إعداد: ذاكرة عراقية
من الأب أنستاس الكرملي إلى أحمد زكي باشا
بغداد في عشرة آب سنة 1918
إلى حضرة العلامة الكبير أحمد زكي سكرتير مجلس النظَّار في مصر – حرسه الله –
بعد إهداء ما يليق بتلك الذات التي أفديها بالنفس، أعرض أن السيد محمود شكري الألوسي التمس إليَّ أن أكتب إلى مصر لأطلب كتاب “الأصنام” لابن الكلبي، وقد قال لي إنكم عنيتم بنشره مع كتب أخرى، وقد رآه أحد النجفيين من آل كاشف الغطاء حينما كان في مصر.
ولما أجبت طلبه، قيل لي إن الكتاب لم يُطبع، فكلَّفني أن أكتب إلى مقامكم السامي لنقف على جلية الأمر.
ثم إني كنت قد اشتريتُ كتاب “نكت الهميان في نكت العميان”، وكنتم قد وعدتم بنشر فهرس له؛ فهل نُشر هذا الفهرس؟
فنرجوكم أن تُكلِّفوا أحداً ليبعث لنا بنسخة من هذا الفهرس، وبنسختين من كتاب “الأصنام”.
والسيد الألوسي يقرؤكم السلام مع الداعي.
- الرسالة الثانية
من أحمد زكي باشا إلى الأب أنستاس الكرملي.
عن رمل الإسكندرية في 27 أكتوبر سنة 1918
(وصلني في 2 سبتمبر سنة 1918)
صديقي الجليل الأب أنستاس:
مرحباً بكتابك أيها الصديق الجليل!!
لقد جاء عندي في مقام البشرى؛ بل في مقام بُشريَين لا بشرى واحدة؛ حيث حمل لي نبأ سلامتك وسلامة صديقي العلامة الفاضل السيد محمود شكري الألوسي.
لقد كنت أخشى عليكما وقعَ تلك الحوادث المدلهمة المحيطة بكما (قام العثمانيون بنفي الأب أنستاس ماري الكرملي إلى الأناضول في تركيا، والمبالغة في إعنات العلامة محمود شكري الألوسي والتضييق عليه – ج. هـ)، وأشفق أن ينالكما من الأذى ما نال كثيراً من الناس. واأسفاه!!
ثم انكشف الغمام؛ فإذا بعناية الرحمن تحوطكما وتقيكما طوارق الحدثان وبغي الإنسان، فلا عجب أن كان وقع كتابك في نفسي عظيماً؛ إذ جاءني بذيَّاك النبأ المفرح وَبَدَّدَ مخاوفي، وأنا أيها الصديق أدرى الناس بفضلكما الجمّ ويدكما الطائلة على الأدب وجهادكما الكبير في سبيله.
فأنا أتقدَّم إليك وإلى صديقي الألوسي بخير التهاني، وأرجو لكما العمر المديد
والعيش الرغيد.
هذا؛ وقد بادرتُ عند مجيء كتابك فأوعزت إلى دار الكتب السلطانية بإرسال نسختَين من كتاب “الأصنام” برسمك لكل منكما واحدة؛ ولكن مع الأسف أن مصلحة البريد أجابت أنها لا تقبل “الطرود” برسم بغداد؛ فلذلك رأيت أنفسنا مضطرين بحكم الضرورة أن نتربَّص ريثما يصبح النقل ميسوراً؛ وحينئذ أنتهز أول فرصة لإرسالهما إليك مع نسختين – أيضاً – من كتاب “نكت الهميان في نكت العميان” مصحوبتَين بالفهرست، وربما تمكنت – أيضاً – من إرسال نسختين من كتاب “التاج” للجاحظ، فقد تم لي طبعه بعناية وتحقيق هما الغاية – في اعتقادي -.
وتفضَّل أيها الصديق بقبول فائق تحياتي وبإهدائها إلى الصديق المحترم السيد الألوسي.
والله المسؤول أن يُسْمِعَنَا عنكما خير الأخبار، وأن يتكرَّم علينا باللقاء في أبرك الأوقات وأقرب الأيام.
أحمد زكي
سكرتير مجلس الوزراء بمصر
الرسالة الثالثة
من الأب أنستاس الكرملي إلى أحمد زكي باشا
من بغداد في 5 ديسمبر سنة 1918
إلى صاحب الفضل العميم والصديق الحميم أحمد زكي
من الأب أنستاس الكرملي إلى أحمد زكي باشا
بغداد في 12 نيسان سنة 1919
إلى شمس العرب ونور علمهم وآدابهم وفخرهم ومجدهم وترجمانهم عند أبناء الغرب أحمد زكي باشا – حفظه الله وصانه من عين كل حسود -.
جاءتنا – أنا والألوسي – رسالتكم تتهادى وفي أعطافها من عطور مكارم الأخلاق ما لا نظير له في القرون الغابرة والحاضرة، ولولا صدق لهجتكم ونيّتكم المعروف عند الكبير والصغير لحملنا قولكم: “وغاية ما وصل إليه باع هذا الطالب الذي يدأب في اللحاق بكما؛ وأَنَّى له ذلك؟!!”. على غير محمله؛ وهل من محاولة إقامة مقايسة بيننا وبينكم وأنتم قد بلغتم مناط العَيَّوق بعلمكم وتحقيقكم، ونحن بَعْدُ على الأرض ندبُّ دَبَّاً؟!! أن هذا إلا جناية على الحقيقة لا نقبلها؛ وإن كان صادراً عن نفس تنمُّ عن فضل عظيم وأخلاق رضية لا مشابه لها – في ما نعلمه – من أخلاق كثيرين. فالله يحفظ هذه النفس الزكية الطاهرة؛ فلقد صدق ذلك الوالد حين سمَّاكم بأحمد زكي، ففيكم كل محمدة وكل زكاء.
من غريب الاتفاق أن صديقكم ومحبّكم المخلص عبد اللطيف أفندي ثنيان (صاحب جريدة “الرقيب” في بغداد وكانت من الصحف الأشد جرأة في وقتها – ج. هـ) ذهب إلى البصرة منذ أن فُتِحَ الطريق بين دار السلام ودار النحاة؛ فجاء مدَّة 5 أيام إلى هنا ليقضي أشغاله، وزارني يوم وفود رسالتكم الشريفة، فأطلعته عليها، وتعجَّب من هذا التصادف الغريب، ووعدني أنه يكتب إليكم رسالة والأمل أن كتابه وصل إلى حضرتكم قبل هذا؛ لأننا انتظرنا وصول الهدايا إلينا لنطمئنكم بوصولها فوصلتنا نهار أمس صباحاً، والحمد لله على وصولها، والشكر لكم على هديتكم هذه الملوكية؛ لما فيها من الكنوز المدفونة في ثنايا أوراقها.
ولقد اطَّلع عليها كثيرون؛ لأن المتردّدين من الأدباء والفضلاء على نادي هذا العاجز كثيرون (كان الأب الكرملي يعقد في كل جمعة بدير الآباء الكرمليين ببغداد ندوة أدبية وفكرية تتناول سائر الموضوعات – ج. هـ)، وقد أُعجبوا بما حوت من الفوائد التاريخية والعلمية واللغوية والنحوية ما لا وجود له في عدَّة مجلَّدات ضخمة، وقد بعث كثيرون يطلبونها من مصر القاهرة.
أوصلتُ الكتب الثلاثة إلى السيد محمود شكري الألوسي، وطلبت إليه أن يكتب إليَّ سطرين ليطمئن بالي بوصولها، فنمَّق الأسطر التي أبعث بها إليكم.
بينما كنت أتصفح كتاب “التاج” وقعتُ على كلمة “الماخورة” في ص 9 من متن الكتاب؛ فوجدتكم تقولون: “ومن غريب الاتفاقات أيضاً أن المنتصر هذا قتل أباه المتوكل في نفس الموضع المعروف بالماخورة الذى قتلَ فيه شيرويه أباه كسري أبرويز.”.
والذي حقَّقته أن صحَّة النطق بالماخورة هي “الماحوزة”، بخلاف ما حقَّقه بربييه دي منار (مستشرق فرنسي مواليد سنة 1827م، كان يجيد اللغات: الفارسية، والتركية، والعربية. وقد توفي سنة 1908م – ج. هـ)، فقد قال هذا إن الماخورة بالفارسية هي مجلس الشرب… والحال أن الكلمة الفارسية بهذا المعنى هي الماخور بدون هاء لا الماخورة بهاء. ثم كيف يجوز لخليفة من خلفاء المسلمين أن يُسمِّي قصره ماخورة إذا كان هذا معناها؟!!
والصواب: “ماحوزة”، ومعناها: القصر باللغة الأرمية والمكان الحصين والمدينة المسوّرة.
والماحوزة أيضاً هي اسم المدائن عند الأرميين، وشيرويه قتلَ أباه في ماحوزة المدائن لا في ماحوزة سامراء؛ إذ هذه لم تكن قد بُنيت، إلا أن المسعودي (مؤرِّخ شهير صاحب كتاب “مروج الذهب”، توفي سنة 346 هـ – ج. هـ) خُدِعَ بمشابهة الاسمَين فظنَّهما واحداً فقال ما قال، وعنه نقلتم هذا القول الذي نقلناه هنا.
وذكرتم في حاشية ص 115 في كلامكم عن ذي قار: “مَن نظر إلى الخريطة الجغرافية يتبيَّن له أن عرض هذا المكان مما لا يقع فيه الثلج”.
والظاهر أنه قد يقع لكن نادراً، فقد وقع فيه سنة 1911م كما وقع في بغداد.
وأما القطع بعدم وقوعه البتَّة؛ ففيه نظر.
وذو قار المعروف اليوم باسم “المقير” هما نفس “أور الكلدانيين” Ur الشهيرة في التاريخ. وسُمِّي بذي قار أو المقير لأن هناك بناية من بقايا أثر “أور” مبنية بالقار أو القير، وهي مشهورة بخرابها كما كانت مشهورة سابقاً بعمارتها.
وقولكم في قاموس الجغرافية القديمة: “تُسمَّى أم قير”؛ وهو تصحيف “المقير”؛ لأنكم أخذتم الاسم عن الإفرنج أو الترك، كما أخذتم “عظيم” عن القومَين أو أحدهما فكتبتموه “أدهم” في القاموس الجغرافي المذكور.
وقولكم: “وبهذه المدينة – أي بأور – ولد الخليل”؛ فهل نقل عن العرب القائلين إنه ولد في كوثي العراق، لكن كوثي معروفة إلى اليوم بهذا الاسم أو باسم جبل إبراهيم وهي قير “أور”؛ فوقع اختلاط في الأقوال منشأ الوهم.
وكثيراً ما تقولون في الحواشي: “هذه الجملة المحصورة بين النجمتين منقولة عن كذا.”.
وقد فتَّشتُ عن النجمة بالهاء ومفرد النجم فلم أجدها؛ بل وجدتُ النجم مفرداً وجمعه: النجوم؛ فهل وقعتم على ما تستعملونه من هذا اللفظ المُولَّد أو العامي؟!!
وقلتم في حاشية 26: “اللغة السلتية بمعنى Celtiqus”؛ والذي أظنه أن العرب عَرَّبَت الكلمة بصورة: “قلطية”، ومنه الكلب القلطي.
وقلتم في حاشية ص 24: “الأبنة: العيب.”؛ لكن أظن أن المراد بالأبنة في العبارة المذكورة هو: (Sodomie passive). وأرجوك العفو عن الإفصاح عن معنى هذه الكلمة (الأبنة: الشذوذ الجنسي – ج. هـ).
وذكرتم في ص 95 من كتاب “الأصنام” كلمة “كمالة”؛ ولم أجد لها ذكراً في كتب القوم؛ والذي رأيته: “كمال”، أو: “تتمَّة”، أو: “تمامه”؛ فلعلكم خَرَّجْتُم كمالة على تمامة.
وأرجوك سيدي أن تسمح لي ما نفثه قلمي من العبارات التي كنت تغنيني عنها، لا سيما وهذا الكتاب هو كتاب شكر لا كتاب نقد، لكن تحلّيكم بحلى أبدع الفضائل والمناقب جرأتني على أن أطمع في جودكم الحاتمي والعصامي وأن أبوح بما في صدري، ليكون ما يبرزه قلمكم العسال بالغاً نهاية الكمال.
وحفظكم الرب المتعالي؛ ما تعاقبت الأيام والليالي. اللهم آمين.
الأب أنستاس ماري الكرملي