رحيم الحلي
في أزقة الفضل البغدادية الضيقة، حيث البيوت الطينية المتعانقة والوجوه الموشومة بصدق البيئة الشعبية، وُلدت موهبة موسيقية ستترك بصمتها على ذاكرة العراق الفنية. من هناك خرج خزعل فاضل، الطفل الذي بدأ حياته في صالون حلاقة صغير بمحلة الحيدرخانة، قبل أن يصبح واحداً من أبرز العازفين والملحنين في تاريخ الأغنية العراقية.
كان القدر يرسم ملامحه منذ السابعة من عمره، حين جلس يراقب بشغف دروس العود التي كان يتلقاها صاحب الصالون على يد معلم يهودي. لم يتعلم الحلاق شيئاً، لكن الطفل التقط الألحان بسرعة مذهلة. وحين جرب أن يعزف أمام المعلم، أذهله بما أتقن من تمارين ودروس لم تُعطَ له أصلاً. عندها تنبأ له المعلم بمستقبل موسيقي باهر.
بدأ حياته المهنية حلاقاً في الميدان، لكن الموسيقى كانت النداء الأقوى. كان يقبض على قوس التشيللو كما يمسك موس الحلاقة، فيحول الآلة الضخمة إلى كائن حي يعانق جسده النحيل. لم يكن مجرد عازف ، كان مبدعاً في صياغة لحن يخرج من صميم الأزقة البغدادية. وعندما التحق بالإذاعة عام 1948 بعد أن تلقى دروساً على يد العازف يوسف ربيع، أصبح أحد أعمدتها.
أسس مع نخبة من كبار الفنانين الفرقة الموسيقية للإذاعة والتلفزيون، إلى جانب سالم حسين، خضير الشبلي، حسين عبد الله، عباس جميل وخضر إلياس. ومن هناك انطلقت ألحانه لتغنيها حناجر عمالقة الزمن الجميل.
مائدة نزهت: تجونه لو نجيكم
هيفاء حسين: هيانة، رسالة للولف
ناظم الغزالي: يا مرحباً بالزارنا
لميعة توفيق: انطر طلوعك يا كمر، مساء الخير يا أهل المحلة، هل هلالك رمضان، من خمرة هواكم ما صحينه
أحلام وهبي: هلهلي بله يا سمرة
جميل قشطة: يا كريم الشعب، الما ينوش العنب بيده
كما ترك في الذاكرة أناشيد شعبية شاعت في الأعراس مثل: حنة حنة بيدها حنة، عروسة والحبايب زافيها، وولفي تركني وما أجه. ومن أجمل ما لحن أيضاً أغنية التمر التي أدتها مجموعة من الأصوات وبقيت علامة في ذاكرة المستمعين.
كان مشهد خزعل فاضل وهو يسير من بيته في محلة الإمام السيد عبيد الله إلى دار الإذاعة في الصالحية مألوفاً ، رجل أنيق ببدلة تفوح عطراً، يحمل تشيللو يكاد يعانق جسده. هذه الأناقة جعلت أهل المحلة يتباهون بابنهم الفنان، حتى التبست سيرته على الناس مع ابن المحلة الآخر الفنان خزعل مهدي. لكن الحقيقة تبقى واضحة ، خزعل فاضل هو موسيقي التشيللو الأنيق، وملحن الأغاني التي التصقت بالوجدان العراقي.
ورغم مكانته، ظل خزعل فاضل متواضعاً، كثيراً ما اعترف بأنه يفكر أحياناً في ترك الفن والعودة إلى الحلاقة، لكنه لم يستطع الفكاك من سحر الموسيقى. كان يرى في محمد القبانجي “أستاذ الكل”، ويعتبر منير بشير أحسن عازف عود، ويحيى حمدي أفضل ملحن. أما هو، فقد اختار له الناس مكانة خاصة ، رمزاً لجيل عشق الجمال وسط بساطة الحياة.
إنه صورة لبغداد كما تحب أن تُرى ، مدينة تجمع بين ضيق الأزقة ورحابة الفن، بين بساطة البيوت ورهافة الألحان، بين عبق الماضي وخلود الموسيقى.
مركز الوتر السابع
اقرأ ايضا
نص نادر..من آثار العراق ..الجسر العباسي في زاخو
للأستاذ ميخائيل عواد١ – تصديرإذا جولنا في أنحاء العراق شاهدنا عدداً لا يستهان به من …