صفوة فاهم كامل
كان الأمير زيدبن الحسين اخو الملك فيصل الاول غير الشقيق ، أرشد رجل في العائلة المالكة وصاحب تجارب سياسية مسبقة، وعند وفاة الملك غازي عام 1939، أصبح هو المرشّح الأوفر حظًا للوصاية على عرش العراق، لكن اتهام الأمير زيد بعطفه وميوله نحو دول المحور بسبب اشتغاله مدّة طويلة سفيرًا في ألمانيا، وعدم ميله للإنكليز جعله غير مقبول لدى الحكومة البريطانية، فضلًا عن زواجه من سيدة تركية مطلّقة، هي الأميرة فخر النساء، التي كانت دائمًا تتباهى بالتقائها بهتلر وأن الأخير قد قبّل يدها واهتمَّ بها …! كل هذه الأسباب أدت إلى استبعاده عن الوصاية وترجيح كفّة الأمير عبد الإله، عليه.
والأميرة فخر النساء، التي تتمتع بشخصية قوية، كانت قد تزوجت من الأمير زيد سنة 1933، وأنجت منه ولدها الوحيد الأمير رعد. هي فنانة تشكيلية مقتدرة، حققت نجاحات باهرة في معارض فنّية في لندن وباريس، وبيعت لوحاتها بأسعار باهضة جدًا وتلاقي رواجًا إلى يومنا هذا. توفيت في عمان عام 1991.
وغداة حركة مايس1941، قررت الحكومة الجديدة إرسال ناجي شوكت إلى تركية لدعوة الأمير زيد -المتواجد فيها وقتئذ-وتنصيبه وصيًا على العرش، ولكن بُعد المسافة بين العراق وتركية وضيق الوقت رجّحت كَفّة الشريف شرف لاختياره لذلك المنصب. ()
وفي عام 1946، وافقت بريطانيا على رفع تمثيل العراق الدبلوماسي من مفوضية إلى سفارة، لذلك اختارت الحكومة العراقية شخصية تُليق بهذا المنصب المهم وبقدر حجم ومتانة العلاقة بين البلدين، وعليه صدرت الإرادة الملكية بتعين الأمير زيدبن الحسين، كأول سفير للعراق في بلاط سانت جيمس، وقدّم أوراق اعتماده إلى ملك بريطانيا جورج السادس يوم 19 كانون الأول عام 1946.
كان الأمير زيد، شخصية ودودة ومهذّبة ومراقبًا داهية، ويتّبع أسلوبًا ساخرًا في التعبير عن وجهات نظره ذات الصلة بسياسات العراق والعرب.هو متواضع جدًا ولكن في الوقت نفسه شديد الاعتزاز بكرامته ومكانة أسرته، وكان يفرض احترامه على الجميع بقوة شخصيته. ولدى وصوله إلى لندن وقبل تقديمه أوراق اعتماده، حدثت مشكلة تتعلق بلقبه، فقد وجّهت وزارة الخارجية البريطانية كتابًا أو مذكّرة، خاطبته فيها بلقب (صاحب السعادة) أو (His Excellency)، وهو اللقب المعتاد الذي يخاطب به السفراء والمفوضون.
وامتعض الأمير زيد من ذلك وأبلغ وزارة الخارجية البريطانية أن لقبه هو (صاحب السمو الملكي)، وإنه سيرفض مستقبلًا أية مخاطبة تأتيه بغير هذا اللقب، لأن هذا اللقب هو حقّه الطبيعي فقد كان أبوه ملكًا اعترفت به بريطانيا، وثلاثة من أخوته ملوكًا. لذلك لم يسع وزارة الخارجية البريطانية إلا الانصياع لذلك الطلب، وصدرت القائمة الدبلوماسية تحمل أسمه مع اللقب المطلوب، كما أن جميع المذكرات والرسائل الموجّه إليه أو إلى السفارة صارت تحمل ذلك اللقب (). وفي عهد سفارته وقّع العراق وبريطانيا عام 1948 معاهدة مثيرة للجدل لتحل محل معاهدة 1930، سُميت بمعاهدة بورتسموث، لكنها ألغيت فيما بعد.
وكان الأمير زيد يحضر سنويًا إلى بغداد لتولي أمور وصاية العرش بالإنابة عند غياب الوصي الأمير عبد الإله خارج البلاد، وأظهر جدارة بإدارة المملكة وكان الناس يثنون عليه (). وكانت أخر إنابة له عن العرش في شهر تموز من عام 1957، عندما غادر الملك وولي عهده إلى إستانبول للاصطياف حتى عودتهم في شهر أيلول (). وفي السنة القادمة أي في أوائل شهر تموز 1958، وجهت إليه الدعوة ليكون نائبًا للعرش عندما قرر الملك فيصل الثاني السفر إلى روما للقاء خطيبته في 9 تموز، فاعتذر الأمير زيد عن تلك الإنابة، لأنه كان بحاجة إلى بعض الفحوصات الطبية في إيطاليا وقضاء الصيف فيها، لذا اختير الأمير عبد الإله بديلًا عنه، فأنقذه هذا الاعتذار من مذبحة 14 تموز …!
واتخذ الأمير زيد، خلال قيامه بأعمال المملكة كثيرًا من القرارات الملكية المهمّة والخطيرة داخليًا وإقليميًا حظيت بإجماع مجلس الوزراء ومجلس الأمّة. واتجهت النيّة في وزارة أرشد العمري الأولى التي تشكلت في حزيران من عام 1946، بتنصيبه رئيسًا للديوان الملكي، إلا أن بعض الصعوبات القانونية حالت دون ذلك.
والشخصية البغدادية المعروفة والدبلوماسي والكاتب أمين المُميّز، قال كلمة للحقيقة والتاريخ عن الأمير زيد، جاء فيها: (لقد قابلت وتعرّفت في حياتي على كثير من الشخصيات العراقية والعربية والأجنبية من مختلف الطبقات والمناصب والمشارب المختلفة، قليل منهم تنطبق عليه صفة (Gentleman) كالأمير زيدبن الملك حسين شريف مكة. فقد تعرّفتُ إليه في بغداد، عندما كان يشغل منصب نائب الوصي، ونائب الملك، وكنت أزوره في البلاط في المناسبات، ويزورني بين حين وآخر في بيتي في الصرّافية، وخصوصًا في أُمسيات الصيف. وعملتُ بمعيته في لندن عدّة أشهر، فمكنتني تلك الاتصالات من التوصل إلى النتيجة المدرجة أعلاه .
في عام 1956، تم تكليفه من قبل الملك فيصل الثاني للتوجّه نحو الرياض للتفاهم مع ملك السعودية حول تحسين العلاقات بين البلدين وطيّ صفحة الماضي.
ولم ينافس منصبه هذا أي شخصية عراقية سياسية أو دبلوماسية طيلة مدّة وجوده على رأس البعثة، حتى أن بعض الساسة في بغداد عند مناقشتهم مستقبل الأمير عبد الإله بعد تولي الملك فيصل سلطاته الدستورية، اقترح نوري السعيد، في هذا الشأن تعيين الأمير عبد الإله سفيرًا في لندن، لكن الأمير عبد الإله رفض ذلك، قائلًا: إنه لا يريد أن يزعج عمّهُ بذلك!لأن الأمير زيد كان مُحبًّا لذلك المنصب بالذات .
منحته الملكة إليزابيث الثانية وسام الملكة فكتوريا (G.C.V.O)
يوم 12 تموز 1958، بدأ مجلس وزراء الاتحاد العربي بين العراق والأردن أو ما يُعرف بالاتحاد الهاشمي، عقد أولى جلساته ومنها وزارة الخارجية، وفي مساء ذلك اليوم أُقرّت التعينات الجديدة بالنسبة للحركة الدبلوماسية ومنها تعيين السيد نجيب الراوي، سفيرًا للاتحاد العربي في لندن خلفًا للأمير زيد، بناءً على رغبة الأخير بالاستقالة من منصبه ()، لكن هذه الأوامر لم ينفّذ فعليًا لحدوث الانقلاب المشؤوم، حيث أُبعدَ الأمير زيد عن وظيفته في السفارة العراقية، وقال قبل مغادرته: (لا شأن لي بهذه الأمور). فقد كان الأمير زيد، غير راضٍ عن سياسية أبن أخيه الأمير عبد الإله، وأعماله في العراق.
ويوم 14 تموز 1958، كان الأمير زيد، في حينها بإيطاليا وبعد مدّة وجيزة من وقوع الانقلاب تلقى اتصالًا من السفير العراقي في روما يطلب منه العودة إلى لندن وإفراغ كل ممتلكاته الشخصية من السفارة هناك، فالحكومة العراقية الجديدة أمهلته 24 ساعة فقط لإنجاز هذه المهمّة. وعلى الفور استقلَّ طائرة هليكوبتر واتجه إلى مدينة نابولي، ومنها طائرة إلى لندن. وبمجرّد وصوله السفارة، وضع على عجل جميع معلّقاته في صناديق وحقائب سفر، بينما كان بعض أعضاء السفارة ممن بايعوا (الجمهورية العراقية الجديدة) يراقبونه؛ لقد كانت تجربة مذلّة ومهينة …!
لكن بقيت في السفارة ممتلكات تعود للأمير زيد، لم يسعفه الوقت لإخراجها، وهي ثلاثة لوحات كبيرة رُسمت بالألوان الزيتية له وللملك فيصل الثاني والأمير عبد الإله، وحقيبتا أوراق خاصة. وعن هذه الأوراق يقول ابنه الأمير رعد: (بعد مرور نصف قرن من ذلك التاريخ، قرّرت الحكومة العراقية في عام 2008، أن تخلي مبنى السفارة العراقية القديم في لندن وأن ترحل إلى مكان جديد في المدينة وقيل لنا إنه خلال هذه العملية ترك مسؤولو السفارة أشياء مختلفة في المبنى للتخلص منها. وكان من بين عمال التنظيف موظف من أصل عربي، وقد عثر على مجموعة من الأوراق القديمة وبعد أن قرأها أدرك أنها قد تكون مهمّة وأخذها إلى جهة متخصّصة بالوثائق القديمة، وهذا المكان بدوره اتصل بالسفارة الأردنية في لندن، فظهرت أنها أوراق تاريخية أصلية تتعلق بالثورة العربية الكبرى والحكومة العربية في دمشق، وهي تعود للأمير زيد بن الحسين، ومن حسن حظ الطالع أنها لم تتلف أو تنقل إلى مكان آخر، إذ بقيت في زاوية مظلمة في سرداب السفارة لأكثر من خمسين عاماً …!
وبعد الانقلاب أصبح الأمير زيد رجلًا محطّمًا لأنه فقد كل إيمان وأمل بالعالم العربي، وتحدّث مرّةً مع عائلته بمرارة قائلًا: (يتفق العرب على أمر واحد فقط هو عدم الاتحاد …! تخيّل كم هي القوة التي ستكون عندهم لو فعلوا ذلك …؟ كل ما يفعلونه هو التخاصم والتآمر ضد بعضهم البعض …! بعد ذلك اعتزل السياسة نهائيًا وأخذ يتنقّل بين فرنسا وبريطانيا بعد خدمة متوالية في العمل الدبلوماسي في لندن استمرّت اثنتي عشر سنة.
في منتصف شهر تشرين الأول من عام 1970 اشتدَّ عليه الدّاء وأصيب بتصلّب في شرايين القلب، فنُقل إلى إحدى مشافي باريس، حتى وافاه الأجل يوم الأحد 18 تشرين الأول، ونقل جثمانه إلى الأردن ويُدفن في الأضرحة الملكية بعمّان. ()ليقوم بعدها المؤرخ الأردني سليمان موسى، بنشر مذكراته عام 1975.
عن موقع ( كتابات )
اقرأ ايضا
نبذة تأريخية عن العمليات الإنتخابية في العراق
صبحي مبارك مال اللهأعلن الملك فيصل الأول في يوم تتويجه 23/آب/1923م ملكاً على العراق، بأن …