مجيد خدوري
ترجمة – وليد خالد احمد
2 ــ 2
واصلت جماعة الأهالي تصعيدها المعارضة عن طريق هجومها العنيف على الحكومة في صحيفتها، غير ان مواجهة هذه الهجمات كانت سهلة عن طريق سيطرة الحكومة الشديدة على الصحافة. وإلى ذلك فان الحكومة قمعت كل عناصر المعارضة بالقوة؛ فقد القي القبض على الشيوعيين، وفُصل الموظفين الحكوميين المشكوك بهم. قدّم بعض السياسيين الليبراليين الأكبر سناً التماسات إلى الملك احتجاجاً على طغيان وزارة ياسين- رشيد، لكنها ذهبت ادراج الرياح.
سرعان ما بات مفهوماً انه لايمكن الإطاحة بالحكومة إلاّ بتمرّد عسكري، وانه لايمكن ترتيب مؤامرة كهذه قبل ان يتخلى الجيش عن ولائه للحكومة. كانت جماعة الأهالي قد بدأت فعلاً باقامة اتصالات سريّة مع نفر من ضباط الجيش. برز حكمت سليمان بطلاً في هذه المؤامرة وبفضل جهوده وحده امكن كسب الجنرال بكر صدقي، قائد الفرقة الثانية، إلى صفوف الأهالي. لابد ان حكمت سليمان، الأخ الأصغر لمحمود شوكت باشا، مغامرة اخيه البطولية الفذة يوم سار في اسطنبول على رأس الجيش التركي المتمرد في تموز 1909 مطالباً السلطان عبد الحميد الثاني بالتنحي عن العرش. مستذكراً هذه الأحداث اقنع حكمت بكر بقيادة تمرد في جيش العراق ليُجبر وزارة ياسين- رشيد على الإستقالة. وذكر البعض لمؤلف هذا الكتاب ان بكر صدقي لم يحضر سوى اجتماع سري واحد لجماعة الأهالي لخشية حكمت سليمان من ان كثرة اللقاءات ببكر صدقي تثير شكوك الحكومة؛ ولذلك تطوع للعمل كضابط ارتباط بين بكر صدقي وجماعة الأهالي. وبالمقابل جاء بكر صدقي بمؤيد آخر، الجنرال عبد اللطيف نوري، قائد الفرقة الأولى، وبفضل هذين الضابطين العسكريين بالدرجة الأساس تم تنفيذ التمرد بهذه الطريقة البارعة.
بصرف النظر عن عدم ولاء بكر وزميله عبد اللطيف، لابد من الإشارة إلى ان حرارة ولاء ضباط الجيش للوزارة كان قد بدأ يفتر منذ امد طويل. كانت الوزارة كثيراً ما تستخدم الجيش في الحقيقة لإسكات معارضين سياسيين، وبدأ شعور يتنامى بين ضباط الجيش ان الوزارة تستخدمهم كاداة ضد معارضيها السياسيين لا ضد اعداء البلاد الخارجيين. وبالتالي فقد أُضعِف نظام العراق السياسي وكان ثمة شعور عميق لدى ضباط الجيش بالحاجة إلى حكومة “قوية”. وذُكر ان ضباط الجيش غالباً ما كانوا يرون وجوب ان يتولى الجيش نفسه حكم البلاد ليهيئ القوة اللازمة للإصلاح اسوة بالحال في تركيا وفارس. وستتناول فقرة اخرى هذه الروح المتنامية بتفصيل ضافٍ، ولكن لابد من ملاحظة عابرة هي ان عدم ولاء بكر صدقي وزميله كان له مبرر كافٍ في تغيّر موقف ضباط الجيش.
دور حكمت سليمان
بدأ الإتصالات بين جماعة الأهالي والجيش. حكمت الذي نهض بدور ضابط اتصال بين بكر صدقي، بعد ان اقنعه بقضية الأهالي، وجاعة الأهالي. ايديولوجيتا الجيش والأهالي بعيدتان عن التماثل، إلاّ ان مظهر قائدي الحركتين، حكمت وبكر، كان نفسه تقريباً، ولذلك فان تعارض الأيديولوجيتين كان ثانوياً بالنسبة إلى رغبيتيهما. كان لإرتباط حكمت- بكر اهمية كبرى في وصول تعاون الجيش مع الأهالي إلى نهاية ناجحة؛ لكنه يبيّن ايضاً مدى هيمنة الشخصيات على الأيديولوجيات في الحركات السياسية في العراق. وعليه فان دراسة شخصية حكمت تلقي الضوء على الموضوع، وللسبب نفسه ستتناول فقرة اخرى شخصية بكر.
يُذكر ان حكمت سليمان كان عضواً سابقاً في حزب الإخاء. ومن بين كل السياسيين العراقيين كان حكمت معروفاً بشجاعته وروح المغامرة عنده، بسبب صراحته واستقامته. اصبحت له شعبية بين الشباب لأنه بدا لهم سياسياً تقدمياً مسناً. وبعيداً عن هذا فان اهميته تعتمد على نفوذه الكبير على قبائل ديالى وبعض قبائل الفرات الأوسط.
بعد خلافه مع حزب الإخاء عام 1935، انضم حكمت إلى جماعة الأهالي وعمل على تطوير انشطتها. وكان اصلاً على علاقة وثيقة بجعفر أبو التمن وكامل الجادرجي، وهما عضوان سابقان في حزبين معارضين ايضاً، ولهذا فقد وجد الجماعة الجديدة ملائمة له. ولأنه سياسي مسن واكثر خبرة في سياسات الحزب، اصبح العضو الأكثر قوة في الجماعة.لكن حكمت لم يصرّح قط انه اشتراكي؛ اعتقد انه يكفي ان يشير إلى نفسه بصفته “اصلاحياً” بالتوازي مع الحركة الكمالية في تركيا. كان يشارك زملاءه وجهات النظر في ضرورة تحسين اوضاع جماهير الفلاحين الذين كان يراهم في وضع بائس. كما دعم مبادئهم في السيطرة الحكومية على الصناعات الناشئة حديثاً في العراق وضروة تأسيس صناعات اخرى. وعلى كل حال فان خلفيته الإجتماعية والإقتصادية لم تكن تقوم على قراءة ماركس وانجلز، اسوة بحال زملائه، وانما على فهمه الخاص للنظام الكمالي التركي.
امضى حكمت عام 1935 بضعة اشهر في تركيا. زار بعض مصانعها وتعرّف على تطورات البلاد الإجتماعية والإقتصادية. تلقى حكمت تعليمه في اسطنبول وكان دائم المديح للأتراك، لكن هذه الزيارة تركت فيه اثراً عميقاً اذ كان قادراً على مقارنة التقدم في ظل الحركة الكمالية بالنظام العثماني تحت حكم السلاطين. عاد حكمت إلى العراق في كانون الأول 1935، وشوهد سائراً في شوارع بغداد معتمراً قبعة- علامة على تأثير زيارته إلى تركيا عليه. واجرى عدداً من المقابلات الصحفية بصدد التطورات الحديثة في تركيا، إلاّ ان اهم تلك المقابلات نشرته صحيفة البلاد، احدى الصحف العراقية الرائدة. اجرى رافائيل بطي، محرر البلاد وعضو سابق في حزب الإخاء، مقابلة شخصية مع حكمت سليمان وكتب ثلاثة مقالات مهمة في صحيفته بسط فيها افكار حكمت.
بدأ حكمت مقابلته بالإشارة إلى ان اكبر حاجات العراق هي الإصلاحات، ولكن كيف ينبغي تنفيذ هذه الإصلاحات؟ “الإصلاحات” يقول حكمت، “لايمكن ان تنفذها سوى حكومة مستنيرة، وافراد معروفين بآرائهم التقدمية وكفاءتهم وقوتهم”. ويضيف حكمت، ان ظروف العراق الحالية بدائية جداً، ولا يعرف الناس عن كيفية استغلال امكانيات بلادهم الإقتصادية سوى القليل. فلو كانت في العراق حكومة مستنيرة، للفتت الإنتباه إلى استغلال امكانيات كهذه. وقدم الكثير من الأمثلة على التطورات المعاصرة في تركيا الحديثة.
ولكن حكومة مستنيرة كهذه، يقول حكمت، تحتاج استقراراً. كانت ثمة تغييرات حكومية متوالية في العراق، تقوم بالدرجة الأساس على مواضيع شخصية. وقد نسفت حلقة صعود الحكومات وسقوطها النظام السياسي في العراق. يقول حكمت، يمكن مقارنة صعود الحكومات وسقوطها “بدولاب هواء” ذي ثمان مقصورات يشغلها ثمانية وزراء. وتحت الدولاب ثمة دائماً خمسة عشر إلى عشرين وزير سابق ينتظرون توقف الدولاب بفارغ الصبر؛ فاذا توقف الدولاب، ترك الوزراء الثمانية مقصوراتهم، وسارع ثمانية من الوزراء السابقين المنتظرين بالقفز إلى الدولاب واحتلال المقصورات الشاغرة. عندئذ يستأنف الدولاب حركته الدائرية، فيما يتعاون بقية الوزراء السابقين والوزراء الثمانية الذين تركوا مقصوراتهم للتو في سبيل غايتهم المشتركة، وهي ايقاف دولاب الهواء مرة اخرى ليحظى كل منهم بفرصة اخرى. ومن الواضح انه فبما تستمر هذه الحركة الدائرية، لن يظل للوزراء الذين في السلطة وقت للعمل، بل محض وقت للدفاع عن انفسهم من هجمات الوزراء السابقين التي لاهوادة فيها. وفي هذه الظروف لايُنجز عمل بناء، وهذا هو ما يُفسّر ان العراق لم يحقق سوى النزر اليسير من التقدم، إن كان ثمة تقدم على الإطلاق.
اقرأ ايضا
نبذة تأريخية عن العمليات الإنتخابية في العراق
صبحي مبارك مال اللهأعلن الملك فيصل الأول في يوم تتويجه 23/آب/1923م ملكاً على العراق، بأن …