جهاد مجيد
غادرنا قبل مدة قصيرة الصديق الدكتور عبد الإله الصائغ في مغتربه في أميركا الذي دام عدة عقود، قضى آخرها مصارعا مرضا عضالا، تاركا ذكرا طيبا وإرثا مشرفا . في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، أودع لديَّ الراحل الدكتور عبد الإله الصائغ إحدى عشرة صفحة من القطع الكبير (فولسكاب) معنونة بـ (ما علق في الذاكرة من مخاضات مجلة الكلمة) عقب نشري مقالا عن مجلة الكلمة أثار نقاشا بين مؤسسيها حول أدوارهم، وجهود كل منهم في ذلك التأسيس، مؤتمنا إياي على تاريخ شخصي وعام يتعلق في الوقت نفسه بإصدار تلك المجلة التي أكدتْ نفسها بقوة في تاريخ الأدب العراقي. والصفحات الإحدى عشرة كانت مترعة بمعلومات توثيقية متنوعة تكشف عن حيثيات تأسيس مجلة الكلمة التي رسَّخت قيمتها العالية تاريخيا مما لا يمكن نكران فضلها في (تثوير) حركة الأدب العراقي، ودفعها إلى طريق الحداثة بعد ركود وخمود وجمود. لقد جسَّدت مجلة الكلمة مشروعا أدبيا مائزا وفريدا، مادته الأساس التجارب الغضة لشبيبة الأدب في ستينيات القرن الماضي الذين منهم انبثقت ثلتها المؤسسة، مطلقة شرارتها الأولى ومذكية لهبها.
فكانت (الكلمة) الصفحة الأفضل والأمثل والأنصع من صفحات تلك (الموجة الصاخبة) التي كانت مقدماتها مشوشة ومنفلتة وتهويمية فتصيرت الكلمة (روحها الحية). ولعلها المرة الأولى التي يقرن اسم مجلة بـ (جيل أدبي) فيُطلق اصطلاحا عليه. وهذا ما فعله أستاذ الأجيال علي جواد الطاهر في مقاله (وإذ يُولد جيل) مطلقا مصطلح (جيل الكلمة) على أدباء تلك المرحلة (الشباب). وعلى الرغم من تواضع غلافها وإخراجها وورقها ونوعية طباعتها وحجمها، فإنها استطاعت أن تكون طريقا، تسير فيه قافلة أدب مغاير لما هو قائم؛ أدب يجرب, يطمح للتغيير. وربما كانت (الكلمة) ساعية إلى المشابهة مع المجلات الشامية التي جاهرت بالحداثة ورفعت راياتها عاليا (حوار وشعر ومواقف) والسير في ركبها ولكن شتان بين إمكانات تلك المجلات المادية والإعلامية وإمكانات مجلة بحجم ضئيل وورق أصفر وحروف تتراص مع بعضها وتصميم متلاش؛ مجلات الشام التي تكشفت فيما بعد مصادر تموينها، مثيرة علامات استفهام.
لم يكن فرسان مجلة (الكلمة) الشباب يملكون سوى إيمانهم العميق بكتاباتهم, عدتهم، فاقتهم، وعالمهم الرحب المتمثل بمدينة ثانوية إداريا (قضاء) مقصية عن مركز البلاد. يتحركون في هامشهم، بعيدا عن المركز وآلياته الخفية والعلنية، لكن بعضهم حين انتقل إلى مركز الفعل الرسمي في مرحلة لاحقة لم يفعل أي صنيع، كان له أن يفعله وهو في الهامش؛ فاُخترق ولم يَخترق, وظلت (الكلمة) مشروعا قائما مستمرا في الهامش على الرغم من تبوأ بعض أصحابه مراكز في (المركز) بعد انقلاب 1968وتوليه مسؤولية المؤسسة الثقافية الحكومية . والكلمة مثَّلت (جيلها) خير تمثيل , وهو أمر لم تفعله أية مجلة أخرى؛ لم تلجأ إلى التوفيق، بل كرست صفحاتها لكتابات شبابها المجربين، ونأت عن الكلاسيكيات والموروثات. الأمر الذي قد تفعله مجلات- تمتشق الحداثة والمغايرة – مسايسة أو توفيقية. وعلى الرغم من الركود العام في الوضع الثقافي آنذاك وهيمنة العقليات المحافظة على مؤسساته كافة، إلا إن (النجف) – القضاء التابع للواء كربلاء وهو لواء يعد صغيرا وثانويا بالقياس إلى البصرة أو الموصل أو كركوك أو العاصمة بغداد- كان ذا حركة ثقافية، ترفد مجراها روافد دينية وادبية؛ لغوية وفقهية وتاريخية واجتماعية؛ لها روادها ومريدوها، ولها تجمعاتها التي كانت بهيأة جمعيات مجازة – كانت إجازة الجمعيات يسيرة لأنها منوطة بإداريي اللواء لا بوزارة الداخلية كما حصل فيما بعد- ومن ذلك الحراك الثقافي المحلي انبثقت مجلة (الكلمة) لتكون من أهم المجلات الحداثية في تاريخ الأدب العراقي. هذا ما يفصل لنا إياه الراحل عبد الإله الصائغ في أوراقه التي بين يدي، فيشير إلى أن (الكلمة) كانت تجسيدا لرؤية جمعية (ندوة الآداب والفنون المعاصرة) التي اتفق على تأسيسها كل من الأدباء: عبد الأمير معلة ، زهير غازي زاهد ، موفق خضر، موسى كريدي، زهير الجزائري. وكان لقاؤهم في مقهى (أبو المسامير) ثم قدموا طلبا إلى الجهة المعنية (بتشكيل جمعية أدبية تعنى بشؤون الأدب والفن بأسلوب خاص، وقالوا في الطلب: (إنهم يرغبون بإقامة أمسيات أدبية عملا منهم في التوعية الأدبية والإبداعية بروح العصر.) اُجيزت الجمعية بعد (شكليات رسمية) وطُلب منهم التوقيع على تعهد باجتناب الخوض في السياسة.
وانضم إليهم كاتب الأوراق بعد مفاتحتهم له، وتبعه آخرون ثم بدأت الجمعية ندواتها على وفق تصوراتها المعلنة سلفا. ويذكر الدكتور الصائغ أن (معظم أدباء النجف كانوا مستائين من إفراطها في الحداثة وقسوتها في محاربة الاتجاهات الأدبية السائدة ويشير إلى وقائع معينة تدليلا على ذلك وبالأسماء والأسباب). وعلى الرغم من أن حميد المطبعي كان عاتبا على أصحاب الجمعية لتجاهلهم إياه، إلا انه اتفق معهم على إصدار المجلة وتولي طباعتها في مطبعة الغري التي كان يملكها أخوه الكبير فاسموها (الكلمة) وصار هو مدير تحريرها وموسى كريدي رئيس التحرير. وكان لصدورها في الشهر الأول من عام 1967كما يؤكد صاحب الأوراق أصداء مختلفة وكبيرة في النجف وبغداد وبقية المدن مثل الحلة والبصرة وديالى والموصل وكربلاء .
وقد حفز ذلك جمعية عبقر التي يديرها هاشم الطالقاني على إصدار مجلة باسم الجمعية نفسه. وصدر عددها الأول في تموز 1967 . والطالقاني كما يصفه صاحب الأوراق (شاب مبدع وديع مهذب يمقت التطرف في كل شيء أقر بأهمية مجلة الكلمة لكنه لا يراها تمثل الأدب النجفي أو العراقي). وقد نشب صراع بين المجلتين. ويذكر صاحب الأوراق لـ (حميد المطبعي وموسى كريدي أساليب ذكية ومبتكرة في إدارة ذلك الصراع وإذكاء جذوته). ويذكر أيضا أن الشاعر مصطفى جمال الدين كان يبدي إعجابه بمن لا يتنكر للتراث منهم، لكنه يعلن لهم كرهه للشعر الحر. ومع ذلك شارك بقصيدة نشرت في العدد الأول من الكلمة الذي ضم قصيدتين نثريتين . ويصف الدكتور عبد الإله الصائغ صدور مجلة (الكلمة) بحجر كبير ألقوه في المياه الراكدة في المدينة، وهم فتية في العشرينيات من أعمارهم. والحقيقة أنهم ألقوا ذلك الحجر في مياه الواقع الثقافي في كل المدن العراقية، واستنهضوا شبيبتها الأدبية. فأخذوا يتقاطرون على مدينة النجف واللقاء بكادر (الكلمة) ويذكر ممن قاموا بذلك في أوراقه الشعراء عبد الرحمن طهمازي ومحمد علي الخفاجي وسامي مهدي وموسى العبيدي وحميد سعيد وسركون بولص وخالد علي مصطفى. ويذكر أيضا قيام كادرها بزيارة مدينة الحلة للاتصال بالناقد عبد الجبار عباس. وكان دليلهم القاص يوسف الحيدري إلى بيته أو دكان أبيه الصغير الذي يعمل فيه لكنه يشير إلى عدم اكتراث عبد الجبار، بل تركهم مندهشين منسحبا إلى داخل البيت الذي كان إلى جوار الدكان. يورد الدكتور عبد الإله بعض الوقائع الطريفة قام بها موسى كريدي وحميد المطبعي من أجل تسويق المجلة والإعلام لها؛ منها مثلا يذهبان إلى صاحب مكتبة ما، ويطلبان منه مجلة (الكلمة) وحين يخبرهما بعدم توفرها لديه، بل وحتى أنه لم يسمع بها، يفتعلان الاستغراب ويخبرانه بأن صاحب الكشك الفلاني نفدت منه على الرغم من أنه جلب منها كمية كبيرة، فيهرع الرجل إلى مركز توزيعها ويجلبها أو أنهما يتحدثان بصوت خفيض في حشد من ركاب باص عن مجلة (الكلمة) التي نشرت خبرا خطيرا، فيثيران فضول سامعيهم. وتصرفهما يدل على المعاناة في أمر تسويق المجلة.
وروى لي شخصيا الشاعر عبد الأمير معلة أنه كان ينقل كمية من المجلة من علاوي الحلة (بعربانة) تدفع باليد لإيصالها إلى شركة توزيع في شارع الرشيد عبر أحد الجسور. ولا أذكر إن كان يمضي بها نحو (السنك) أم نحو (السراي). ويورد الدكتور عبد الإله الصائغ في أوراقه كمًا من الخلافات والاختلافات والمناكدات ذات الطابع الشخصي جدا خلال مسيرة إعدادهم للكلمة أو خلال عملهم في الجمعية التي كانت مقدمة لها، حصلت بينهم كمجموعة أو مع آخرين خارج المجموعة. وينهي الدكتور عبد الإله الصائغ أوراقه بالقول (مجلة الكلمة استطاعت الانتصار للأدب التقدمي والحداثة وأن تكون محورا يدور حوله جيل كامل هو جيل الستينات.. جيل الإبداع والخصب والضياع ..الجيل الذي قاد الحركة الأدبية قُرابة ربع قرن) لقد خطَّ الراحل عبد الإله الصائغ صفحة مهمة من تاريخ أدبنا المعاصر عايشه، وقدّم شهادته فيه. ولعل لدى سواه ممن جايلوه ما يضيفونه لإغناء هذه الصفحة وسبر كينونة المرحلة التي حدثت فيها.
اقرأ ايضا
وداعا عبد الإله الصائغ سلاما .. سلاما أيها الراحل النبيل
د . محمد عبد الرحمن يونسعبدالإله الصائغ الصديق النبيل المغامر المقدام في بحور العلم و …