طفولتي في (ديلتاوة) وأحداث الثورة العراقية فيها
ولدت في الربع الأول من القرن الرابع عشر للهجرة بدار في محلة (عكد القشل) ببغداد في الجانب الشرقي منها بجوار الجامع المعروف حتى اليوم بجامع المصلوب، وكان والدي جواد بن مصطفى بن ابراهيم خياطاً في سوق الخياطين المجاور لخان مرجان المعروف عند الأتراك وأهل بغداد بخان “ارتمه” وقد اتخذ متحفه للآثار العربية اليوم.
وقد أصاب العمى والدي بسبب من الأسباب التي تؤدي الى هذه العاهة، فحسن له بعض أصدقائه أن يقتني أملاكاً في ناحية دلتاوة المعروفة اليوم بالخالص ويتعيش بها. ومع هذا فقد تملك قبل ذلك ببغداد دكانه الذي يحترف فيه بسوق الخياطين وداره التي يسكن فيها وداراً في محلة الطاطران، لأن اول سكناه وسكنى والده كانت هناك، وبستاناً صغيراً في الكرادة الشرقية ومشغلاً في محلة القاطرخانه باعه قبل ان ينتقل الى دلتاوه.
ونقلني والدي معه الى دلتاوة، ولما بلغت سن الدرس في الكتاتيب وكانت مختلطة للأطفال يجتمع فيها الأبناء والبنات، فأسلمني الى معلمة للقرآن الكريم تعرف بالملّة صفيّة، وعندها بدأت ألقن القرآن العزيز بعد دراستي حروف الهجاء على الأسلوب القديم المعروف، ثم نقلني والدي الى مدرسة دلتاوة الابتدائية كانت تسمى أيامئذٍ باسم “المكتب”، وأتذكر من معلميها “صبري أفندي” رحمه الله تعالى، وكان كما يظهر من أحواله عارياً من العلم، وعبد المجيد الأعظمي، وعليه تدربت في خط الرقعة الذي هو خطي المعتاد، واجتزت الصف الثاني الإبتدائي بحسب نظام التعليم العثماني وانتقلت الى الصف الثالث الإبتدائي. وفي شتاء تلك السنة دخل الجيش الإنكليزي دلتاوة، أي سنة 1917 متعقباً الجيش العثماني المنهزم نحو الشمال، وقد مرّ الجيش المذكور بالمدرسة لوقوعها على الطريق العام من المدينة، بل الناحية، وكان ذلك اليوم آخر أيام دراستي في العصر العثماني.
توفي والدي قبل ذلك بقليل، فلم يتهيأ لي الاستمرار على الدراسة، وانصرفت الى رعاية البساتين التي خلّفها لنا والدي لي ولأخي الأكبر “كاظم” وأخواتي الست من زوجتين اثنتين، كانت والدتي الأخيرة. وبعد عقد الهدنة بين الأتراك العثمانيين والإنكليز استتبت الأمور في العراق وفتحت مدارس ومعاهد منها مدرسة دلتاوة الإبتدائية، إلا أني كنت مقبلاً على شأني وحدث نزاع بين والدتي وأخي الكبير من أجل الوصية الإبتدائية والإشراف على أموري لكوني قاصراً يومئذ، فنقلني أخي الى بغداد وتصرف بحصصي من واردات البساتين بحجة أنه هو الوصي الشرعي علي، وأدخلني المدرسة الجعفرية الأهلية قرب سوق الغزل، وأذكر من مدرسيها مديرها الشيخ “شكر” ومحمد حسن كبة، والاستاذ الخياط. –مد الله في عمره الطويل-. ثم قصّر أخي في تسديد أجرة المدرسة ضناً منه بالنفقة، فانتقلت الى مدرسة باب الشيخ الإبتدائية في أول محلة الصدرية وكان مديرها أيامئذ السيد هاشم الآلوسي، وأذكر من مدرسيها أو معلميها السيد جميل الراوي أخ السيد نجيب الراوي، ثم تركت هذه المدرسة والتحقت بوالدتي بعد استصدارها حكماً بالوصاية عليّ. وقد قاسيت من الفقر وشظف العيش والعوز ما يطول ذكره ويؤلم بيانه، حتى حلت سنة 1920 الميلادية وفيها ضاقت عليّ سبل العيش في بغداد فرأيت أن انتقل الى دلتاوة وانتفع بحصصي في البساتين الموروثة وإن كان الغالب على غلّاتها التمر، وهو أرخص الفواكه في العراق، وكانت الثورة العراقية قد شبّت في عدة من أنحاء العراق ولاسيما الفرات الأوسط ولواء ديالى، واستولى الثوار على بعقوبة ونواحيها ومنها دلتاوة، وكان الطريق بين بغداد وبعقوبة فدلتاوة تحت رقابة الإنكليز وقد سخّروا النساطرة التيارين المعروفين اليوم بالآثوريين والأرمن اللاجئين للحفاظ على الطريق وقطعه على الثوار ومحاربتهم، فلم أجد إلا طريق الجديدة الشرقي، فسلكته مع قافلة من الماكرين سائراً على قدمي فبلغت قرية “كشكين” المجاورة لدلتاوة مساءً وأطلني الليل فيها وحرت في أمري لأن القافلة سلكت طريقاً آخر، فأضافني رجل من ذوي القربى النسبية وخرجت من عنده صباحاً فوصلت الى دلتاوة ووجدت الثوار قد بنوا على طريقها المؤدي الى بعقوبة باباً دفاعياً تحصينياً وبقيت أنا في دلتاوة وعنيت بشؤون البساتين، وكان الحكم فيها للثوار وهم في هرج ومرج.
وكان الإنكليز قد جمعوا جلاميزهم وأعوانهم وأعادوا الكرّة على بعقوبة فاسترجعوها ولبثوا ينتهزون الفرصة للانقضاض على دلتاوة، وأخذوا يرسلون عليها وعلى الثوار طيارات ثلاث مرات تلقي عليهم القنابل وترهب وتخيف تمهيداً للهجوم عليها، وفي اليوم العاشر من المحرم سنة 1339 الهجرية الموافق لليوم الخامس والعشرين من أيلول سنة 1920 وكانت الأكثرية من أهل دلتاوة مشغولين بالاحتفال الحسيني وذلك يوم عاشوراء، كما بان من قولي السابق، أرسل الإنكليز عليهم ثلاث طيارات رمتهم بالقنابل تمهيداً للهجوم، وقد ظنوا أن الأمر قصف بغير هجوم كما جرى من قبل، ثم أرسلوا جواسيس الى دلتاوة نفسها يخدعون الثوار بأنهم اسقطوا طيارة انكليزية في مقاومتهم لها عند هجومها ووضعوا جماعة بأيديهم آلات من الخشب تدار فتحدث أصواتاً كأصوات رشاشات الرصاص من الأسلحة النارية الحديثة، فلما برز الثوار الى موضع الأصوات كان الجيش الإنكليزي المؤلّف من هنود السيخ وقليل من الإنكليز قد كمن في طريقهم وراء ضفاف الأنهار، فلما أصحروا أمطروهم حاصباً من رصاص البنادق والرشاشات وقنابل الشارينيل التي تنفجر قبل وقوعها فقتلوا منهم وجرحوا وتفرق الباقون شذر ومذر، وكان من بين الهاربين محمد الصدر –رح- فإنه فر لا يلوي على شيء، ودخل الجيش الإنكليزي دلتاوة وكان معه ناس من العرب أو المستعمرين من أهل بعقوبة يدلّونهم على دور أعيان الثوار، ففعلوا بدلتاوة الأفاعيل من تقتيل للرجال وتشريد للعيال وتعذيب وتخريب ونهب وسلب وقطع للنخيل والأشجار وإحراق للديار.
وكنت فيمن خرج لرؤية الطيارة المسقطة فلم ألق إلا شآبيب الرصاص، فنكصت مع صبية آخرين كانوا يحبّون الأطفال وهربت معهم وقضينا تلك الليلة في البساتين، وكانت ليلة ماطرة ذات رعد ورياح شديدة، ودخلنا دلتاوة في اليوم الثاني عصراً بعد أن سمعنا الهدوء فيها وكنا صغاراً لا نعد من حملة السلاح ولا القادرين على الكفاح، فألفينا دلتاوة خاوية عاوية قد قتل رجالها ونهبت أموالها وساءت جداً أحوالها، وعادت بعد ذلك حياة الناس الى الاطراد شيئاً فشيئاً وأصدر الإنكليز أوامرهم بفتح المدارس، وأكثروا من تعيين الجواسيس وأتباعهم فيها احتياطاً، وللاطلاع على العناصر الثورية ومفاجأتها قبل العمل، وأقبلت أنا على اشتغالي ببساتينها، عازماً على أن ابقى مستمراً على معيشة الغراسة والفلاحة، ورآني ذات يوم شاب هو ابن مدير المدرسة –رحمه الله- فقال لي: سمعت أنك من طلاب المدرسة وأرى لك أن تلتحق بالمدرسة فذلك خير من حياتك هذه في المستقبل، وما أدري ولم ادر أكان مصيباً في قوله أم مخطئاً؟ ولكن حب الظهور والعيش المعتدل المتوسط بعثاني على قبول نصيحته فدخلت المدرسة وكنت مضيقاً دائماً لأن غلبة البساتين من التمر لم تكن تكفي في الإنفاق. ومرت عليّ أيام لم أستطع فيها أن اشتري حذاءً بدلاً من حذائي العتيق البالي المهترئ، وبلغت الصف الرابع في المدرسة وانتقلت الى الصف الخامس، فبلغني أن ببغداد “دار المعلمين الابتدائية” وتقبل الطلاب بالامتحان، فسافرت الى بغداد وشاركت في الامتحان، وكان في الأسئلة سؤال هندسي ونحن لم ندرس الهندسة، وكانت غاية السؤال معرفة الفرق بين مساحة مثلث ومساحة مربع وبيان الأكبر منهما، فذكرت أن المثلث أكبر مساحة من المربع وأن المربع أكبر مساحة من المثلث فقط، ولم أتعلم استخراج المساحة، كما ذكرت آنفاً، فالظاهر أني أصبت الهدف وكنت حسن الإجابة في الدروس الأخرى فظهر اسمي بين المقبولين في دار المعلمين الابتدائية المذكورة، وصرت في عداد طلاب الصف الأول، وأذكر من معلميها الأستاذ السيد طه الراوي –رح- والأستاذ سعيد فهيم والأستاذ أميل ضومط اللبناني، ومديرها مصري اسمه “سيد محمد خليل” وكان رجلاً ذكياً ألمعياً طويلاً، أبيض بخلاف أكثر المصريين.
وأذكر من طلاب الصف الأستاذ عبد الستار القره غولي –رح- ومحمد علي قتيل واقعة بكر صدقي أو حادثة بعد ذلك. وبقيت في دار المعلمين الابتدائية وقويت عندي الرغبة في دراسة العربية وكنت أميل إليها منذ دراستي الأولى، وفي الصف الثاني من دار المعلمين كان الأستاذ أحمد الراوي يدرسنا العربية والإنشاء فكنت أنظم له الإنشاء أحياناً فيقدر لي أحسن درجة ويصلح لي كلمات من القصيدة الإنشائية، وفي هذه السنة جاء الى معارف العراق ساطع الحصري السوري –رح- أو قبلها مع الملك فيصل بن الحسين، فاختلف معه مدير دار المعلمين المصري المذكور آنفاً، أعني “سيد محمد خليل” وترك معارف العراق فاستقدم لإدارة دار المعلمين الابتدائية “يوسف عز الدين الناصري التكريتي” –رح- وكان رجلاً طويلاً يساوق الأحوال ويحسن سياسة الطلاب وبقي في إدارة تلك سنين، وقد رأى فيّ ميلاً قوياً الى العربية فكان يكلفني في الصف الثالث وأنا طالب بالبداهة أن اقوم مقام أخيه محيي الدين في مدرسة التطبيقات الابتدائية لتدريس عدة ساعات حين يكون أخوه في مهمة تستدعي غيابه عن الدرس.
عن كتاب ( شعراء العراق في القرن العشرين ) للدكتور يوسف عزالدين
اقرأ ايضا
عندما أنشأ مدحت باشا ترامواي بغداد ــ الكاظمية
د . سوسن الزبيديعرف بعض الولاة العثمانيين باهتمامهم بانشاء الطرق ، وتعمير اخرى وتأمين سلامتها …