحد لادانته ومن ثم محاكمته ،ففشلوا في مسعاهم وسقطت حكومتهم بدبابات القوميين رفاقهم وبقي محيي الدين رهن الاعتقال حتى اطلق سراحه بعد اعادة التحقيق معه في عهد عبدالسلام محمد عارف وكان يرأس اللجنة التحقيقية التي اطلقت سراحه القاضي ورائد القصة العراقية فؤاد التكرلي بتفاصيل سيطلع عليها قارئ هذه الشهادات وهذا دليل دامغ على عفته الوظيفية من قبل خصومه، هذه وغيرها من قصص النزاهة رجاني على عدم تدوينها في سياق شهادته لانه لايعدها مأثرة تخص شخصه بل هو سياق اخلاقي عرف به جيله من الموظفين والسياسيين وتكاد حالات الشذوذ عنها تكون نادرة جدا وشاذة.
ولكنني أرويها هنا كقصص لابد منها للتذكير بسجايا النزاهة الوظيفية والعفة الاخلاقية التي كانت تتسم بها مفاصل الدولة العراقية وموظفوها حتى نهاية ستينيات ومطلع سبعينيات القرن السابق:
الاولى: تتعلق بمبادرته التي انجزها بمؤازرة حكومة قاسم ووزير ماليتها صديقه محمد حديد بتخصيص أراضٍ للمعلمين بحدود اكثر من 1000قطعة موزعة بين الرصافة والكرخ بشروط المفاضلة المعروفة بعدم امتلاك بيت او عدد الاطفال وما الى ذلك من نقاط المفاضلة، كان محيي الدين رئيس نقابة المعلمين آنذاك وصاحب المبادرة يسكن بيتا مؤجرا من بيوت المميز في جانب الرصافة مدفوعا ايجاره لثلاثين عاما بطريقة المساطحة المعروفة فهو ضمن التعليمات مشمول بشروط وامتياز الحصول على الاراضي ولكنه اضاف شرطا يستثنى من يسكن دارا بايجار المساطحة من الاستفادة من الاراضي الموزعة للمعلمين،ليحرم نفسه من امتياز يرى ان زملاء اخرين احق منه فيها، طبعا لم ينفرد محي الدين بهذه النزاهة والعفة ولن يتفاخر بها فهي جزء من منظومة اخلاقية كان يتسم بها الموظف العراقي في هذه المرحلة من موقع رئيس الوزراء نزولا الى فراش المدرسة، والشاذ الغريب كان في تلك الايام هو سرقة المال العام والعبث به وسبحان مغير الاحوال الذي جعل الامور تنقلب على قفاها بايامنا هذه.
القصة الثانية التي رجاني محيي الدين على عدم ذكرها او تدوينها هو طلب قدمته له شقيقته المعلمة التي تسكن بعقوبة مع امها (وهي امه) بالطبع تطلب النقل فيه من بعقوبة الى بغداد استثناء من التعليمات والضوابط الادارية لوفاة والدتها وبقائها وحيدة في بعقوبة فقدمت لأخيها المدير العام للتعليم الابتدائي الذي رفض الطلب رغم الظروف الاستثنائية لشقيقته المعلمة بسبب مخالفتها لشروط وتعليمات انتقال المعلمين التي تقتضي ترويج معاملات نقل المعلمين عقب نهاية الموسم الدراسي.
أساطير النزاهة
عندما اسمع مثل هذه القصص من هؤلاء الرجال النبلاء وكأني اسمع اساطير ومعاجز لو طابقتها بما يجري من دمار وتحطيم لقيم العفة والنزاهة هذه الايام والتي حارب وكافح من اجل ارسائها نجيب محي وجيل كامل معه، لجمعت فصول رواية واحدة من العبث والمفارقات الصارخة في كتاب تاريخي واحد، ونحن نشهد اليوم انهيار هذه القيم وانتعاش اللصوصية على اعلى مستويات الهرم الاداري في الدولة العراقية ومرافقها الادارية وحتى الاهلية التي شملت المنظمات غير الحكومية التطوعية .
اني لم اودع عند نهاية المقابلة شخصا دمثا ولطيفا لاينتمي لزماننا هذا فقط، بل ودعت قيما اخلاقية افتقدناها وغابت عنا فكان ذلك وراء الخراب الماثل على يومياتنا التي لانعرف نهايتها وموعد غياب هذه الاورام الاخلاقية الطارئة عنها وعودة ذلك النقاء العراقي الاصيل والتفاني والوطنية التي اصبحت نقرأها فقط في مرويات وسرديات امثال نجيب محيي الدين الشهود الاحياء لذلك الزمن الجميل البهي
ستبقى كلماته التوديعية يتردد صداها في قلبي قبل ذاكرتي:
))يشهد الله علي بأني كنت صادقا وامينا في كل كلمة قلتها في هذه الشهادة وكنت امينا كذلك في رواية الوقائع التي اردتها من اسئلتك، الا انني اعترف اني اخفيت متعمدا بعض الوقائع والمواقف ربما لاعتبارات اخلاقية وسياسية وفيما عدا ذلك فان اصدق اقوالي في هذه الشهادات واتركها للاجيال المقبلة ومن يريد ان يبحث في تاريخ ومرجعية النقابات بشكل عام ونقابة المعلمين بشكل خاص وكذلك من يريد ان يبحث او يتقصى في تاريخ الحزب الوطني الديمقراطي الذي انخرطت في صفوفه منذ تأسيسه في العام 1946 وحتى يومنا هذا ((.
ولادته في قضاء الخالص منتصف عشرينيات القرن السابق من اب مثقف يواظب على قراءة المجلات والصحف خريج المدارس العثمانية كما انه كان يحتفظ بمكتبة صغيرة لم تسمح له والدته بالاقتراب منها حتى وصل نجيب للمرحلة المتوسطة ربما بناء على وصية تركها الاب لزوجته، وبيئة سياسية مشحونة بالعداء للمحتل البريطاني،ولحظة فاصلة للعبور من استعمار عثماني لاخر بريطاني،كانت كلها تشكل الحاضنة الاولى للطفل الذي سيصبح رمزا وطنيا ونقابيا في تاريخ العراق الحديث، منذ طفولته كان متوازنا في مذهبه الديني ومنهجه الحزبي يمقت التطرف بكل اشكاله وتمظهراته،لايفهم اليوم نجيب محيي الدين كيف يكون السياسي العراقي المخلص متعصبا دينيا او طائفيا او مذهبيا كما لايفهم كيف يخون الموظف والمسؤول امانته الوظيفية في فساد اداري او لصوصية مالية.
علاقة مع الجادرجي
رغم ما مر به الحزب الوطني الديمقراطي من اختلافات وتصدعات حزبية سيكون لها حيزا في هذه الشهادة فانه ظل على علاقة وثيقة بجميع اطراف هذا الحزب المختلفين والمنشقين، ولعلاقته المديدة بالحزب الوطني الديمقراطي ورموزه، لاسيما مؤسسه الاول الاستاذ الجادرجي فسيصبح محيي الدين احد الشهود الاحياء لقراءة تاريخ هذا الحزب وموقعه على خارطة الحركة السياسية والحزبية في العراق من جهة وتاريخ القوى الديمقراطية ومنظماتها من جهة اخرى، كما سيكون مرجعا لتقييم التجربة الديمقراطية في العراق بكل تألقاتها واخفاقاتها الطويلة، والتي هي جزء من فشل كوني في جميع بلدان المنطقة.
الشهادة التالية ستكون فرصة للباحثين في تاريخ النشاطات المهنية والنقابية، لاسيما نقابة المعلمين الذي كان احد ابرز ناشطيها ونقيبها الثاني بعد وزير الارشاد في عهد قاسم فيصل السامر.
استطيع القول بعد تحريري لهذه الشهادة وتعرفي على صاحبها عن قرب وسجاياه التي تفارق سجايا ومميزات بعض ساسة اليوم الذين يظهرون بالشـــــاشات ويملؤونها بالزعيق والصياح، حيث انه لم يغادر هدوءه واتزانه طيلة زمن المقابلة معه، فان مثل هذه الاخلاقية وحدها بغض النظر عن القيمة الوثائقية والتاريخية لهذه الشهادة فانها تكفي لدراسة مرحلة تاريخية كاملة كان أنموذجها النقابي والمعلم والحزبي نجيب محيي الدين.
هذه المادة سبق ن نشرت في صحيفة الصباح للصحفي المغيب توفيق التميمي
اقرأ ايضا
شذرات من ذكريات نجيب محيي الدين
اعداد واختيار : عراقيونطفولتي كانت في مدينة الخالص فانا من مواليد 1925 لم اقض فيها …