ذكريات مع راهب العلم إحسان عبّـاس

أحمد علي
بلى، ‬طوى ‬الساحل ‬وتسلّق ‬الجبل، ‬حيث ‬أنا ‬حالٌّ ‬عهدذاك، ‬خبرُكَ ‬الحزين، ‬يا ‬إحسان ‬عبّاس‭. ‬قالوا ‬إنّك ‬ارتحلتَ، ‬يا ‬صديقي ‬الأَعزّ، ‬يوم ‬الثلاثاء ‬29 (‬يوليو‭) ‬2003‭. ‬ولم ‬يكن ‬الخبر ‬صاعقاً، ‬بالنسبة ‬إليّ، ‬فلقد ‬هيّأتُ ‬نفسي، ‬منذ ‬بعض ‬الوقت، ‬لصدمةٍ ‬عاطفيّة ‬كهذه، ‬وخصوصاً ‬أنّ ‬الأَوجاع ‬كانت ‬تنوشك، ‬ووقف ‬الطبّ ‬عاجزاً ‬عن ‬مدّ ‬يد ‬العون ‬إليك، ‬لأنّك ‬جاوزت ‬الثمانين‭. ‬
كنتُ أَستعذب دماثتك وحديثك الودود؛ أَفِدُ عليك وتسأَلني: كيف أنت؟ فأُجيبك: مشتاق.فتردّ عليّ: هذا بعض ما عندي. ولكنّ الأَوصاب احتشدت عليك ككرة الثلج، تتخلّص من وجع وعضوٍ مُضَام لتُصاب بثانٍ وبموقع مختلِف؛ وآخِر الرزايا التهاب صدريّ فقدتَ على أَثره الصوت! لا أَدري ماذا أَقول؟ كنت أَفتقدك على مدار السنوات التي حللت فيها عمّان، التي ارتحلتَ إليها عام 1986؛ ولم تزر بيروت بعد ذلك سوى مرّتين أو ثلاث، على ما أَذكر، آخِرها عام 1999، عندما كرّمك النادي الثقافيّ العربيّ، إبّان معرضه السنويّ للكتاب، الثالث والأربعين، وكانت أُمسية لا تُنسى، راشحة بالعلم، فوّاحة بالوفاء والعواطف الزاخرة. وفي ذلك التاريخ، نهاية عام 1999، كرّمتك الدولة اللبنانيّة، عهد وزارة صديقك الدكتور سليم الحص، بمنحك وسام الأَرز من رتبة فارس. وكان للمناسبة عشاء حميم في فندق البريستول، حضره الدكتور الحص، ثم انسحب من الأُمسية لأنّه ينام باكراً. وعندما جاء ذكره، إثر مغادرته، قال أحدهم ضاحكاً: لقد نام! وكيف لي أن أَنسى وجهك الجميل، ومعطفك الأنيق، وجسدك الذي بدأ يدهمه النحول؛ وقد قلت لي ليلة وصولك إلى قاعة المعرض: إنّ الكِبَرَ أَسرع إليّ، يا أَحمد. وإنّ الحياة لا تكتسب معناها وجدواها إلّا مع شخصٍ فذٍّ، نظير ما كنت عليه؛ وُهِبَتْ له الحياة فبادلها عطاء بعطاء.
قبران ‬يتناجيان
وحُمَّ القَدَرُ الغَشُوم، ففارقنا الجسد الربعة، العريض المنكبين، المتهلّل الوجه، العالي الجبهة، الفاتن الابتسامة، ليلتمس قبراً يقيم طيّه في أَرض عمّان. ولكنّ الحياة الروحيّة للإرث الأدبيّ التاريخيّ التراثيّ لإحسان عبّاس، هذه الحياة باقية، راسخة، مستمرّة؛ ما دام هناك أَجيال عربيّة ستَرِدُ على الدوام إلى منهله الصافي. ما تركته كبير، متنوّع، غزير، وشائق. وإذا قِسنا وقارنّا السنوات التي أَمضيتَها، كاتباً ناقداً باحثاً منقّباً محقّقاً مترجماً، بالأَعمال التي أَنجزتها، لأَدركنا عظمة ما تركتَ لنا. لقد أَورثتنا مكتبة غالية هي من نتاج عبقريّتك المتفرّدة.
نزلتَ قبراً في أَرض عمّان، وكان الحريّ بك أن تنزل في عين غزال، القرية التي تفتّحتْ عيناك على عين غزالها، حيث البساتين الخُضْر والقناديل البرتقاليّة، وذلك في ليلة، ربّما كانت غاضبة، والواقعة في الثاني من شهر ديسمبر 1920؛ وفيها ولجتَ المدرسة الابتدائية. ولكن أين هي عين غزال على الخريطة؟ لقد محاها الإسرائيليّون القَتَلَة من الوجود، كما فعلوا بمئات القرى الفلسطينيّة الأُخرى. وأَخلى الجيش العراقيّ، الذي كانت حشوده نازلة في المكان، أَهلها إلى بلاد الرافدين، على أمل أنّهم عائدون قريباً جدّاً إلى معاهدهم. وكان في الطابور المرتحِل: والد إحسان، رشيد، ووالدته، فاطمة، وأخوه من أُمّه محمود، وهو أَكبرهم سنّاً، والشقيقة نجمة، وشقيقاه: توفيق وبكر. أيّ أُمّة ذليلة نحن؟! فمن جملة أَحداث العراق الراهنة أنّ بعض الفلسطينيّين هناك طردهم الناس من بيوتهم في غمرة الفوضى والانتقام، فنصب الفلسطينيّون الخيم ليعيشوا تحتها! بل أين حيفا وعكّا، يا أبا إياس، حيث حصّلتَ الدراسة المتوسّطة والثانويّة؟ أين القدس التي تلفّها الآن أَربطة المستوطنات الصهيونيّة؟ وكنتَ قد ولجتَ فيها الكلّيّة العربيّة وتخرّجتَ فيها عام 1941، وهي المعهد الحكوميّ الباذخ، الذي له أَيادٍ بيضاء ناصعة على رتلٍ كبير من مثقّفي فلَسْطين اللامعين؟ وصَفَد وثانويّتها التي علّمتَ فيها طَوَال خمس سنوات، تُراها تذكر هذا الشابّ الطموح الذي يحمل في إهابه الصغير طاقة متفجِّرة؟
وأنت مضطجع في قبرك ربّما راودتك فكرة رفاقك القدامى الذين سبقوك إلى باطن الأرض. بلى، هناك قبر رفيقك إميل حبيبي، وهو قد تشبّث بالبقاء ونقش على قبره أنّه باقٍ في حيفا. إميل هو الذي سعى ليتأبّط ذراعك إلى صفوف الحزب الشيوعيّ الفَلَسْطينيّ، الذي كان يُدعى عهدذاك: عصبة التحرّر الوطنيّ. ولئن ابتعدتَ في حياتك عهدذاك واللاحقة منها، وقد تقاذفتك المنافي، عن التنظيم الحزبيّ، لقد ظللتَ بالماركسيّة على وِصالٍ ومنهج. وذلك كما تُصرّح بذلك، من خلال حوارٍ ممتع صريح ثريّ جريء، عقده معك رشاد أبو شاور، وذلك في المجلّة التي تُصدرها الأمانة العامّة لجامعة الدول العربيّة، وهي «شؤون عربيّة» 19/20 سبتمبر – 1982، (ص326 – 334). ومن عَجَبٍ أنّ هذا الحوار، على أهميّته وخطورته، يخلو منه كتاب «حوارات إحسان عبّاس» الذي أَعدّه يوسف بكّار، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت 2004. من حظّ إميل حبيبي أنّه رقد في تراب الوطن الدافئ، ولكنّك أنت بقيتَ في غربة، ألم تسمِّ سيرتك الذاتيّة: غُرْبة الراعي؟ هي غربة إنسانٍ نشأ في وَسَطٍ فلّاحيّ يعتزّ بالانتساب إليه، لذا كان يمسّ خاطره أن يستخفّ أحدهم بهذا الوسط في مجرى الكلام، وإن عن غير قصد الأذيّة. ولقد لفتت نظري زوجته أمّ إياس إلى هذه الناحية، ذات مرّة، فكنت لها ممتنّاً.
إنّ الخطابة لا تُجدي، كأن نقول: إنّ الوطن العربيّ قاطبةً يحضن بحنانٍ أحد أَبنائه النابهين. هو قول، من الوجهة النظريّة، صادق، ولكنّ مأساة فَلَسْطين، وكلّ مأساة عربيّة طارئة بعدها، أَعطت البرهان الساطع على أنّ العروبة طبل أَجوف! تُرى، هل «عين غزال» وحدها مُحيت؟ فَلَسْطين تكاد تُمحى، والعرب يتفرّجون! وبالعرب أَقصد: الأَنظمة والشعوب. كم أنت حزين في أَعماق الثرى، يا إحسان عبّاس.
… وإحسان عبّاس
كِدْتُ أَقول: إحسان عبّاس، أين أنت؟
إنّها العدوى، بلا ريب، فلقد قرأتُ، البارحة، «قصيدة إلى ماياكوفسكي» التي كتبتها بالإنجليزيّة إيتل عدنان، ونقلها إلى «العربيّة» مثقّف لبنانيّ، ذو نسيج متميّز، هو فوّاز طرابلسي. هي قصيدة مفعمة بالرهافة، والحسّ الجارح، وبالوعي الأخّاذ. ومطلعها: ماياكوفسكي، أين أنت؟ ليتك كنتَ من قرّائها، يا أبا إياس، إذن لاستمتعتَ بها، كما أُخمّن، استمتاعاً فائقاً. كيف لا، وأنت، المخمَّر بالتراث وبالقصائد العصماء تتخلّل تاريخاً عجيباً لأدبٍ عربيّ حافل بأَسرار لغةٍ تسحرك أَفانين القول فيها ومنعرجاته؟ أنت المحتَقِب هذا كلّه، كنتَ، ربّما، أَوّل ناقد عربيّ التفتَ، على نحوٍ جِدّيّ معمَّق، إلى شعر الحداثة الثوريّ، عَبْرَ كتابك الصادر عام 1955: عبدالوهاب البيّاتي والشعر العراقيّ الحديث.
وأنت في هذا رجل فريد، ذلك أنّ الناظر في المخطوطات التي أَكببتَ عليها محقّقاً دارساً، تتخلّل عيناك آلافَ الصَّفَحات في الفلسفة والنقد والشعر والتاريخ والجغرافيا والأَندلسيّات والأَمثال والرسائل، يَعْجَب أيّما عَجَبٍ كيف ضممتَ هذه المروحة الواسعة من الاهتمامات التراثيّة، فضلاً عن احتفالك الجميل بالأدب الحديث، عربيّه وأجنبيّه، وبمباحثه النقديّة المعاصرة, من ابن حزم وابن حمديس وابن الخطيب وابن خَلِّكان وسائر الأَبناء المعتَّقين البررة، إلى ڤون چرونباوم وهاملتون جِبْ وهرمان مِلْڤل صاحب «موبي ديك»، ملحمة البحر الشهيرة. هي نُقْلة بين العصور لا يجرؤ عليها إلّا مثقّف شموليّ، نادر التكرار.
تقول إيتل عدنان في قصيدتها:
ماياكوفسكي، ‬من ‬أين ‬آتي ‬بالريح
التي ‬ستحمل ‬أَفكاري ‬إليك؟
كلّهم ‬رحلوا‭: ‬الإمام ‬عليّ ‬وتشي ‬غيڤارا
وغسّان ‬كنفاني ‬وأنتَ‭…‬
لم ‬يبقَ ‬إلّا ‬القُساة‭.‬
هل تأذنَ لي، مبدعتي الشاعرة، بأن أُضيف إلى قائمة الأَسماء: … وإحسان عبّاس؟
القميصــــان
نشأتَ صوتاً كئيباً، وجاءت نكبة هي الهول والعلقم، تنعقد معها القلوب قبل الأَلسن، فجرّعتك الغُصَص وزرعتْ في أَعماقك حزناً لا ينقضي! مَنْ كان يشاهد ثغرك البسّام دائماً ووجهك المتهلّل أَبداً يخال أنّك في فرحٍ وموسم أَعراس. هو طبعك الجميل، ولكنّك كنت أَدرى بالأَحوال الحقيقيّة وبالنَّكَسات القوميّة تتوالى، فتشلّك عن العمل والكتابة إلى حين؛ ثم تعود إلى الغرق، طاوياً كَشْحاً عن السياسة العربيّة وشجونها، إذْ هي فالج ما تعالج، والأَوْلى لك أن تتناساها وتنصرف إلى ما ينفعك وينفع الأَجيال المتعطّشة إلى الزاد المعرفيّ الأصيل. ولقد التقيتك بعد نكسة 1967 وإبّان مراحل الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وطالعتُ الوجع الذي كان يحزّ، كالمنشار، صدرك وآمالك. صرنا نخشى على أَحبابنا الكبار من النَّكَسات العظمى، ولكنّك أنت أَدركتَ ما حلّ بالعراق من تحريق ونهب وتدمير، فكأنّ المآسي أَبت عليك الرحيل قبل أن تفجعك بما هو غالٍ وعزيز. فإذا أنت بين قميصين لا سبيل إلى نزعهما: وَهَن الجسد ووَنَى الروح.
وكم وَنَى الروح صعب وشاقّ على مَنْ يحرص أن يكون دائماً موفور الكرامة عاليها. ولقد بارح إحسان عبّاس لبنان، الذي مكث فيه طَوَال ربع قرن، ابتداءً من عام 1961، وذلك إلى الأردن حيث استقرّ – وهل من استقرار حقيقيّ لمَنْ ضيّع وطنه وتناوشته الهواجس والهموم الثقافيّة؟ – صار وضعه في لبنان الخراب والقذائف قلقاً منهكاً. وأَمضى مرحلة، بعيداً عن بيته في الصنايع، نزيلاً في الجامعة الأمريكيّة حيث درّس واحتلّ أَعلى المناصب، وذلك ليتمكّن من أن يعمل. ولقد حكى لي، ذات مرّة، قبل مبارحته لبنان، أنّه شاهد حول الجامعة الأمريكيّة رجلاً طاعناً يتعرّض للإهانة، وذلك لأنّه من الذين يلفظون كلمة «البندوره» بنونٍ ساكنة، أي إنّه من أَبناء الكرمل وبحر غزّة! ثم عقّب على الحكاية قائلاً لي: أَخشى أن أَجد نفسي في موقفٍ مُهين كهذا. وعندما غادر لبنان سألني: ما رأيك يا أَحمد، في ما اخترت وانتويت؟ فأَجبته: في الظروف التي نحياها خِيارك هو عين الحكمة والصواب، ولا لوم عليك البتّة ولا تثريب. ولكنّ الأَيّام خيّبته وخيّبت موافقتي على ما انتواه. فبيروت جنّة المثقّفين العرب وكعبتهم، وما من أديبٍ عربيّ عرفها وعاش أَجواءها وخَالَط كتّابها وتنفّس أَنسامها إلّا وتركت في خاطره شوقاً لاغباً بالعودة إليها! هي لا نظير لها بين العواصم العربيّة، لأنّ أُوكسجين الحرّيّة يملأ مسامّها. وإحسان عبّاس بعد أن حلّ فيها آتياً إليها من السودان، حيث عاش رَدَحاً من الزمن وكاد «يتسودن»، لأنّ الجنسيّة عُرضَتْ عليه هناك. إحسان عبّاس عرف متعة العيش في لبنان إبّان ربع قرن من حياته، ثم مضى إلى الأردن، فوقع على جوٍّ ثقافيّ وحياتيّ يخالف ما عهده في بيروت الممتلئة بالفنّ والأدب والمسرح والمحافل الاجتماعيّة الزاهية؛ زِدْ أنّه تعاطى التعليم في أَرقى جامعة. لقد أَبلغني أَحد النقّاد المرموقين أنّ إحسان عبّاس توفّاه الله روحيّاً هناك، قبل زمنٍ طويل من دنوّ أَجله في عام 2003!
من مقال نشرته مجلة ( العربي )

اقرأ ايضا

إحسان عباس وأدب السيرة

حسين محمد بافقيهحينما أصدر احسان عباس كتابه «فن السيرة» عام 1956م كان أول ناقد عربي …