نص نادر..من أوراق مصطفى علي في العشرينيات

إعداد : ذاكرة عراقية
كانت معزز برتو مديرة مدرسة البارودية الابتدائية للبنات، فتاة تقدمية.. درست في تركيا في إسطنبول.. البيت الذي شغلته مدرسة البنات، كان يعود الى عائلة فهمي المدرس.. هذا البيت كانت تشغله من قبل ذلك مدرسة البارودية للبنين.. اخ فهمي المدرس، وهو جميل المدرس، كان مولعاً بزرع الورود “بالسنادين”، كان يتردد على المدرسة للعناية بازاهيره، ولم يمنعه مدير المدرسة ناجي القشطيني، لأن المدرسة كانت للبنين، ولكن عندما حلت مدرسة البنات محل مدرسة البنين، أراد جميل المدرس مواصلة زيارته، إلا ان المديرة معزز برتو، رفضت الإذن له بالدخول، لأن التقاليد لا تسمح بذلك. زعل جميل المدرس وكتب كلمة ضد معزز برتو، نشرها في جريدة كانت تصدر آنذاك في بغداد اسمها (البدائع)، يصدرها داود العجيل. نشر المقال في عددين.. لم اكن مطلعاً على المقال.. ولكننا كنا حسين الرحال وسليم فتاح وانا، طلاباً في كلية الحقوق. سليم في الثاني وحسين وانا في الأول. وفي صباح يوم باكر، كنا في مقهى الشابندر، القائمة الآن قرب المحاكم. وما زالت المحاكم هنا، فان هذا المقهى لن يتبدل. دخلت فوجدت توفيق الفكيكي يكتب شيئاً، سألته عما يفعل فقال: انا ارد على (الطبيب الاجتماعي) الذي رد هو الآخر على مقال جميل المدرس (الذي نشر باسم مستعار). اخذت المقال الذي كتبه الطبيب الاجتماعي، وقرأته فوجدته جيداً. قلت لتوفيق: هذا المقال جيد. لماذا ترد عليه، وشرحت له وجهة نظري. قال توفيق: تصورت انك معنا. قلت له: لا انا لست معكم.. ولا تزعلوا اذا قمت بالرد عليكم في حالة نشركم آراءكم. توفيق الفكيكي نشر مقالاً.. هاجم به الطبيب الاجتماعي (سامي شوكت).. وقمت انا بالرد على توفيق. هذه هي بداية المعركة. بعد ذلك قام شخص آخر بتأييد توفيق الفكيكي.. وقع مقالة باسم م.ع.ع. (مصطفى عزت عبدالسلام) أخ محمود عزت عبد السلام وهو متقاعد الآن.. عوني بكر صدقي ردَ على م.ع.ع.
وهكذا انتقل الموضوع من مسألة تعليم البنات على الموسيقى والرقص الخ… الى قضية السفور والحجاب. هكذا انزلقنا الى معركة، لم نفكر فيها في البداية.. كنا نحن بجانب (السفوريين)، والآخرون (الشعب كله الا القليل) كانوا بجانب (الحجابيين). هاجمنا بعض المتزمتين وخطبوا ضدنا.. واحلوا دماءنا لأننا طالبنا بحق المرأة بالسفور.. الجرائد بدأت بهجوم شديد علينا (شتائم).. اضطرت الحكومة بعد مراجعة هؤلاء الأشخاص الى غلق باب النشر. ولكن في الواقع أغلقته بوجهنا فقط، بوجه السفوريين. اطلقت يد الحجابيين وقيدت ايدينا.. واصبحنا مثل الشخص مقيد اليدين، يضرب ولا يستطيع الدفاع عن نفسه.. شتائم لا توصف.. مثلاً مقالات (مصطفى القاضي) الذي استخدم الفاظاً غير لائقة.. وطالبونا بإخراج امهاتنا واخواتنا سافرات!
انا كنت في الواقع انشر بأسماء مستعارة كثيرة.. لكن عندما كانت المسألة تحتدم في النقاش، كنت اخرج باسمي الصريح، ولا اتستر.
هاجمنا بهجت الاثري، إبراهيم ادهم الزهاوي، حسين علي الظريفي.. ملا عبود الكرخي.. آه.. شاعر شعبي.. يؤثر على الشعب اكثر من عندنا.
ثلاث قصائد، واحدة منها المنشورة في الجزء الثالث من ديوان الكرخي (مع كلمة كنت قد نشرتها في حينه). يقول الكرخي:
شوفوا شلون جوگه شعيطها ومعيط
واحد يحلق الشارب وواحد يحف بخيط
بيهم ولد شعره يشبه الخريط
(هذا على عوني)..
بعد ذلك صدر مقال بتوقيع (لامعة). ولكن الى يومي هذا لم اعرف هل ان (لامعة) انثى ام رجل متستر بتوقيع مستعار. لقد حاولت كثيراً، لكن لم اعرف الحقيقة. وقد تناولها ملا عبود بقصيدة:
يا اديبه لامعه شعري لنثرك دافعه
. . . . . . . . . .
وين لبشر مصطفى والماي بالجره صفى
اما نحن، عندما رأينا ان باب النشر قد سد بوجهنا، والهجوم يشتد علينا يوماً بعد يوم، قال حسين الرحال: انا عندي امتياز صحيفة، فقررنا إصدارها.
اصدرنا العدد الأول من ( الصحيفة ) في تشرين الثاني على ما أتذكر 1924.. اصدرناه بهدوء.. لم يشاهد خصومنا، سوى قنبلة رميت عليهم فيها مقالات تتمة لمقالات سليم فتاح.. فيه افتتاحية كتبتها انا، على ما اظن، مقال لحسين الرحال.
عندما صدر العدد الاول من الصحيفة.. سكت الحجابيون كلهم على الاطلاق.. أتذكر ان توفيق الفكيكي شاهدنا على اثره عند محمود حلمي فقال لي:
ولو انكم ضدنا.. الا انني اهنؤكم على هذه المجلة. صدرت الصحيفة فسكت الحجابيون.. استمر النزاع بين الصحيفة، وبين الرجعيين في ذلك الوقت.. تغلبوا علينا بانهم قاومونا مقاومة شديدة.لم يسمحوا للصحيفة بالانتشار، من جملة المقاومة ارسلوا الينا اثنين قالا انهما على استعداد لجمع الاشتراكات.. وقعنا وصولات. اخذاها ولم يعودا.. لم نقم ضدهما دعوى.. احدهما لم اره والآخر انتسب الى الجيش. كلنا من المفاليس آنذاك.
اول ما تعرفت بمحمود السيد وحسين الرحال عام 1920، تعرفت عليهم بواسطة عوني بكر صدقي.. الذي كان طالباً معي في دار المعلمين، ومحمود احمد كان يزوره في هذه الدار. كنا نلتقي في حفلات المولد النبوي، وعزاء الحسين التي كانت تقام في الجوامع قبيل ثورة العشرين، بقصد تحريض الشعب على مقاومة الإنكليز.. كان زعماء الشعب العراقي قد وجدوا طريقة للاجتماع هي طريقة المولد والتعزية.. كان ذلك تمهيداً لثورة العشرين. ملا عثمان الموصلي كان حياً. وجلبوا ايضاً مهدي البصير من الحلة. وبعد قراءات موجزة كان الاجتماع ينقلب الى خطب وقصائد ثورية ضد الاستعمار.. الحفلات التي كانت تقام في بيوت العبادة، كان الغرض منها المناداة باستقلال العراق وطرد الاستعمار.
كانت هناك غرفة في جامع الحيدرخانة لأحد، هي للسيد احمد ابو محمود، لأنه كان خطيباً في الجامع. اما انا فلم اذهب الى جامع الحيدرخانة ولم ادخل الغرفة ولم اجتمع بأحد هناك. اما هذه التقارير التي ترونها فلا تعتمدوا عليها.. هذه تقارير من جواسيس لا يعرفون شيئاً من الحياة اكثر من ان يقدموا تقريراً حتى يأخذوا اجرة.
كان يجري حديث حول الافكار التقدمية دون شك. خاصة حسين الرحال وسليم فتاح. سليم كان يناقش بقوة أفكار ماركس.. لم يكن ضدها ولكنه كان يناقشها.. حسين يرد عليه، ويحتد في كلامه اخيراً.. كانت مقهى النقيب مركزاً لهؤلاء الشباب، حيث يدور جدل و.. كنا بصورة عامة نعرف ان روسيا مزقتها الحرب، ودخل فيها الحلفاء وصارت فيها ثورة يسمونها ثورة أكتوبر وزعيمها اسمه لينين، الذي استطاع ان يخلص البلاد.. إلا اننا لم نعرف مبادئها ومصادرها.

اقرأ ايضا

العراق في سنوات الحرب العالمية الثانية..الأزمة الاقتصادية ومركز تموين الشرق الاوسط

د. عدنان القطانارتأت الحكومة البريطانية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية تخفيف بعض التزاماتها الاقتصادية تجاه …