صفحات من التاريخ السياسي..مظاهرة شباط 1928

د. كاظم الموسوي
سجل التاريخ الحديث للشعب العراقي صفحات مشرفة في الكفاح الوطني والقومي. من بينها ما ثبت موقفا واضحا من المخططات والمشاريع الصهيو امبريالية في المنطقة العربية، وأعلن تضامنا واسعا مع نضال الشعب الفلسطيني الشقيق ضد تلك السياسات التي استهدفت وجوده ووطنه ومستقبله. وهذه المظاهرة شاهد عيان واثبات له. وهي مؤشر للوعي الوطني والقومي وتفتح الفكر التقدمي لدى النخب السياسية والثقافية في العراق في تلك الفترة الزمنية، في نهاية الربع الاول من القرن الماضي. هذه المظاهرة بداية مشوار الدعم وإشارة التفهم والإسناد لقضايا الشعوب العربية والفلسطيني خصوصا. بينت دور النخب اليسارية في تحريك الشارع وإعلان موقف التضامن والإسناد والمشاركة في الهموم والقضايا الوطنية والقومية. وهي بتفاصيلها صفحة من صفحات التاريخ السياسي للحركة الوطنية التقدمية في العراق.
اندلعت المظاهرة احتجاجا على زيارة السير الفرد موند، الصهيوني المؤيد للحركة الصهيونية، الذي كان يزور فلسطين حينها وقرر زيارة العراق «لدراسة احواله الزراعية» كما اعلن يومها. وفق ما كتب المؤرخ الاستاذ حنا بطاطو (1926- 24 حزيران/ يونيو 2000): «وكان السير الفرد موند هو السبب المباشر للمظاهرة. وكان موند مؤيدا بحماسة للحركة الصهيونية»، وأضاف: «وعشية وصوله عقد نادي التضامن اجتماعا مستعجلا توالى خلاله كل من حسين الرحال ويوسف زينل على اقناع زملائهم بان النية الحقيقية لموند هي اقامة مستوطنة صهيونية في العراق. واقترح الاثنان تنظيم مظاهرة، وتمت الموافقة على الاقتراح فورا. وعندما بدأ الطلاب في اليوم التالي مسيرتهم عبر المدينة لحق بهم جمع كبير من الناس، وما كاد المتظاهرون يصلون ال محطة السكك الحديدية حتى تضخم عددهم ليفوق العشرين الفا. وكانت تنتظرهم هناك قوة من رجال الشرطة بادرت الى تهديدهم وإصدار الاوامر لهم بالتفرق.. وبدأ العراك عندما رفض المتظاهرون التزحزح من مكانهم».
نادي التضامن هو المحرك للمظاهرة، وهو الذي نظمها ورفع شعاراتها. تأسس عام 1926 ببغداد، نشط فيه شباب يساريون، من ابرزهم حسين الرحال، يوسف زينل ، محمود احمد السيد، زكي خيري، حسين جميل، عبدالله جدوع، محمد سليم فتاح، عاصم فليح، مهدي هاشم، مصطفى علي، عوني بكر صدقي، عبدالفتاح ابراهيم، عزيز شريف، عبد القادر اسماعيل، ابراهيم القزاز، وآخرون بالتأكيد.
بينما كتب مؤرخ الوزارات العراقية الاستاذ عبد الرزاق الحسني (1903 – 24 كانون الاول/ ديسمبر 1997) عن الموضوع تحت عنوان: قضية الفرد موند، ما يلي: (في 8 شباط عام 1928م كان موعد زيارة السر الفرد موند للعراق وهو زعيم صهيوني بريطاني معروف بنشاطه الواسع في توسيع الحركة الصهيونية العالمية ومن كبار رجال المال والاقتصاد الانكليز وكان الغرض من زيارته دراسة مشروع مد خط لأنابيب النفط العراقي من كركوك إلى ميناء حيفا المطل على البحر الأبيض المتوسط. فأنتهز البغداديون الفرصة وقرروا القيام بمظاهرات صاخبة تندد بهذا الرجل الصهيوني واستنكار السياسة البريطانية المتبعة في فلسطين فتجمهر طلبة المدارس والناس في عصر ذلك اليوم ورفعوا ألواحا وأعلام كتب عليها (لتسقط الصهيونية) و(ليسقط وعد بلفور) و(تحيا الأمة العربية) حتى تجاوز عدد المتظاهرين عشرين ألف نسمة وتوجهت هذه الجموع البشرية صوب محطة الكرخ ودارت معركة شرسة بين المتظاهرين ورجال الشرطة وجرح الكثير من الطرفين وتسلل الكثير من المتظاهرين ولهم نيتهم في اعتراض موكب هذا الزائر الصهيوني وانتبهت السلطات لخطورة الموقف فذهب مدير الشرطة (حسام الدين جمعة) مع قوات مسلحة إلى نقطة (أبو منيصير) على طريق الفلوجة لتأمين حياة هذا الناشط الصهيوني وقاموا بتغيير طريق وصوله إلى بغداد عن طريق الكاظمية ــ الاعظمية ووصل دار المعتمد السامي البريطاني في الساعة السابعة والنصف مساءا. وأما أصحابه فقد استضافهم أحد أثرياء اليهود وتولت الشرطة حمايتهم تزامنا مع اعتقال العشرات من المتظاهرين وغلقت نادي التضامن الأدبي بحجة أنه كان السبب في تنظيم التظاهرات وصادرت أوراقه واعتقلت أعضاءه ونفت رئيس النادي ( يوسف زينل) إلى خارج بغداد على أساس أنه كان وراء التظاهرات وصدرت الأوامر بمنع التجمهر في الطرق والساحات دون اذن منها وتم طرد عدد غير قليل من الطلبة بحجة اشتراكهم في المظاهرة بعد أن اقتحمت الشرطة القسم الداخلي من دار المعلمين لإخراج الطلاب المطرودين وتسفيرهم إلى ذويهم بعد مقاومة عنيفة من قبل زملائهم وبعدها ذهب وزير المعارف توفيق السويدي إلى مدرسة دار المعلمين وكلف الهيأة التعليمية بوجوب إخبار وإعلام الطلبة بأمر الحكومة وهو أن يعلن للطلاب أنه سيطلق الرصاص على المتظاهرين إذا تظاهروا ونشر ذلك في جريدة العراق العدد 2373 بتاريخ 10 شباط عام 1928م. وعلى أثر هذه المظاهرات العنيفة أحتج المندوب السامي البريطاني لدى الملك فيصل الأول ( إن خبر المظاهرات ضد الصهيونية يترك أثرا سيئا في أوربا ويخل بسمعة العراق وإن من الأهمية بمكان اتخاذ التدابير السريعة التي ترضي العالم المتمدن بأن مثل هذه الإحداث لن تتكرر) والنسخة الأصلية من هذه الوثيقة موجودة في المركز الوطني العراقي لحفظ الوثائق: الأضبارة ــ د 6 / 3 لسنة 1927م إلى سنة 1929م الورقة رقم 21.
وأكد الكاتب ( حاييم ي. كوهين) في ص150 من كتابه ( النشاط الصهيوني في العراق) ما يلي: (إن مجيء الفريد موند إلى العراق في شباط عام 1928م تسبب في حصول أول مظاهرة معادية للصهيونية. غير أنها لم تكن معادية لليهود حتى أن مظاهرات آب عام 1929م التي أعقبت اضطرابات عام 1929م في فلسطين لم تكن في الأساس موجهة ضد اليهود)(2).
أضاف كانت مظاهرة العام الماضي، شباط 1927 أي مظاهرة «الحرية الفكرية» مظاهرة سريعة خاطفة، وأول الرقص حنجلة كما يقال، اما مظاهرة فلسطين هذه الاولى في تاريخ العراق فيجب ان تكون مهيأة ومنظمة وذات شعارات مكتوبة على لافتات من نسيج القطن «الخام الابيض الناصع» ويجب ان تكون مشتركة، أي ان يشارك فيها طلاب الثانوية المركزية وطلاب دار المعلمين الابتدائية في الكرخ. (..) وبدأنا العمل علانية بين طلاب الثانوية وقد امسك حسين جميل بقائمة طويلة وبالقلم لتسجيل التبرعات والمتبرعين لشراء ما يلزم لصنع اللافتات ودفع اجور الخطاط وقمت انا بدور الدعاية والتحريك. اليس من العار علينا ان ندعه يمر في حين اهل الشام حصروه في الاوتيل ثلاث ايام متوالية!. انها مناسبة للاحتجاج على وعد بلفور!. الكل اصغوا باهتمام وناقشونا واستجابوا وتبرعوا بالبيزات والانات الهندية باستثناء يهودي واحد من بين عدد من اليهود بقي يجادل ويبدي عدم قناعته حتى الاخير فتركناه وشانه.
وأكمل: سارت المظاهرة.. ووصلت الساحة مقابل مركز شرطة السراي لتأخذ اللافتات من جلال الخياط وكان قد نشرها امام اعين الشرطة. وكانت الشرطة عديمة التجربة في هذا الفن الذي يسمونه مظاهرة منظمة ذات شعارات مخطوطة ومحمولة. هذا الفن الذي عممه الحزب الشيوعي العراقي فيما بعد حتى غدا تقليدا من التقاليد الوطنية. واخترقت المظاهرة سوق السراي وعبرت جسر الشهداء. وفي جانب الكرخ التحمت بمظاهرة دار المعلمين فتضاعف عددها فورا. وواصلت السير في علاوي الحلة حتى الساحة التي يقوم عليها الان المتحف الوطني. وكانت هناك عربات حمل مكشوفة لسكك الحديد. وتوقفت المظاهرة ليلقي الخطباء كلماتهم النارية. وانطلقت المظاهرة بعد ذلك على جسر الاحرار وعبرته ثم مالت في شارع الرشيد الى نهايته الجنوبية على النهر حيث كان مبعوثو امريكا وفرنسا والقائد العام للقوة الجوية البريطانية. والقى الخطباء خطبهم ايضا على كومة من الطين ثم سلمت احتجاجات المتظاهرين على وعد بلفور الى ممثلي الدول الاجنبية. وعادت المظاهرة ادراجها على طول شارع الرشيد الى جسر الشهداء لتعبره مرة اخرى الى الكرخ، مواصلة سيرها باتجاه جسر الخر لتقطع طريق المرور على السيارة القادمة من دمشق والتي تقل الزائر الصهيوني غير المرغوب فيه من الاهالي. وفي اخر النهار لم تعد المظاهرة طلابية فقد بلغ عدد المتظاهرين العشرين الفا من مختلف الفئات الاجتماعية. ومنعت المرور واضطرت السلطات الى تهريب ضيفها الى الكاظمية على طريق ابو غريب الوعر غير المعبد. ودامت المظاهرة حتى الليل.»
وكان المارة في شارع الرشيد يتساءلون عن الغاية من هذه المظاهرة ومعناها فقيل لهم- وكان عدد كبير من الطلاب المتظاهرين من اليهود- اننا ننادي بسقوط «البسوانية»» وهي الرسوم التي كانت تستوفيها البلدية لقاء خفارة الدور والمحلات التجارية ليلاً يقوم بها الخفير الذي يسميه العراقيون بالبسوان، وسرعان ما انضم الاهالي الى الطلاب وتغلبت كلمة البسوانية على الصهيونية واختلط الحابل بالنابل وتفرقت المظاهرة عند وصولها الكرخ بعد اشتباك بسيط بين بعض المتظاهرين الطلاب وبين الشرطة أدت الى طرد عدد قليل منهم من مدارسهم والحكم عليهم بالسجن لمدة قصيرة. ووصل السر الفريد موند بغداد عن طريق الكاظمية حسب توجيهات الشرطة عوضاً عن طريق الكرخ- الصالحية. وفي صباح اليوم الثاني زار السر بصحبة عدد من وجهاء الطائفة مدرسة الاليانس وإدارة الطائفة الاسرائيلية ثم اخترق سوق الشورجة لدى عودته بهدوء وسلام مشياً على الاقدام دون أن ينتبه اليه أحد ودون ان يعرفوا ان مظاهرة الامس كانت موجهة ضد قدوم هذا الشخص بالذات».

اقرأ ايضا

مدينة الناصرية .. قصة تأسيسها الأول..كيف جرى الاتفاق بين مدحت باشا وناصر باشا السعدون ؟

حسن علي خلفإذا كانت العوامل الأفقية لبناء المدينة .. أي مدينة .. تعطي أشارات بيّنة …