وداعا عبد الإله الصائغ سلاما .. سلاما أيها الراحل النبيل

د . محمد عبد الرحمن يونس
عبدالإله الصائغ الصديق النبيل المغامر المقدام في بحور العلم و المعرفة و الفكر و الثقافة، صاحب القلم الشجاع الذي يتجاوز مساحات الظلام و قطعان الاستبداد و التخلف . وداعا و داعا . سنظل نقرأ فكرك و أدبك ، و سنظل نحبك،و ستظل سفائن حريتك و أفقك النير تبحر عميقا في نفوسنا و أرواحنا. وداعا أيها العزيز وداعا أيها الشامخ . ستظل مجلتنا مجلة جامعة ابن رشد تستظل بفيئك، أنت السروة و الظل و الأستاذ، و نحن طلابك الحزانى لرحيلك مؤلما و قاسيا و حزينا كان وقع خبر وفاة الأديب المبدع ،و أستاذ الأساتذة، الناقد العراقي الكبير البروفيسور عبد الإله الصائغ.
عبد الإله الصائغ الرجل النبيل الذي عرفته و خبرته، في أخلاقه و قيمه النبيلة، و مواقفه الكريمة العديدة، يوم تشرّفت بالعمل معه في جامعة ابن رشد في هولندا للتعليم المفتوح ــ عليه واسع الرحمة و المغفرة ــ كان أستاذي و صديقي و رئيسي في العمل، حيث كان يعمل نائبا لرئيس جامعة ابن رشد، و كنت وقتها عميدا لكلية اللغة العربية. و بقينا معا في مجلة جامعة ابن رشد الأكاديمية المحكمة، فهو حتى وفاته نائب رئيس التحرير، و أنا مدير التحرير.
ودودا و دمثا و أليفا كان، بصوته الهادئ الرزين، المفعم ذوقا و أدبا و دماثة في اختيار ألفاظه و كلماته الراقية التي تفوح عبقا و فلا و ياسمينا. وأثناء اجتماعنا في مجلس الجامعة، كان، رحمة الله عليه، يستنفر أقصى طاقاته الإنسانية، و أجمل صور تهذيبه العالي، فهو أستاذنا، و هو الأكثر قدرة، و هو الأكثر إبداعا، و هو الأكثر حضورا و بهاء، و مع ذلك كان يخاطبنا بعباراته الراقية، ومنها سيدي الكريم، و صديقي العزيز، و ابني الغالي.
مازلت أذكر اجتماعنا في مجالس الكليات الجامعية، بحضور الأساتذة الكرام: الدكتور تيسير عبد الجبار الآلوسي، رئيس الجامعة، و الدكتور صباح قدوري نائب رئيس الجامعة، و الدكتور صلاح كرميان رئيس أعضاء شؤون هيئة التدريس. هؤلاء الأساتذة الكرام الذين تعلمت منهم الكثير.
و لن أنسى مواقفه الكريمة، و هو يناقش رسائل الماجستير و أطروحات الدكتوراه التي كانت تُناقس في جامعتنا، فقد كان يضفي عيها بهاء و جمالا، و كان يضفي على الباحثين الذين نناقشهم فضاء آمنا مفعما بالطمأنينة و المحبة.
نبرة صوته الرزينة الهادئة في اجتماعاتنا كانت مفتاحا للأمان و الإبداع و الطمأنينة، و دافعا للعمل الجاد المخلص، دافعا لكل من يعرفه، و يتعاون معه في مجالات العمل و الإدارة، و التدريس، و الإخاء و الصداقة و الزمالة.
يترجّل البروفيسور عبد الإله الصائغ فارسا، و هو على قمة الإبداع و العطاء الفكري و النقدي و البحثي في فضاءات العراق، و فضاءات العالم العربي. و إن كان في فترة مرضه الأخيرة مقلاّ في كتاباته، إلاّ أنه ظلّ قارئا متميزا، و متابعا متميزا لما ينشر في حركة التأليف و الثقافة العربية المعاصرة. و كنا قبل أن ننشر أي عدد جديد من أعداد مجلتنا، نرسله إليه ليطّلع عليه، و يبدي ملاحظاته المهمّة قبل النشر، و كان ـــ عليه واسع الرحمة و المغفرة ــ يقرأ العدد، و يناقش أبحاثه، و يعلّق عليها.
و كنّا نأخذ بآرائه النقدية الصائبة، و كنا سعداء لأن نعمل بها، حتى يرتقي عملنا نحو الأفضل. كان تنويريا معاصر، بعقل نيّر، منفتح على ثقافات العالم العربي و الأجنبي، و قد برزت مظاهر هذا التنوير واضحة في أبحاثه و كتبه النقدية العديدة.
ما أن يٌذكر النقاد العرب المعاصرون في ساحات الحوار، و المنتديات الفكرية، و الندوات الثقافية، حتى يبرز اسم عبد الإله الصائغ واحدا من أهم هؤلاء النقاد و الباحثين، و من أكثرهم عطاء، و تأثيرا في الحركة النقدية المعاصرة، تنظيرا و تطبيقا.
من بغداد إلى صنعاء إلى ليبيا، إلى ديترويت بميتشيغان الأمريكية يرتحل عبد الإله الصائغ نورسا شفيفا محلّقا في سماء الإبداع و الأدب، فاردا بصمته المتميزة على أي فضاء علمي يعمل فيه، و يشكّله، و يُخرّج في جامعاته العديد من طلاب المعرفة الذين أصبحوا أساتذة و باحثين في العديد من جامعات العالم.
سيرته العطرة، و كتبه النقدية و مجموعات الشعرية، استطعت الاطلاع على العديد منها، في مكتبات شارع المتنبي ببغداد، حين كنت أزور هذا الشارع المعرفي العالمي الغاص بكتب العالم العربي و الأجنبي، و مجلاتهما، في شتى صنوف المعرفة الإنسانية. و عندما التقيت بمجموعة من أدباء العراق و مثقفيه المعاصرين و باحثيه في المؤتمرات العلمية التي كانت تقيمها جامعات بغداد كانت سيرة عبد الإله الصائغ حاضرة بإجلال واحترام عميقين، يليقان بهذا الرجل المبدع، غزير الثقافة، واسع الاطلاع، و عميق الرؤية النقدية لمفهوم الأدب، و دوره الأخلاقي و الإنساني في ازدهار المجتمع، و رقي أفراده و ناسه.
اعتدت أن أتحدّث مع عبد الإله الصائغ مرتين كل شهر، و أحيانا ثلاث مرات من خلال ماسنجر الفيس بوك، و الواتساب الخاص به، كنا نتحدث في الأدب و الثقافة، و التأليف و النشر، و ظروف مرضه، و الرعاية الصحيّة العالية التي تُقدّم له، و تراقب حالات مرضه، وعن دور الممرضات اللواتي كنّ يشرفن على علاجه، إذ كنّ على غاية عالية من الاهتمام و الأدب، و الذوق الجمالي العالي، و الاهتمام به.
و حزينا كان يحدثني عن العراق و مؤسساته، و سياساته التي تهمل مبدعيه و مفكريه و أدباءه، و عقلاءه من الشرفاء المخلصين، في حين أن النظام الاجتماعي و الصحي و السياسي في ديترويت كان يعامل القادمين إليه من المفكّرين و المهاجرين المبدعين المضطهدين في دولهم و مجتمعاتهم البائسة، معاملة كريمة، و على غاية عالية من الرعاية الصحية و الاهتمام ، و تقديم المعونات المالية لهم، فالبلدان العربية، وللأسف، تنفي مبدعيها و مفكريها و مواطنيها، و تحرمهم من أبسط حقوقهم، في حين أن البلدان الأجنبية تمنحهم ما يحتاجون إليه من رعاية و أمان و سلام حين يتقدّم بهم العمر، يا للمفارقة العجية!! فالفقر في الوطن غربة و منفى، و الغنى في بلاد الآخرين وطن وسكن وأمان، هذه هي حال أوطاننا البائسة المنتفخة فاجعا و جهلا و عجرفة، المتورمة أخلاقا و سياسة و اقتصادا و تعليما و إيديولوجيا رثّة,
في الفترة الأخيرة كان المرض قد بدأ يفترس جسد أستاذنا الصائغ و روحه، و حركة شفتيه، و سلامة نطقه، و كان يبدو مرهقا، و نحن نتكلم، و كان صوته متعبا هامسا، غير أنه كان مفعما بشكر ربه الكريم، مؤمنا بما سيأتي منه. و بعد ذلك اكتفينا بأن نتواصل كتابة حتى لا أرهقه صوتا و نطقا.
إننا في جامعة ابن رشد، و في مجلة جامعة ابن رشد، و على لسان جميع أعضاء هذه المجلة من إداريين و مشرفين و أعضاء الهيئتين العلمية و الاستشارية لهذه المجلة نتقدم بأسمى آيات عزائنا الصادق لجميع السادة أولاد عبد الله الصائغ و بناته، و إخوته و أخواته، و جميع أفراد أسرته، و لجميع زملائه و أصدقائه و طلابه في أنحاء المعمورة، سائلين الله سبحانه و تعالى أن يرحمه رحمة واسعة، و يسكنه فسيح جنانه مع الشهداء و الطيبين الطاهرين، و البقاء لله سبحانه و تعالى في عزه و عليائه و ملكوته و عرشه، و نعزي أنفسنا أيضا لأننا فقدنا أخا غاليا و نبيلا، و صديقا وفيا استطاع أن يجسّد أسمى درجات الوفاء و النبل في حياته، سلوكا و عملا و مواقف مشرّفة. وداعا أستاذنا عبد الإله الصائغ، سلاما لروحك الطاهرة أستاذنا النبيل أيها النسر الهامة المحلق دائما في سماء الإبداع و الفكر المستنير.
كانت وفاة أستاذنا الصائغ في يوم الأربعاء 17 أيلول، سبتمر 2025 م، في مدينة ديترويت بولاية ميتيشيغان الأمريكية.
عبد الإله الصائغ الصديق النبيل المغامر المقدام في بحور العلم و المعرفة و الفكر و الثقافة، صاحب القلم الشجاع الذي يتجاوز مساحات الظلام و قطعان الاستبداد و التخلف . وداعا و داعا . سنظل نقرأ فكرك و أدبك ، و سنظل نحبك،و ستظل سفائن حريتك و أفقك النير تبحر عميقا في نفوسنا و أرواحنا. وداعا أيها العزيز وداعا أيها الشامخ . ستظل مجلتنا مجلة جامعة ابن رشد تستظل بفيئك، أنت السروة و الظل و الأستاذ، و نحن طلابك الحزانى لرحيلك.

اقرأ ايضا

الدكتور عبد الإله الصائغ في بحثه الشاهق “الزمن عند الشعراء العرب قبل الإسلام”

شكيب كاظمهذا كتاب تابعت أمره، منذ أن كان بحثا كتبه الباحث الضليع عبد الإله ( …