نعيم عبد مهلهل
سورية حسين …صوت غنائي ريفي دهشته تعطر الذاكرة بأطنان دمع أكثر ألف مرة من أطنان الزيت المنتهي صلاحيته الذي أرادوا أن يطعموا فيه الشعب المسكين والقابع منذ سنتين على رصيف ميناء أم قصر .!
اشتركت مع المطربة العربية الخالدة فائزة أحمد في إنشاد واحدة من أجمل أغاني الوجع العراقي ( مايكفي دمع العين ) التي كتبها سيف الدين ولائي ولحنها الفنان رضا علي غير أن فائزة احمد انشدها بأداء مختلف وبحنجرة مصرية ولكن أداءها كان حرفيا ورائعا لأن إحساس الكلمة الروحي لايتلائم تماما وذائقة حنجرة فائزة فأدتها كأغنية ناجحة اللحن والأداء …
سورية حسين غنتها بأداء ساحر وأنشدت في بدايتها موالا يسرق من الألباب كل حزن اليوم القاري في البلاد المنتشية من غرام ذكرياتها …
في نهاية تسعينات القرن الماضي كان الحصار قد أوغل في الجسد العراقي برماح القسوة الامبريالية و عنجهية المهيب وصار الرغيف مُدافا حتى ببرادة الحديد والذرة اليابسة ونسبة عالية من النخالة والشعير .وضرب الجوع في بطون الصبر حد الأحشاء العميقة ومنهم من كانوا روادا في الفن والرياضة والثقافة .
في هذا العام 1999انتبه الشاعر الغنائي المرحوم كاظم الركابي صاحب الأغنية الأثرية ( يانجمة ) الحان كوكب حمزة وغناء حسين نعمة .إلى هذه المطربة التي لفها النسيان ولم يعد احد يتذكر صاحبة الصوت الشجي حد الرقبة المذبوحة من هيام قبلات عشيقها وراح يفتش عنها ليعمل معها لقاءا لصحيفة الناصرية .ووجدها تعيش في حي فقير في أطراف بغداد وقد ناهز عمرها الثمانين عام ..
وكان ريبورتاجا رائعا مع فنانة هرمة وتتذكر كل شيء .وكان غناءها لم يزل عذبا كما دجلة والفرات قبل أن يصيرا مقبرة للجثث المغدورة والشحة التي أوجدتها السياسة وحرب المياه والضغوط التي يصنعها عبد الله أوجلان فتدفع أهوار العراق وسومر ثمنها ..!
انتبه العالم أن هذه الملكة التي لم تزل تعيش وأنها تشكوا الفاقة والجوع وليس في غرفتها سوى البساط المفروش ومرآة تراجع عليها زينتها وماكياجها وتعلق فوقها باروكة شعرها السوداء التي ارتدتها في أول أغنية تلفزيونية مصورة لها في خمسينيات القرن الماضي …!
كان هذا الريبورتاج اقل وفاء يمكن أن يقدم لهذه ( الدوقة ) الرائعة .ولكن احد لم يلتفت إليها فالجميع في سباق مع العيش الأكثرية الساحقة تعلق على بطونها بطاقة التموين والقلة القليلة تنعم بالحرير والمطاحن والأسواق والمقاولات والمزارع .فسحقت ماكينة النسيان سورية حسين حتى بعد ظهور هذا الريبورتاج.
غنى داخل حسين حفيد أور نمو ..ونرام سين وحضارة لكش أغنيته الرائعة ( يا ما خذات الولف ..ولفي وأريد وياه ) ولأنه أحس بأن الأغنية تحتاج إلى مساحة صوتية أكثر عذوبة في صوت الأنثى فأعطاها لسورية حسين .فغنتها بمقدمة من أبوذية يدمي القلب و( يذبح ذبح ) وحرصت سورية أن تعطي للأغنية عطرا اوبراليا لنواح سومري عجيب حتى تتخيل إن إيقاع الأغنية يتصاعد مع الألم الإنساني في كل حروب البلاد منذ سقوط أور حتى سقوط بغداد تحت وقع أقدام ارتال المارينيز فسماع هذه الأغنية يشيد لنا أبراجا من سريالية التخيل ويعطينا زخما عاطفيا شهيا لنكون ونستعيد بهجة ما كان بعيدا عن هذا الوجع المظلل في واجهات سيارات المسئولين والحضارة العقيمة وفتاوى القتل المبرمج للعقول والمبدعين وحتى الحلاقين ….!
سورية حسين ..حملت اسم سوريا ..لكنها لاتشبهها ..!
ماتت سورية حسين وحتما نشيد النغم السومري كان معلقا بدهشة الغجرية التي قال عنها الشاعر الاسباني لوركا : غناء الغجر الأوفياء نافذة لسماء زرقتها قاتلة…..!
عن ( الحوار المتمدن )
اقرأ ايضا
عندما أنشأ مدحت باشا ترامواي بغداد ــ الكاظمية
د . سوسن الزبيديعرف بعض الولاة العثمانيين باهتمامهم بانشاء الطرق ، وتعمير اخرى وتأمين سلامتها …