وديع العبيدي
مدينة عشت فيها أعواماً قليلة، وعاشت فيّ كلّ أعوامي، تاركة بصماتها على صيرورتي.»
باع أهلي البيت في (محلة اللوكه) قره غان (جلولاء) بمائتين وسبعين ديناراً لعائلة من نفس المحلة [أرملة جسّو(جاسم)] في الصف المقابل وانتقلنا إلى مدينة بعقوبا. الفضاء المنفتح من كل الأطراف لا تحده تضاريس طبيعية أو عوامل مانعة سوى نهري خريسان وديالى وعلى كل منهما جسور وقناطر مريحة. كنت في أول عقدي الثاني، وقد حملت معي هواياتي الأولية في القراءة والرسم، لتتبلور وتتعمق وتتأكد في مدينة بعقوبا التي شهدت أول كتاباتي ونشرياتي ومشاركاتي الثقافية وفوزي بأول جائزة أدبية، في منتصف عقد السبعينيات، الذي موضع تحولات جذرية متناقضة هيأت لأبشع دكتاتورية مأجورة في تاريخ بلاد ما بين النهرين، صادرت كل ما هو جميل وحقيقي وجدير.
تشكل بساتين الفاكهة والحمضيات القسم الأعظم المحاذي للأنهار، بينما تتسع غابات الأشجار الجافة والنخيل مع الابتعاد عن ضفاف الأنهار داخل العمق. وحتى أوائل سبعينيات القرن الماضي كانت آثار غابات النخيل واضحة في الجانب الشرقي لطريق بغداد – شهربان الرئيسي، الموقع الذي تشغله اليوم منطقة (مدينة) التحرير خلف محطة القطار. وكان سكننا في بعقوبا في المنطقة المسماة (أم النوه)، و [النُّوَهْ ] هي النواة داخل التمرة، ثمرة النخيل. وكانت مدرسة (ساحة) الأمين هي نهاية (أحد أركان) المدينة يومئذ، وإلى الخلف منها باتجاه (المبزل) طريق مندلي نخلات متناثرة مختلية بنفسها أو كما يقال (أعجاز نخل خاوية) وبداية انشاء بعض دور سكنية خلالها مثل (المستوصف البيطري) يومئذ.
بساتين ديالى.. وقف الحكومة
(وقد جذبت خصوبة نهر ديالى وكثرة بساتينه رجالات الحكم والمتنفذين، لاقتطاع مساحات واسعة من الأراضي، بعد أن وضعوا عليها أتباعهم وأذنابهم يستغلونها ويستثمرون غلاتها.) ص25 من كتاب “يوسف عزالدين شعره وتجديده”. ويروي أهالينا أن الملك وحاشيته كانوا يمرون خلال المدينة في مواعيد محددة من العام.. ماضين نحو أعالي ديالى.. حيث يقضون أوقاتاً في منتجعاتهم وإقطاعاتهم خلال الصيف.. والمعروف أن حكومة ياسين الهاشمي الأولى في الثلاثينيات هي التي أقرت قانوناً لتمليك أعضاء الحكومة والبلاط والبرلمان اقطاعات من أراضي العراق، وكانت أراضي ديالى الزراعية وبساتينها المحاذية لمجرى النهر تحديداً من حصة البلاط، وقد استمر العمل بهذا القانون طيلة العهد الملكي. وهو من القوانين التي أعاد الحكم البعثي الشوفوني إحياءها وأعيد تسجيل أراضي وبساتين ديالى الملكية بأسماء أعضاء القيادة (مجلس قيادة الثورة والقيادتين القطرية والقومية والحكومة وأعضاء الفروع والمكتب العسكري وكبار الضباط). كانت أجود الأراضي هي التي في أعالي المجرى توزع بالتسلسل حسب المواقع القيادية للمسؤولين. ومن ظلال هذا القانون البيوت أو القصور الرئاسية في كل محافظة والقريبة الشبه بتقليد الدوتشات [Dutch] التي أجره أحد ملوك فرنسا في القرن العاشر الميلادي قبل أن تنفصل أراضي ألمانيا عن فرنسا، وهو أول من اتبع نوعاً من الحكم اللامركزي يتمتع فيه حكام الأقاليم بسلطة كاملة، بينما هو يتفقد الأقاليم وفق جداول شهرية ويراقب سياسات الحكم. ذلك ما لم يكن له أثر في سياسات الدكتاتور المعروفة غير نزعة امتلاك القصور الفارهة تمثلاً بزعيم أوربي آخر هو أدولف هتلر الذي تحولت قصوره (الشخصية) إلى متاحف وآثار. ويذكر في هذا المجال، أن أقدم وأرفه المباني في مدينة السعدية (قزلرباط) المعروف بقصر “علي بيك” عندما أراد ورثته بيعه أوصى صدام بشرائه وترميمه والمحافظة عليه، ولا يعرف مصيره اليوم. وعندما هاجر بعض أهالي خانقين خلال حرب الثمانينيات نتيجة وقوعها تحت مدى المدفعية المضادة استصدر قرار بتمليك دورهم وأراضيهم لأعضاء حزب البعث والمسؤولين في المدينة مما حرم أهاليها من العودة إليها بعد ذلك. ناهيك عن بيوت المهجرين والأملاك المصادرة وتبعات التعريب وغير ذلك.
بين النهر والجدول..
لمسافة معينة يتخذ مجرى نهر ديالى وجدول خريسان خطين متوازيين مترافقين تاركين بينهما مسافة متفاوتة بحدود كيلومتر واحد. ويمكن تصور البقعة المحصورة بين النهر والجدول غابة غناء مثمرة حفية برائحة الطبيعة الأولى وبكارة الوجود الأزلية حيث يلقي لديها الانسان عناءه ويتنفس رحيق الحياة المحمل بعبق الأيام والسنين والعصور. ان طبيعة الأرض المحصورة في هذه البقعة متدرجة في الارتفاع من ضفة نهر ديالى صعوداً نحو مجرى خريسان. وقرب نهر (جدول) خريسان من نهر ديالى الكبير يقلل من أهميته الاقتصادية كقناة للارواء الزراعي تمّ إنشاؤها إبان العهد العثماني، والأرجح أنها أنشئت أو روعيَ في إنشائها خزن مياه الفيضانات ووقف اندفاعها في باطن المدينة. ويذكر أن البقعة بين النهرين هذه كانت تغرق بالمياه أثناء الفيضان الذي تصل تمدداته الدور القريبة من خريسان وتطفو المياه في دور الادارة المحلية القديمة سيما القريبة من طريق بغداد الرئيسي ما يقع خلف بناية النشاط المدرسي ومنزل المحافظ أيام السبعينيات . والحديث هنا عن فيضان عام 1976 الذي استمر تهديده للمدينة قرابة اسبوعين. استنفر خلالها الأهالي في بناء حواجز أكياس رملية لوقف زحف الماء. لا شك أن الفيضانات التي تكررت خلال التاريخ كبدت الأهالي كثيراً من الخسائر والدمار، التي كان يمكن تجاوزها لو ابتعد الانسان في تحديد سكناه عن المجرى وبالتالي حقق فائدتين، بدل خسارتين. وتبقى فكرة تحويل ما بين النهرين (ديالى وخريسان) إلى متنزه وبارك للطبيعة أحد المشاريع الحيوية لاحياء بعقوبا ومنحها ميزة عملية لاجتماعها على نعمة النهرين. وقد شهدت شواطئ النهرين تعليات ترابية مستمرة وتم تحويلها إلى متنزهات طولية تربط بينها شوارع متوازية حديثة تتوزعها بعض المنشآت السياحية والخدمية، لكن تلك المشاريع على نهر ديالى تحولت إلى مناطق أشباح مع اندلاع حرب الثمانينيات واختفاء الشباب [18 – 45 عاماً] من حياة المدينة، أما ضفتي خريسان التي رصفت بالحجر والاسمنت وأضيفت لها حدائق مسيجة من الجانبين تحدها شوارع حديثة بالاتجاهين فقد وفرت فرصة لنزهات المدينة في عصاري الصيف والأعطال المدرسية بين قنطرة خليل باشا حتى بداية كراج سيارات بغداد أو ما بعدها نحو بهرز وشفته أو خلل بساتين المدينة وشارع عمر عبد العزيز. ويعتبر قضاء أوقات الفراغ وعدم وجود أماكن للتسلية أو الرياضة أو مكتبات عامة واسعة أو مقاهي ونوادي حديثة تستجيب لتطور الحاجات المتزايدة جانب من معاناة أبناء المدينة، وهو أمر لم يؤخذ بنظر الاعتبار في تخطيط المدن انعكست سلبياته على الجانب الاجتماعي للمدينة. أما الحال اليوم فحدث ولا حرج كما يقال.
مداخلة حول تسميات المدن
ويمكن اتخاذ اسم المدينة دالة تاريخية للاستدلال على قدها وزمن تأسيسها أو ازدهارها، فكلمة [بعقوبا] تنتمي للغات القديمة وأقرب إلى الاشورية أو الآرامية ، وثمة سلسلة من أسماء مدن قريبة البنية والايحاء مثل: بابل، باصيدا، باجسره، باعشيقه، برطله، بعبدا. والصحيح في اللفظ هو (باعقوبا)، ولكن الأحرف الهوائية اختزلت وخففت بما يجعلها أقرب للصرف العربي مع بقاء أصلها غير العربي. ويلحظ أن هذا البناء اللغوي استمر في مرحلة تالية مع تغيير بسيط لمواءمة التغاير اللغوي ممثلة في وضوح لفظة (بيت) الارامية القديمة في بداية الكلمة مثل بيت حانون. ويمكن الاستناد إلى هذه الظاهرة ومثارباتها في اللغات والثقافات المختلفة لاستنتاج قاعدة سادت حتى عهد قريب في تسميات المدن في الشرق الغرب. فكلمة (شهر) الساسانية معناها مدينة وقد وردت في عديد تسميات المدن مثل خرمشهر، شهرزور، شهربان. أو ورود لفظة (خان) مثل دربندخان، قره خان، خان بني سعد. أو دخول كلمة (آباد) في أسماء مدن في ايران وباكستان مثل بندر آباد، اسلام آباد، مهاباد. وتقابلها كلمة (غراد) السلافية مثل ليننغراد، أو (بوليس) الاغريقية القديمة في تسميات بعض المدن مثل هليوبوليس ، أكروبوليس، تريبوليس (طرابلس). ان استعراض الأسماء الأصلية القديمة للأماكن والمواقع والمدن والبلدان يكشف كثيراً من الحقائق التاريخية التي تساعد في ترسيم وصياغة ثقافة المكان والسكان، ويدعم عناصر ثبات الشخصية والاستقرار النفسي والفكري للفرد ويوثق صلته بالبيئة. ان الدلالات اللغوية التاريخية والاجتماعية لأسماء المدن وعلاقتها بنشأة المستوطنات وأهميتها من السمات والخصائص الذاتية للمكان الذي يمنحها نكهة خاصة وترددات عميقة في نفوس الأهلين، وما لذلك من تعالقات ومقاربات بنيوية مع مفهوم الاستقرار الروحي والنفسي والهوية الوطنية. أن أكبر أسباب قلق الشخصية العربية وتذبذبها هو عدم استقرار الصلة بالمكان واضطراب عملية الاشباع النفسي والروحي للبيئة بأثر التغيرات السياسية والعسكرية العنيفة المتواصلة وتدخلها في تغيير خصائص المكان الجغرافي والاجتماعي وتحريف صورها وأسمائها، ومن مهازل التاريخ أن غير قليل من الناس ولدوا في أماكن وهمية لا يمكن تحديدها في الخرائط الجغرافية، جراء تغيير أسماء المدن والاستمرار في إطلاق تسميات جديدة متعلقة بالظرف السياسي التي ما يني ظرف سياسي آخر يلغيها ويلقي عليها بصبغته، وهذا من علائم خيانة المكان والانسان على السواء. ومما يقتضي تقليداً أخلاقياً وطنياً أصيلاً وتشريعاً قانونياً يمنع تغيير المعالم التاريخية والآثارية ومعالمها اللغوية والاجتماعية والأثنية. ان هذا السلوك يرتبط غالباً بالحملات الغازية الغريبة عن السكان فتحاول تزوير المعالم وإعادة ترسيم المكان بما يمنحها جذوراً تاريخية هشة (في المكان)، بيد أنها بذلك تزيد من هوة علاقتها بالأهلين وتبقى منبوذة حتى زوالها، وهي ما وسم كثير من الحكومات والحكام المتناوبين على العراق. ولابدّ للأخطاء من نهاية والانحراف والضلال من نقطة عودة للوعي والاخلاق والعقل والحقيقة.
تاريخ المدينة..
لا توجد معلومات مؤكدة عن تاريخ مدينة بعقوبا وتطورها عبر القرون. ولكن الثابت أنّ تاريخها يرجع لما قبل التاريخ ، حيث تعاقبت على أرضها مراكز حضارية قديمة أشهرها مملكة (أشنونا) المعاصرة لسومر وبابل وآشور، وكان وقوعها شرق نهر دجلة منحها أهمية استراتيجية وجيبولوليتيكية سياسية في الصراع بين ممالك ما بين النهرين (دجلة والفرات) والممالك الفارسية مثل عيلام وساسان. ناهيك عن مرجعيتها الحضارية والثقافية لحضارات وادي الرافدين القديمة والآثار المتبادلة بينها .
من بحث طويل نشر في موقع ( الحوار المتمدن )
اقرأ ايضا
نص نادر..من أوراق مصطفى علي في العشرينيات
إعداد : ذاكرة عراقيةكانت معزز برتو مديرة مدرسة البارودية الابتدائية للبنات، فتاة تقدمية.. درست في …