ناجح المعموري
ما زال الكثير من المواطنين في مدينة الحلة يتناقلون أفق تجربته الآن، وهذا يعني بأن تجربته ما زالت تعاش كمرويات حسب مفهوم سقراط ، وهذا يؤكد على حيوية الذاكرة ونشاط التذكر ، وهذا يظل إلى الأبد ولا بد من التحوط في ضياع سرديات الماضي. التي هي أفق التجربة كما قال بول ريكور ، هذا الماضي البعيد أو القريب هو مرآة للجماعة وكاشف عن الذاكرة / التاريخ ولا بد من العناية بالتذكر للحفاظ على الذاكرة المساهمة بصياغة الهوية الخاصة والممثلة لجماعة ما ، وأنا أتحفظ على رأي يان أسمان الذي قال بأن التاريخ هذا هو تاريخ ذاكرة ، وبعكس التاريخ بمعناه الدقيق لا يهتم تاريخ الذاكرة بالماضي بحد ذاته وإنما بالماضي المتذكر فقط. الذاكرة هي سجل الماضي ودائماً ما تكون متميزة في الماضي البعيد ، حيث يكون للتذكر فاعلية عالية . الماضي البعيد محفوظ بذاكرة الجماعة وهو جزء من شفاهياتها المستعادة باستمرار وخصوصاً بالمناسبات التي لها صلة مباشرة بذاك الماضي / أو الواقعة ، ومثل هذه الشفاهيات متمركزة ولن يقوى عليها الماضي . والتاريخ هو الذاكرة والمتذكر ، أنه ماضي الجماعة / الجماعات ، ولن يتوقف هذا التاريخ محدداً وإنما يظل متحركاًَ ، كلما اتسعت الجماعة وتكاثرت تحمل معها مرويات ما قبل ، لأنها لا تستطيع بمعزل عن مرويات السابق والذاكرة لها تاريخ تساهم بحفظ الوقائع وتحفيزها أثناء السرد قال يان أسمان ، فكل هذا تاريخ الذاكرة لا يقف ضد علوم التاريخ ،وإنما يشكل أحد فروعها ، مثل تاريخ الأفكار والتاريخ الاجتماعي وتاريخ العقلية والتاريخ اليومي المعتاد . علاقة الجماعة مع السلف تعبير عن خصائص ذاكرة وهوية لا يمكن اندثارها ، لذا الجماعة تتداولها حفاظاً عليها ، ومن غير الممكن نسيان التاريخ المقترن بجماعة ما ، خصوصاً تلك المتميزة بالقوة وقد عاشت صراعاً متكرراً مع غيرها لإزاحة أحدهما للآخر. وحتماً ستتحول المرويات المتداولة إلى ضحية، عند غياب الأشخاص الذين ما زالوا أحياء وتمتعوا بقدرة على الاستذكار ، والنسيان دفن للماضي وكل مروياته ، وفي أحيان يكون النسيان جزئياً أو كلياً وفي كلا الحالتين الخسارة حاصلة ونسيان الشفاهيات شطب الماضي / التاريخ وأكثر ما نخشاه في هذا المجال هو ضعف التذكر ، وتآكل الحزام الاجتماعي للذاكرة المسئولة عن تحيين الماضي وجعله حاضراً يقظاً ، قادراً على الامتداد نحو المستقبل ، ونظراً لارتباط الذاكرة مع التذكر حسب مفاهيم أفلاطون ، علينا الانتباه لذلك والمحافظة على الذاكرة ، لا من خلال تنشيط التبادل أو التواصل ، بل بواسطة التدوين ، وستتحول الذاكرة / مروياتها إلى سرديات خاصة بالاجتماعي والتاريخي ، وحتماً ستكون هذه المرويات بعضاً حيوياً من الانطولوجية كما قال بول ريكور ، أي إنها مصدر مركزي في المعرفة وتساعد الإنسان على قراءة الذات والعالم .
التذكر والتداول الذي يجعله حياً باستمرار ، هو الذي يثبت الأثر كما قال بول ريكور في كتابه (( التاريخ ، الذاكرة ، النسيان )) والإبقاء على المروي وتحيينه ، وشحنه بإمكانية الحضور والامتداد نحو المستقبل ، فالماضي الايجابي هو المقترن بالكيفية المستقبلية وبالكيفية الحاضرة للحاضر كما قال هايدجر ، لأن هايدجر في انطولوجيته قد أكد على المستقبل وليس الماضي . وإذا أردنا توظيف مفهوم بول ريكور عن السرد فبالإمكان تأكيد ما قلناه عن المرويات الخاصة بالشيخ عبد الكريم الماشطة وضرورة إنجاز أفق التجربة / الماضي، حتى تتكون لدينا سرديات كاملة تمكن القارئ أو الدارس من تحقيق قراءة لآفاق تجربته من خلال تفاصيل تلك الآفاق ، حكايات / أمثال / نكات / …ألخ التي تشكل كماً مهماً مساعداً لقراءة هذه الشخصية وعلاقاته واختلافاته ، وكيف ؟ أي إن الصراعات هذه تمظهرات عن الخصائص المميزة لكل جماعة من الجماعات / أي هي تبدّيات لهويات خاصة ، ووجدت في رأي بان أسمان مفهوماً اصطلاحياً حول شكل من أشكال الثقافة والتاريخ المضاد . حيث قال ( أنا أعني بالتذكر المضاد هو التذكر الذي يضع عناصر التذكر المقموعة رسمياً في المقدمة . والمعروف إن الحادثة نفسها تتذكر من قبل الذاكرة الشخصية بطرق مختلفة تماماً / بان أسمان / موسى المصري / حل لغز آثار الذاكرة / ت : حسام عباس الحيدري / دار الجمل / كولونيا / 2009 / ص31 ) .
دائماً ما تنشط الذاكرة في مجال التاريخ السياسي وتقدم عوناً مهماً في استحضار ما له علاقة بالموضوع الخاص . لكنني أجد بأن شخصية كبيرة مثل الشيخ عبد الكريم الماشطة تكونت خصائصه بين الدين / الاجتماع/ السياسي بإطاره العام ، وليس التخصيص ، لم يحظ باهتمام واضح ، هو وغيره من رجال النهضة والتنوير في مدينة الحلة وهناك أسماء لم تجد من يهتم بها ويسجل تاريخها التنوعي ، على الرغم من وجودها الطويل في مدينة الحلة ودورها البارز فيها ومن تلك الأسماء رؤوف جبوري وتوفيق فكرت . لا بد من استنهاض ذاكرة المدينة المعاصرة لهما ولغيرهم وحفظ ما هو جوهري في الحلة وحركتها الثقافية والاجتماعية والسياسية وهو الخطاب بتنوعاته التي قال بها ميشيل فوكو وأطلق عليها المفكر يان أسمان بالحوار ، لذا سجل دور الإغريق في جميع الفعاليات الحضارية المختلفة من خلال التذكر ، وهم لم يروا الحضارة على إنها مجرد استناد إلى الذاكرة ، وإنما هي الذاكرة بحد ذاتها / يان أسمان / ن . م / ص41 / وأضاف أسمان قائلاً : أنا أعني بالحوار تشابك النصوص التي ترتبط جميعاً بعضها ببعض ، وتبحث بنفس الوقت عن شيء مشترك ، فالحوار هو عبارة عن نوع من المحادثة النصية ، التي من الممكن أن تمتد عبر أجيال وقرون ، بل عبر آلاف السنين ، بحسب إمكانات ديمومتها الإنشائية على شكل كتابة وتقديس ومدرسة ، إن الحاضر هو نتاج للحاضر والماضي ، وجزء مهم منه مرتبط بأفق التجربة / أي الماضي / الذاكرة وكلاهما يصوغان الأفق المستقبلي . الماضي حاضر مهما حصل تكتم عليه ، لأنه كامن في الذاكرة ، وكلها تميز وقائع الماضي بقوتها وأهميتها فإنه حضور باقٍ ، والعودة له عبر التذكر من قبل الجماعات ، يعني أولاً وأخيراً بأن الجماعة سجلت ذاكرتها هي ، ويؤدي المشاركون باستحضار الماضي تسجيل حياتهم من خلال السلف . أي إن الخلف تكفل بذاكرته من خلال الآباء والأجداد وبالضرورة تمييز دور الخلف بأنهم يؤدون دوراً من أجل حفظ تاريخهم هم .
دعوتي هذه الخاصة بتدوين المرويات المحفوظة بالذاكرة ، تهدف للعودة للماضي التنوعي ، حتى نستطيع معرفة المجال الحي لبعض الشخصيات التي كان لها دور مغاير ، بارز ومشهود له حتى هذه اللحظة ، ومثال ذلك الشيخ عبد الكريم الماشطة ، رؤوف جبوري ، يوسف كركوش ، أحمد سوسة ، طه باقر ، محمد باقر الحلي . وربما يتبادر سؤال لذهن القارئ حول سوسة وطه باقر وفحواه إنهما محفوظان بكتبهما . ولا وجود لشيء ضائع في حياتهما . هذا صحيح، ولكن لكل واحد منهما شفاهيات معروفة في حدود ضيقة ، والزمن يأكل الأفراد التي تعرف ذلك ، والضرورة ملحة من أجل الغائب من ذاكرة الحلة ، من خلال رموزها ومنهم أيضاً مهدي البصير / علي جواد الطاهر / عبد الجبار عباس .
أعتقد بأن مثل هذه المهمة صعبة ولكن دور الجامعة بإمكانه أن يحقق ما نحن نريد ، عبر تكليف الطلبة في الجامعة / الكليات الإنسانية للتوجه نحو هذه المهمة وعلينا قبول كل ما يتوفر أثناء الحفظ والجمع وإخضاع ذلك للدرس والتحليل . وعلى الجامعة أن تتعامل بروح إيجابية خاضعة للعلم وليس للأهواء والانتماءات الطائفية والسياسية ، هل يحصل هذا ؟ لا أعتقد ، لأن الجامعات حتى الآن لم تدخل عبر مناهجها الإنسانية التوصلات الفلسفية والفكرية الجديدة والمعنية بالسرد والتاريخ وصار لذلك علماء ، لعبوا دوراً بارزاً ومؤثراً في الثقافة والفكر وعلى سبيل تعامل بول ريكور مع التاريخ بوصفه وسيطاً في الانثربولوجيا الفلسفية ، وصار – التاريخ / السرد مصدراً من مصادر المعرفة ، وهو عامل أساسي في فلسفة ريكور وانطولوجيا الوجود والزمان ، حيث تحول التاريخ / السرد مكملاً لتلك الانطولوجيا التي اكتملت في فلسفة بول ريكور : الوجود والزمان والسرد . وفي رأي ريكــــــور ( إن هايدجر يخطئ حين يجرّد الوجود عن بعده الاجتماعي . لقد اكتفى هايدجر من الزمانية ببعد واحد هو تصورها وجوداً – نحو – الموت والحال إن الوجود الأصيل هو الوجود مع الآخرين وبهم ومن خلالهم ، عالم الآخرين الذين عاشوا ويعيشون وسيعيشون معنا على ظهر هذا الكوكب وينقلون تجاربهم لنا بواسطة السرد / ت وت : سعيد الغانمي / الوجود والزمان والسرد / فلسفة بول ريكور / المركز الثقافي العربي / بيروت / 1999 / ص29 / يضيء لنا هذا الرأي موقف هايدجر الذي يجرد الوجود من العلاقة مع الآخرين واكتفى هايدجر بالعلاقة الزمانية واعتبرها انطولوجيا خاصة بالموت . بينما وجد بول ريكور بأن الوجود الحقيقي هو الحياة المشتركة بين الناس ومعرفة الحياة والعالم لا تتم إلا من خلال الناس . وبهذا ينطوي رأي ريكور على مشتركات بين المواطنين ، الذين بالإمكان تسجيل حياتهم وتجاربهم ، ويتم ذلك من خلال المرويات ، وهذا ما حاولت إيضاحه حول المرويات التي ما زالت محفوظة بذاكرة سكان الحلة حول الشيخ عبد الكريم الماشطة وغيره من الشخصيات التي لعبت دوراً اجتماعياً وثقافياً وتنويرياً أيضاً . وتوثيق المرويات المتداولة الآن عن الشيخ الماشطة شكل من أشكال التعبير عن الوجود / الكينونة ، كينونة الفرد والجماعة .
اقرأ ايضا
الشيخ عبد الكريم الماشطة: مصباح علمٍ وتنوير في ظلمات الركود
محمد علي محيي الدينفي ذاكرة الحلة الفيحاء، حيث تعانق الروح ضفاف الفرات، وتتعانق المنائر بأصداء …