رحيم الحلي
تعرفت إليه في دمشق في أوائل الثمانينات حين عملت في الفرقة الغنائية التي أسسها الملحن كمال السيد. أصبح صديقاً قريباً لي، حيث جذبني صوته وطيبته للاقتراب من شخصيته الإنسانية التي اتسمت بالوفاء والصدق والبساطة. واليوم، أعيش قريباً من مدينته مالمو في السويد، وهكذا جمعتني به المنافي منذ أكثر من أربعة عقود من الغربة.
في زوايا الذاكرة الفنية العراقية، يلمع اسم سامي كمال كأحد أبرز الأصوات التي صدحت بحب الوطن والناس، ثم خفت صداه قسراً بفعل النفي والاضطهاد. إنه المطرب المنسي نفياً، والذي غادر الوطن حاملاً صوته وعشقه للفن، بعدما ضاقت به البلاد وضيقت عليه الحياة.
ولد الفنان سامي كمال عام 1940 في قضاء الكحلاء (المسعيدة) التابع لمحافظة ميسان، في بيت متواضع لكنه زاخر بالقيم والعمل والكرامة. والده “مناتي” امتهن خياطة العباءة العربية، ووالدته كانت ربة بيت لرجلٍ شابٍ طموح هو أكبر أولادها الستة. ومنذ طفولته، حمل سامي مسؤوليات كبرى، سرعان ما تبلورت في انحيازه المبكر للأفكار الماركسية، وفي حبه للفن، والغناء تحديداً.
كانت بداية التحول الحاسمة في حياة سامي كمال حين انتقلت أسرته إلى بغداد مطلع الخمسينيات، حيث وجد في العاصمة فضاءً جديداً رحباً، ثقافياً وفنياً. وهناك التقى بأسماء لامعة تركت في مسيرته أثراً لا يُمحى، على رأسهم الراحل كمال السيد، الذي يعتبره الأب الروحي له، إضافة إلى الملحنين محمد عبد المحسن وعباس جميل، والشعراء كاظم إسماعيل كاطع وكريم العراقي وغيرهم.
في بغداد، التحق سامي كمال بفرقة موسيقى الجيش، فعزف على الكلارنيت، ثم تعلم العزف على العود والسكسفون، وتحولت هوايته للغناء إلى مهنة وحياة. بدأت انطلاقته الفنية من فرقة المنشدين الصباحية في أواخر الستينيات، ومع بداية السبعينيات بدأ يثبت اسمه بين أبرز الأصوات العراقية، حيث لحن وغنّى أعمالاً لا تزال خالدة في الذاكرة، منها “مدللين”، و”رايح يا رايح وين”، و”أحبه وأريده”، و”لا تكول الحب ضاع”، وغيرها الكثير.
رغم ازدهار الفن العراقي في عقد السبعينيات، إلا أن النظام السياسي آنذاك أطلق حملات منظمة ضد الوطنيين والمثقفين والفنانين، فوجد سامي كمال نفسه مستهدفاً، لا لشيء سوى لفكره وانتمائه الفني. فقرر الهجرة، تاركاً بغداد التي أحب، نحو المنفى الذي استمر لعقود.
تنقّل في منافيه بين بيروت وعدن ودمشق، لكنه بقي وفياً لصوته ولرسالته الفنية. في عدن، أسس فرقة غنائية وساهم في تدريس الموسيقى، وهناك انطلقت “فرقة الطريق العراقية” بمشاركة الفنانين حميد البصري، شوقية، كمال السيد، وجعفر حسن، وكانت هذه الفرقة صوتاً مناضلاً يُغني للوطن ويؤرّخ للمنفى باللحن والكلمة.
وفي دمشق، أسس مع زملائه “فرقة بابل الغنائية” عام 1983، التي أصبحت مع شقيقتها في اليمن واجهتين أساسيتين للأغنية العراقية الملتزمة. قدم عبرها أغاني وطنية وإنسانية لا تُنسى، منها: “يا وطنه”، “دكيت بابك يا وطن”، “يـابحر”، “مشتاك”، و”صويحب”، التي شكّلت ذروة الإبداع في تجسيد وجدان الوطن في زمن القمع.
أصالة صوته وروحه العراقية تجلّت في أعماله الكثيرة، مثل “بين جرفين العيون”، “حنينه”، “خذني على إيدك فرح”، “ذمة بركبتك يا قمر”، “جابولي خبر”، “ما ودعونه”، “رحّالة نمشي على النجم”، و”استمد الشجاعة”، وغيرها من أغاني الحب والغربة والنضال.
في عام 1994، تعرّض سامي كمال لجلطة دماغية حادة كادت تودي بحياته، فأجبرته على التوقف عن الغناء والتلحين. لكنه لم يتوقف عن كونه رمزاً فنياً وثقافياً مناضلاً، حمل صوته قضية، وأغنياته وجع وطن، وبقي في ذاكرة العراقيين وفياً لهم، حتى في أشد لحظات الغربة والخذلان.
سامي كمال ليس فقط مطرباً، بل وثيقة حيّة لذاكرة العراق الفنية، وصوتٌ جنوبيٌّ خرج من “الكحلاء”، حيث الماء والهوى والأهوار، ليصل صداه إلى العالم. هو المطرب الذي غيّبته المنافي، لكن صوته بقي شاهداً على الزمن الجميل، زمن الأغنية العراقية الصافية، والإنسان الذي غنّى للحب والحرية.
تحية لك يا سامي… فناناً، وإنساناً، ومناضلاً.
عندما يُذكر الغناء العراقي الأصيل، يبرز اسم الفنان الكبير سامي كمال كأحد أعذب الأصوات التي ولدت من رحم الأهوار، ونمت بين ضفتي الشجن والحب. هو ابن قضاء الكحلاء في محافظة ميسان، المولود عام 1940، الذي حمل الوطن في صوته، وسكب الحنين في أوتار ألحانه، ليصبح أحد رموز الأغنية العراقية الملتزمة.
منذ طفولته، شغف سامي بالموسيقى والغناء، يصنع من لحظات اللهو مسارح صغيرة يطلق منها نغماته العذبة. وقد التقط هذا الحس الموسيقي معلمه زبون مدلول السهيلي، ففتح له باب الحضور في نشاطات المدرسة ومناسباتها. ومع انتقاله إلى بغداد، التحق بفرقة موسيقى الجيش وأتقن العزف على الكلارنيت، ثم العود والسكسفون، لينتقل من الهواية إلى الاحتراف.
في سبعينيات القرن الماضي، بزغ نجمه حين قدّمه الملحن الكبير كمال السيد إلى الساحة الغنائية من خلال أغنية “مدللين” عام 1974، وهي من كلمات الشاعر إسماعيل محمد إسماعيل. ومنذ ذلك الحين، توالت النجاحات، فغنّى “رايح يا رايح وين” التي حصلت على جائزة أفضل أغنية عراقية لعام 1976–1977، إلى جانب “أحبه وأريده”، “الحب ضاع”، و”بين جرفين العيون”، وهي أعمال صاغها كبار الشعراء أمثال كاظم إسماعيل كاطع وكريم العراقي ومهدي عبود السوداني.
لكن الطريق لم يكن مفروشاً بالورد. ففي أواخر السبعينيات، تعرّض كحال العديد من الفنانين العراقيين إلى المطاردة والتهميش من قبل النظام الدكتاتوري، ما اضطره إلى مغادرة العراق عام 1979، حاملاً وجعه وصوته إلى المنافي. كانت بيروت أولى محطاته، حيث انخرط في النشاط الثقافي والغنائي، مشاركاً في مهرجانات وطنية فلسطينية ولبنانية، منشداً للوطن ومقاوماً للمنفى.
في بيروت، حيث امتدت عيون النظام حتى إلى المؤسسات الوطنية، عاش سامي كمال الخطر اليومي، فاضطر للانتقال إلى اليمن الديمقراطية، وهناك كان له دور ريادي في النهضة الموسيقية، إذ عمل مدرساً للموسيقى وأسّس فرقة غنائية أنتجت العديد من الأغاني اليمنية والعربية، لكنه ظلّ يردّد أوجاع العراق.
برفقة كوكبة من الفنانين العراقيين المنفيين، أمثال حميد البصري، شوقية، كمال السيد، جعفر حسن، حمودي عزيز، أسّس فرقة الطريق العراقية، التي قدّمت أجمل الأغاني الوطنية التي أعادت للأغنية العراقية روحها بعد أن دمرها القمع. ثم انتقل إلى سوريا عام 1983، وهناك أسهم بتأسيس فرقة بابل الغنائية إلى جانب كمال السيد، كوكب حمزة، فلاح صبار وغيرهم. كانت هذه الفرق صدى حقيقياً لصوت المنفى العراقي، حيث مزجت التراث بالحنين، والألم بالأمل.
من أبرز مجموعاته الغنائية:
«لبغداد”، “دكيت بابك يا وطن”، “صويحب”، “يابحر”، “مشتاك”، “شلون بيه وبيك يبنادم”… وكلها أعمال تستصرخ الذاكرة العراقية وتدعو للحرية وتقاوم القمع.
رغم الجلطة الدماغية التي أصابته عام 1994، ظلّ اسمه محفوراً في ذاكرة العراقيين، وصوته يتردّد في وجدان كل من عاش الغربة أو حمل الوطن في القلب.
سامي كمال لم يكن مجرّد مطرب، بل كان إنساناً، مناضلاً، فناناً آمن بأن الأغنية ليست للتسلية فقط، بل سلاح ناعم في وجه الطغيان.
فأين نحن من تكريمه؟ وأين الوطن من أبنائه الذين أعطوه العمر كله؟
تحية لك يا سامي… فناناً وإنساناً ومناضلاً.
تحية لصوتٍ لم ينكسر، ولنايٍ لم يصمت، رغم الغربة وجحود الزمان.
اقرأ ايضا
سامي كمال .. حين عزف لحنه الاخير ظل الوطن يصدح بأنغامه
د. حسين الانصاريلقد ترك وصيته قبلا الرحيل الأخير أن لا تُذرف دمعة، ولا يغلف القلوب …