لم تزل مثار شك وجدل..الحكومة تكشف عن مؤامرة لقلب نظام الحكم سنة 1939

د. عكاب يوسف الركابي
في السادس من شهر آذار من عام 1939، أستمع الشعب العراقي الى بيانٍ مفصل عن ((احباط السلطات المختصة (لمؤامرة) خطط لها واشترك فيه فئة من، عبيد الشهوات، والمطامع، وعمال الفوضى، الذين قاموا على قلتهم وضعف تقديرهم لمغبة اعمالهم، بخداع نفر ٍ من الضباط، من أجل تجديد المآسي السالفة، وقد فاتهم، ان الجيش الذي يشعر بمجموعه بواجب الاخلاص والتضحية نحو قائده الاعلى وسلامة الوطن لا بد أن يبرأ من المفسدين)).
لقد كان مضمون الاتهام، في هذه المرة، هو العمل على قلب نظام الحكم، والمجيء بالامير عبد الاله وتنصيبه ملكا ً بدلاً عن الملك غازي، والقيام بحملة اغتيالات يقصد بها عدد من السياسيين وبضمنهم رئيس واعضاء الوزارة الحالية وقادة الكتلة القومية للجيش.
وبحجة الحفاظ على سلامة امن الدولة، سارعت الجهات المختصة الى اعتقال المتهمين في تلك القضية، وفي مقدمتهم، حكمت سليمان، والذي يبدو ان هذه التهمة لفقت له من اجل الايقاع به بالذات، كما اعتقل في تلك القضية كل من، العقيد صالح صائب الجبوري، والرئيس (النقيب) البيطري حلمي عبد الكريم، والرئيس (النقيب) عبد الهادي كامل، والرؤساء (النقباء) المتقاعدون جواد حسين (الطيار) وعلي غالب (الاعرج) وأسماعيل العباوي وأخيه يونس العباوي، وزجّ الجميع في السجن تمهيدا ً لمحاكمتهم، أذ ألّف لهذا الغرض ((مجلس عرفي عسكري)) برئاسة، العقيد عبد العزيز ياملكي.
فجائني بعد مدة بقائمة تضم بعض الاسماء، فذهبت بها الى عمي الامير زيد، في الوزيرية واطلعته عليها. وبعد ايام جاءني، العقيد محمود سلمان، مرسلاً من قبل وزير الدفاع، طه الهاشمي، وسألني عما قلت لعمي، فأدركت ان عمي قد افشى السر، وما لبثت ان دعيت الى الحضور امام المجلس العرفي العسكري، فاستأذنت الملك غازي وحضرت أمامه، وقصصت على أعضائه القصة كما وقعت)).
قرر المجلس العرفي العسكري، في اليوم السادس عشر من شهر آذار، الحكم بالاعدام على كل من، حكمت سليمان، وجواد حسين، والشقيقين، اسماعيل، ويونس العباوي، ومتهما ً خامسا ً في القضية هو الرئيس البيطري، حلمي عبد الكريم، الذي قيل انه هو الذي افشى سر المؤامرة للامير عبد الاله، والذي تفوّه بالسجن بعبارات ((تفوح منها رائحة الطبخة))، بصورة واضحة.
ان تلك القضية، كانت وما زالت مثار شك وجدل، لدى دارسي تاريخ العراق المعاصر، ويبدو ان دوافع ذلك الشك تعود الى:
أولا ً: فقدان ملف القضية، حيث فقدت معه شهادات المتهمين ومنهم، حكمت سليمان، الامر الذي ادى الى اختفاء الكثير من ملابسات القضية موضوعة البحث، وفي هذا الصدد ذكر، عبد الرزاق الحسني: ((عندما اطلع الامير عبد الاله على الطبعة الاولى من كتاب تاريخ الوزارات العراقية، استدعى مؤلف الكتاب الى البلاط الملكي، في العشرين من شباط 1954، وعاتبه بحضور رئيس الديوان الملكي، احمد مختار بابان، على زج اسمه في موضوع المؤامرة المزعومة، فلما اوضح المؤلف للامير عبد الاله، ان ذلك مما جاء في قرار المجلس العرفي العسكري، ذكر الامير للمؤلف معلوماته بهذا الخصوص، ثم قال له: ((عليك ان تسأل رئيس المحكمة عن مصير اوراق القضية)) وتابع الحسني قائلاً: ((وقد سألنا العقيد عبد العزيز ياملكي عما يقوله الامير عبد الاله فاجابنا قائلا ً: ((ان اوراق الدعوة تحوي (2053) صفحة وقد أخذها اسماعيل نامق الى نوري باشا ولم تعد الينا))، في حين ذكر محمود الدرة نقلا ً عن عبد العزيز ياملكي ايضا ً ((ان قرار الحكم وملف القضية قد فقد بالنظر للاختلاطات التي لازمت الموضوع برمته))، ويفهم من كتاب المشاور العدلي في وزارة الدفاع، الموجّه الى المدعي العام بوزارة العدلية، في اليوم الثامن عشر من شهر آذار 1939، ان ملف القضية كان قد سلّم الى الاميـر عبد الاله، ولم يعثر عليه اثناء جرد ممتلكاته بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958، كما جاء في كتاب مديرية الاستخبارات الموجّه الى المستشار العدلي في وزارة الدفاع في الرابع عشر من آذار 1959.
ثانيا ً: تعارض شهادات المعينين للقضية والمطلعين عليها، ومرّد هذا التعارض، نابع من انقسام هؤلاء الى فريقين، الاول ينفي صحة وجود المؤامرة، ومنهم العقيد عبد العزيز ياملكي رئيس المجلس العرفي العسكري، الذي أكد ((عدم وجود مؤامرة في الحقيقة، وان كل الامور كانت مدبّرة من قبل نوري السعيد وعبد الاله))، وذكر الفريق الاول الركن المتقاعد صالح صائب الجبوري، وهو احد المتهمين بالقضية ((حصلت لدي قناعة بأن بعض رجال الحكم والجيش قائمون بتدبير مؤامرة وهمية للايقاع بخصومهم بطريقة دنيئة في حقيقتها، قانونية في مظهرها)) وينضم الى هذا الفريق اللواء المتقاعد فؤاد عارف، الذي ينفي صحة تلك القضية، وكذلك، عبد الرزاق الحسني الذي اعتبرها ((مؤامرة مزعومة))، اما الفريق الثاني، فيؤكد على ان القضية ليست ملفقه او مفتعلة بمجملها، ومنهم المدان الاول حلمي عبد الكريم الذي تفوه في السجن بعبارات توحي بوجود مؤامرة هدفها اغتيال الملك غازي.
كما انه بعث في نهاية، شهر اذار من 1952، برسالة الى محمود الدرة، ((نفى فيها كونه مخرج رواية المؤامرة، وذكر انه اخبر الامير عبد الاله بأن نوري السعيد سوف يقتل الملك غازي))، وأكد للباحث السيد فيصل فهمي سعيد، في لقاء معه، على صحة وجود المؤامرة بدليل القاء القبض على الشخص المكلف بأغتيال والده، ولكن القضية في رأيه، ليست بتلك السعة التي اثيرت بها، ويميل الباحث عبد الجبار العمر الى هذا الرأي ايضا ً.
ثالثا ً: ان اقحام تهمة محاولة اغتيال قادة الكتلة القومية في الجيش، ضمن التهم التي الى حكمت سليمان وعدد من الضباط من انصار بكر صدقي، أريد به تأليب قادة الكتلة ضدهم ويظهر ذلك بشكل واضح من موافقة القادة على اعلان الاحكام العرفية في معسكر الرشيد.
رابعا ً: ان ما قيل عن موقف ضباط الكتلة القومية على مدخل باب المجلس العرفي العسكري ليغتالوا كل من يقرر المجلس اطلاق سراحه، امر يتنافى مع الواقع والمنطق حسب ما نعتقد، فأن رئيس المجلس كان يخضع عادة للرأي السياسي الذي كان يفرض عليه، من الوزارة القائمة، وكان نوري السعيد رئيسا ً لها، ويعرف القاصي والداني، ان غاية الغايات لديه، كان الانتقام من انقلابيي عام 1936 وبالذات، حكمت سليمان، لاسباب مر ذكرها، ويستبعد محمود الدرة وقوع الحادثة، مؤكداً انه كان بأمكان ضباط الكتلة القومية، ان يفرضوا ارائهم من دون اللجوء الى التهديد المباشر، ولا سيما وان رئيس واعضاء المجلس العرفي كانوا من أنصار القادة، الا ان، حازم المفتي، يشير الى ان الضباط القوميين، أصروا على ادانة، حكمت سليمان، وربما صمموا على قتله، ويعزو سبب إصرار القادة على موقفهم هذا الى انه ((حسما ً للنزاع الذي نشأ بسبب (قرار) اعدامه))، ويذهب صلاح الدين الصباغ الى ان قادة الكتلة القومية، وضعوا في موقف صعب، وارغموا من نوري السعيد وعبد الاله، على التشدد تجاه، حكمت سليمان، وانقلابيي عام 1936.
عن رسالة (حكمت سليمان ودوره…)

اقرأ ايضا

نص نادر..تطواف في جوار بغداد والمدائنمن الكرادة الى سلمان بك

الشماس فرنسيس جبرانزايلت بغداد في الساعة التاسعة عربية من نهار الخميس الواقع في ١٧ آب …