منال أل مهيد
لا شيء يمكن أن يقف في طريقك إن أردت فعل أمر ما بمعونةٍ ممن وهبك هذه الإرادة. لا يمكن أن يقف معك ويساندك مثل إخلاصك وشعورك الحقيقي بفضيلة التعلم والتعليم والتواضع للعلم وأهله، إن يكن وقتك وصحتك ومالك وكل ما يمكن أن تعده غاليًا رخيصًا في مقابل العلم فسيقبلك العلم في خاصته، بعد أن تصرف النظر عن المنصب في مقابل أن تسهر الليل وتغدو خماصًا في سبيل مسألة تسعى لأجل أن تمسك بزمامها.
إحسان عباس مدرسة في تكوينه المنهجي، وتواضعه، ورغبته للمزيد من التعلم، قرأت سيرته (غربة الراعي) فوجدتها قد كتبت بصدق يفوق الأسلوب الأدبي الذي كتبت به، ففصولها تطلب منك أن تتغلب على كل ما يمكن أن يصرف انتباهك وأنت في طريقك نحو العلم والمعرفة حتى لا تضل الوجهة، مهما تكن الصعاب سواءً: الغربة، أو الفقر، أو تقادم العمر، أو تنكر الأصحاب.. وهو الأمر الذي يمكن أن يكون سمة غالبة على أدب السيرة الذاتية ودافعًا لكتابتها ونشرها.
وقد تعلم د. إحسان عباس من مجلة (الرسالة) وسماها (المعلم الأكبر)، وشده عالم (السيرة الذاتية والغيرية) فقرأ سيرًا ذاتية فتحت شهيته حتى نشر كتابه (فن السيرة)، وقد أملى قبل ذلك عليه (أحمد أمين) معظم سيرته الذاتية التي نشرها في كتابٍ عنوانه (حياتي).
وتصالح مع الشعر نقدًا، وتخصص فيه، وفي مقابل ذلك قتل موهبته الشعرية عمدًا، فكان يمشي الساعات من أجل إخماد رغبة الكتابة الشعرية، ولم يتل شعره في الندوات الشعرية بعد أن وجد جمهورًا غير جاد، ثم يذكر أنه كتب في مفكرة قديمة مؤرخة في عام 1958م يتمنى فيها لو أنه استمر في نظم الشعر، لأنه يجد فيه إحساسًا جميلاً بالحياة، على الرغم من صبغة الحزن الظاهرة في شعره.
وفي ظل رغبة د. إحسان في إثبات نفسه في مجال البحث العلمي في ظلال الغربة التي يعيش وحشتها، يصبح التحقيق أُنساً له ساعة الوحدة، فلا يتهيب مقدار اختياراته حين يحقق (وفيات الأعيان) و(نفح الطيب) و(الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) وكل منها ثمانية أجزاء مع فهارسها، وكذا (معجم الأدباء) لياقوت الحموي بأجزائه السبعة مع فهارسها، وتلك الهمة الكبيرة التي رُزقها د. إحسان عباس تؤكدها الكتب التي حققها، وعزمه على تعلم اللغة الإيطالية أثناء كتابته رسالة الماجستير عن أدب صقلية فألزم نفسه على تعلم الإيطالية في ستة أشهر؛ لتذليل حاجز اللغة أمام مصادر هذا الأدب ومراجعه.
وقد كان كتاب د. يوسف بكار (حوارات إحسان عباس) رافدًا لسيرته الذاتية، وحاملًا العديد من تصريحاته النقدية الجريئة، وساعيًا في جمعه لثمانية عشر حوارًا للتعريف بالنقاد والأدباء الذين أحبهم وتأثر بهم، والمدن التي لملمت شعث غربته تارة, ولم ترحب به تارة أخرى، فأظهرت الحوارات موازنات وصوراً لتلك المدن التي درَس ودرَّس وأقام فيها ناقدًا ومحققًا ومترجمًا وأكاديميًّا.
إن العطاء الكبير، والسنوات التي يبذلها تفكيرًا أو إعدادًا لمؤلف ما، أنتجت تسعين كتابًا في 80 عامًا من الوفاء لعقد العلم والبحث العلمي. إذ لا يمكن أن يجد د. إحسان نفسه سعيدًا دون أن يجد فكرة يعمل بها عقله قبل أن تأخذ طريقها للكتابة.
وبعد سنة ونصف قضاها د. إحسان في ترجمة (موبي ديك) وهي رواية من كلاسيكيات الأدب الأمريكي، زاد من صعوبة ترجمتها قلة المصطلحات البحرية في اللغة العربية، فكان منه أن نحت بعض المصطلحات، واجتهد في ترجمة كلمة بجملة كاملة؛ لإيضاح المعنى الدقيق لها، وبعد كل هذا لم يلتفت القارئ العربي للرواية المترجمة التي تتحدث عن الحيتان، إلى أن كتب شاب في إحدى الصحف عنها وعن مترجمها ووصفه بأنه لا يعرف العربية ولا الإنجليزية! فما كان من د. إحسان إلا أن شكره لأنه الوحيد الذي كتب عن الرواية، وأنه يتمنى أن يتبين للشاب فيما بعد الجهد الذي بذله في ترجمتها. إنَّ د. إحسان الذي لم يفكر قط بالدخول في معارك النقاد الأدبية مع أولئك الذين يقتاتون شهرتهم عن طريق نقد مؤلفاته، نجده يلقي بالاً لمحاولة نقدية هي أولى لهذا الشاب، لا لينتصر لنفسه وإنما ليأخذ بيد الشاب لطريق النقد السليم.
ومن خلال كتاب (حوارات إحسان عباس) وجدت أن فكرة القراءة في كتب الحوارات مفيدة ذات ثراء، لا سيما إذا جاءت تبعًا لقراءة سيرة صاحبها الذاتية إن وجدت، فهي فضلاً عن كونها مُعينة على فهم الشخصية وظروف نتاجها، تعد صورة هامة لفهم بعض الظواهر المجتمعية والمعارك الأدبية التي زامنها، والكتب التي أسهمت في تكوينه الفكري، وأورد فيما يلي بعض الأفكار والآراء المجتزأة من حوارات الدكتور إحسان تنتظم في موضوعات أربعة:
نصائح في طريق تكوين الناقد:
- «ظلمت نفسي حين رغبت في السيطرة على علوم لا يستطيع شخص واحد السيطرة عليها، كل هذا كان طموحًا ورهنًا بالطموح، ولا أنصح غيري بسلوك هذا المسلك على الإطلا ق، فالتخصص العميق يذهب بالإنسان بعيدًا» ص193.
- «أقول لطلابي إن كل قصيدة، وكل نص نثري يحتاج إلى منهج خاص به، وهذا ما توصلت إليه أخيرًا» ص194
- «النصوص أغنى بكثير من المناهج، بل إن المنهج الجديد لا يولد إلا بسبب الجديد الشعري الذي يحض عليه» ص141.
- «لا يجوز إطلاقًا أن أكتب دراسة علمية عن المتنبي بلغة شعرية، لا يجوز استخدام الصور في الحقائق العلمية والفكرية. يجب أن أكتبها بالدقة العلمية التي تصل إلى الآخرين دقيقة تمامًا وأنا مسؤول عن كل كلمة فيها» ص25.
نصائح على ضوء تجربة د. إحسان في الترجمة: - التأكد من أنه كتاب صالح للترجمة.
- إمضاء وقت طويل في قراءته دون تدوين الترجمة، فتكون القراءة فقط لاختبار صلاحية الكتاب للترجمة.
- إذا وصل لمرحلة الاقتناع بالكتاب فإنه يبدأ بكتابة ترجمته.
- لا يوجد قواعد عامة للترجمة فلكل كتاب شخصيته المستقلة وأسلوب الترجمة الملائم له.
- لم يترجم إطلاقًا أشياء دعائية أو إعلامية ولم يتدخل أحد في اختياراته.
- تلعب الانتقائية دورًا كبيرًا في الترجمة. ص 209
كان دافع الترجمة النقدية لدى د. إحسان بعث شيء من الحيوية للنقد في العالم العربي الحديث، محاولة للتجاوز بالنقد من المرحلة التي وصل إليها على يدي عبدالقاهر الجرجاني وغيره من النقاد على مر الزمن، وقد كان د. إحسان يوافق عبد الله غيث الذي ذهب إلى أن إحسان إنما ألف كتابا كلفه من العمل خمسة عشر عامًا (تاريخ النقد الأدبي عند العرب) ليثبت أن العرب لم يكن لديهم ما يسمى بالنقد!.
آراء نقدية هامة للدكتور إحسان في نتاجه ونتاج غيره الأدبي والنقدي: - يمثل الكتيب (اتجاهات الشعر العربي المعاصر) نقطة تحول في حياة د. إحسان النقدية، على الرغم من أنه لم يُكتب بروح أكاديمية، وإنما كان عبارة عن تجليات تفاعل معها. ص24
- «دراستي لقصية (القوس العذراء) من أنفس ما كتبت في النقد الحديث لأني ضمنتها خلاصة آرائي في هذا النقد وخلاصة تجربتي» ص153.
- «محمود شاكر، في نظري، أكبر محقق في العالم العربي والإسلامي، وهو أعجوبة الأعاجيب في هذا الفن، بحيث لا يجاريه أحد في الدنيا، لثقافته اللغوية المتبحرة، وإحاطته الواسعة بالتراث، وخبرته العميقة بدقائقه» ص152
- «لا يجوز لغادة السمان أن تنشر رسائل غسان كنفاني بعد وفاته، لأنه كان يخطط لعدم نشر هذه القصة على رؤوس الأشهاد، واختلف مع الذين وصفوها بالجرأة، لمجرد أنها نشرت رسائل لشخص يحبها، وهي على ذمة زوج، فهي ليست جريئة، فالجرأة الحقيقية أن تنشرها والرجل حي، حتى يقول كلمته بأنها إما صدقت وإما كذبت» ص82.
عن موقع ( الجزيرة )