علي إبراهـيم الدليمي
رأيته مرتين فقط، في غضون بضعة أشهر، قبل رحيله السريع، كان حينذاك يمشي سير السلحفاة، ويتوكأ على عصاه، ولكنه كان يعاند المستحيل، كلما رأني، يبدأ بالحديث الجاد عن مشاريعه وطموحاته المستقبلية، و..، ولكن يد المنون كانت أسرع من أن يحقق أحلامه.. وهكذا رحل، في يوم 13/آيار/1982، حيث سكنت روح فناننا الكبير إلى الأبد، عــن عمر ناهز 57 عاماً.
ولد فناننا الراحل نزار سليم في 15/3/1925 في أنقرة (تركيا) من أبوين عراقيين، وقد أحب وتعلق بالرسم منذ صغره وخصوصاً بعدما أصدر مع اخوته مجلة (الصبا) في مرحلة الدراسة الابتدائية وكانت هذه المجلة تخط وترسم باليد.. وقد أنحدر نزار وترعرع من بيئة فنية مختلطة في مجال الفنون والادب والمسرح إذ وجد نفسه ضمن محيط عائلي مشبع بمثل هذا الزخم من الفنون.. فوالده (الحاج سليم) الذي يعد من رعيل الرسامين الأوائل في العراق وحافظاً للقرأن ومقرئاً جيداً للمقام وشقيقه النحات الخالد (جواد سليم) صاحب (نصب الحرية) ببغداد فقد كان نحاتاً بارزاً ورساماً بارعاً وعازفاً للكيتار، وشقيقه الفنان (سعاد) من الرسامين الرواد وممثل ورياضي ورسام كاريكاتيري معروف، وشقيقته الرائدة (نزيهة)، رحمهم الله جميعاً.
ومن تشعباته الفنية هذه نستخلص ان نزار قد سبق جيله بل وبرز بين عائلته (كما أراد) في التعبير عن توجيه متقدم لم يتوفر لدى فناني جيله لهذا التشعب.. ولم يبال للخطر الذي كان سيحلق في أعماله من جراء التنوع وتوزيع جهده ما بين مواهبه هذه، وقد كتب في إحدى صفحات مذكراته متحدثاً عن (التعددية الابداعية) في حياته فيقول: عوالم نفسي متعددة الجوانب يراها البعض غير مستقرة على حال متضاربة واراها متكاملة منسجمة تعمق في أبعاد التجربة وتلونها فلا تبقيها على رتابة أوضيق فأنا أرسم وأكتب (وأكركت) وأقرأ وأستمع للموسيقى وأجمع بين هذا وذاك ولا أفرط في أي جانب من هذه الجوانب.
ويقول في مقدمة دليل معرضه التكريمي 1979… يستغل الفنان جميع حواسه أو يوظفها مرة واحدة باللمس والسمع والذوق والبصر بتكامل وكثافة خلال تجربة المعايشة المستمرة والكينونة المنتامية موظفاً طاقته الخاصة في الحاسة المطابقة لاداة تعبيره المختارة بالصوت، الكلمة، اللون أو الشكل.
وهكذا وظف نزار طاقته الفنية ووضعها في خدمة خوالجه من خلال اللوحة المعبرة والرسم الهزلي والقصة بكلماتها الواقعية والصادقة.
درس نزار الفن الصيني التقليدي على يد استاذ متخصص إسمه (شو) لمدة (6) أشهر في بكين وساعده ذلك على إكتساب خبرة في انجاز أعماله الانطباعية ومواضيعه البغدادية ذات الطابع الشعبي إذ استلهم أعماله الفنية من الطبيعة المتعلقة برسوم المناظر والشخوص (البورتريت) وقد أهتم بتصوير الواقع الإجتماعي كالبيئة المحلية الطبيعية والحياة والقضايا العامة.
فضلاً عن ذلك، فقد درس الرسم في معهد الفنون الجميلة ببغداد لمدة ثلاث سنوات ولكنه ترك المعهد بعد تعيينه في وزارة الخارجية للعمل في دمشق بعد ان تخرج من كلية الحقوق عام 1952 بدرجة (ليسانس) “لقد كان نزار يدرس الرسم في المعهد، اضافة لدراسته في كلية الحقوق”.
وقد مكث بالعمل في وزارة الخارجية حتى عام 1971، ثم نقل الى وزارة الاعلام بدرجة مستشار دبلوماسي، فشغل مديرية الترجمة لفترة قصيرة ثم مديراً عاماً للفنون التشكيلية في بداية تأسيها عام 1972، وهو الذي وضع اللبنات الأولى والمهمة في تأسيسها، ووضع الهيكل التنظيمي العام لهذه الدائرة 1976 وقد أصبــح مستشاراً فنياً في وزارة الاعلام عام 1976 حتى أحيل على التقاعد عام 1981.
وخلال هذه السنوات التي قضاها ما بين العمل في وزارة الخارجية ووزارة الاعلام لم ينقطع نشاطه الفني في مجال الرسم والكتابة، فقد صدر له مؤلف عام 1977 عن “الفن العراقي المعاصر” الذي طبع بثلاث لغات رئيسة هي: الانكليزية والفرنسية والعربية، وأقام ستة معارض شخصية واشترك في كثير منها في المعارض التي اقيمت داخل القطر وخارجه ومن أهم معارضه الشخصية.
المعرض الاول في بون عام 1955.
المعرض الثاني في بغداد عام 1956.
المعرض الثالث في الخرطوم عام 1958.
المعرض الرابع في ستوكهولم عام 1967.
المعرض الخامس بغداد عام 1971.
المعرض السادس في بغداد عام 1979.
ومعرضه الاخير الذي لم يحضره فقد كان بمناسبة أربعينية وفاته وكان معرضاً شاملاً لأعماله وقد اقيم على قاعة جمعية التشكيليين العراقيين في المنصور بتأريخ 24/6/1982.
اضافة لجانب الرسم الزيتي والمائي والنحت نمت عند نزار روح الهزل والسخرية وكان شقيقه الفنان “سعاد” المعلم الاول له بهذا المضمار.
لقد أهتم نزار بالرسم الكاريكاتوري، وله في هذا المجال اعمال منشورة وغير منشورة كثيرة، اذ بدأ ينشر رسوماته الكاريكاتورية في ملحق جريدة الاهالي، كما نشر السياسية منها في جريدة البلاد عام 1956 تحت عنوان “حدث في الاسبوع الماضي “، كما نشرها في جريدة “اليوم ” الليبية بتوقيع “ابو راء ” وكان ان أخذت رسوماته هذه حيزاً كبيراً في الصحف.. حتى استطاع ان يقدم بالرسم الكاريكاتوري الكثير من المحاولات النقدية الساخرة واللاذعة، وكانت تحمل موضوعات مختلفة منها السياسية الساخنة ومنها الظواهر المدانة في المجتمع ومنها الاجتماعية والطريفة، وقد نشر سلسلة من رسوماته هذه في جريدة الجمهورية عام 1972 بعنوان “مروريات” و”رمضانيات”.. وقد اختير كواحد من أحسن مائة رسام كاريكاتوري في العالم، نتيجة إستفتاء عالمي أجرته دار الدعاية الشهيرة “كبرفو” في بلغاريا.. واستطاع ان يؤسس جماعة فنية خاصة بالكاريكاتير، ضمت نخبة طيبة من الرسامين العراقيين الشباب والكفوئين بهذا المجال، وهم كل من (بسام فرج وضياء الحجار وعبد الرحيم ياسر ورائد الراوي وموسى الخميسي) اذ شاركت هذه الجماعة في عدة مسابقات ومهرجانات دولية خاصة بالدعابة والهزل، وقد حصدت عدة جوائز.
لقد ترك فناننا الراحل مشروع كتاب عن “فن الكاريكاتير” ورسومات كثيرة تتجاوز الالفين، كان ينوي ان يطبعها في كتاب قبل رحيله.. كما عثر على مخطوطات أخرى مهمة تندرج في إطار المسرحية والقصة والمذكرات والمقالة والملحمة، فمنها القصص القصيرة ومسرحيات مختلفة ومقالات نقدية في الفن التشكيلي ومشروع كتاب عن الفن العربي الحديث.. ولكن لا ندري اين مصيرها الآن؟!.
اقرأ ايضا
نزار سليم.. ألوان من صباحات الأزقة القديمة
باسم عبد الحميد حموديفي 24 حزيران 1982، أقيم ببغداد معرض التشكيلي نزار سليم في أربعينيته، …