الدكتور زكي مبارك
نحن في منتصف الساعة التاسعة من مساء 12 فبراير سنة 1938 وهو مساء لم تشهد مثله بغداد منذ أجيال. وهذه سهرة في بهو أمانة العاصمة أقامها الطبيب الشاب الدكتور شوكت الزهاوي. وهذا الدكتور زكي مبارك الملحد الفاجر فيما يزعمون، يتلفت عن صاحبة العينين فلا يرى صاحبة العينين. ولكنه يرى الطبيب النبيل الذي سيقبل من اجله ثرى بغداد يوم يفارق بغداد، فيستشير صديقه فيما يأتي وما يدع، فيعرف أن السهرة تنقسم إلى قسمين: قسم عربي وقسم إفرنجي، فأقول: النبي عربي، ولسان أهل الجنة في الجنة عربي.
وأمضي إلى القسم العربي فأجد الوزراء جميعاً وعلى رأسهم فخامة الرئيس. واخرج عن وقاري فأمضى إلى رئيس الوزراء وأقول: سيدي، أتسمح بان أسجل في مذكراتي أن إيثارك الجلوس في المرقص العربي وفي ذاته تزكية نبيلة للثقافة الذوقية في حياه العروبة؟ فيبتسم ابتسامة القبول
وأعود إلى مكاني واجعل مكاني كله المرقص، وما هو في الحقيقة بمرقص، ولكنه مغنى كما يعبر المصريون. وانظر فإذا فتاة مليحة جداً تجلس بين القيان وعليها سيما الذل، فيزعجني أن تعجز عيونها الساحرة عن الاستبداد بألباب الناس، فأنظر إليها بترفق وارفع الكأس، فتنظر بحنان وترفع الكأس، ولا يكفيني ذلك، بل اصنع الصنيع نفسه مع سائر الفتيان؛ ويتقدم رجل لم تذهب الكأس بوقاره فيقول: يا دكتور مبارك، إن مكانك قريب جداً من فخامة رئيس الوزراء ولعله يتأذى مع مداعبة الفتيان، وأنا أرى أن ما تصنع لا يليق بمقامك.
فقلت في عبارة صريحة: إنما اصنع هو الذي يليق بمقامي فتلعثم الرجل وقال: لطفاً ياسيدي، لطفاً! ولكن هل أتستطيع أن اعرف جوهر رأيك في هذه القضية؟
فقلت وأنا أجد كل الجد: لست يا سيدي بفاجر ولا أثيم وإنما أنا رجل مؤمن، ومن واجب المؤمن أن يتوجع لألام المنكوبين، وهؤلاء المغنيات والراقصات يعانين ابشع نكبة قاستها الإنسانية، فهن مسؤولات عن الوصول إلى قلوب الناس. يا ويل من يحكم عليه الزمن بأن يكون من صنعته أن يرضي الناس؛ والناس يا سيدي يغلب عليهم اللوم فلا يقابلون من يخطب رضاهم بغير الجحود، فهل يسوؤك وأنت عراقي كريم أن أكون من الكرماء؟ هل يسؤوك أن أُدخل السرور على قلب فتاة بائسة قضى عليها الزمن الجائر بأن تطلب رضاي ورضاك؟
فهدأ الرجل قليلا ثم قال: وما رأيك في هذا؟
فقلت: وما هذا؟
فقال: أما رأيت الراقصة ترفع الثوب عن فخذيها في وقاحة وسفاهة؟
فقلت: نعم رأيت، ثم رأيت؛ ولكن من الملوم؟ أن الراقصات يعرفن أن فينا الغوي والسفيه والمجرم، فهن يتقربن إلينا بتزين الرجس والدعارة والفحش. ولو كنّ يعرفن أننا جميعاً نغار على الكرامة لما جاز لإحداهن أن تكشف عن قدم أو ساق ويقوم المغني المطرب محمد القبانجي فينشد:
أأحبابنا قد فرق الدهر بيننا
فأصيح: قد جمع الدهر بيننا
فيعرف أنه لم يراع المقام ثم تكون أغانيه بعد ذلك ضرباً من الارتجال
وانتقل من مكاني لأرى كيف تموج الدنيا في المرقص الإفرنجي فأعثر على الراقصة التي كنت أداعبها بالكأس منذ لحظات، واحييها فلا ترد التحية، كأنها ظنت أنني كنت في مداعبتها من الماجنين
أنني أفهم حالك أيتها الصبية المسكينة، ويسرني أن أراك تتمنعين فالناس كلهم وحوش. ولا استثني نفسي فلتحذري وليحذر أمثالك من حسن الظن بالناس
طوفت بالمرقص الإفرنجي لحظات لأرى صاحبة العينين، ولم أجدها فأين ذهبت؟ أين ذهبت؟ دلوني فقد عيل صبري. وفوق أي مخدة نام ذلك الخد الأسيل؟ يرحمك الحب يا قلبي!
فقد كنت ألمح من بعد فتاة تسارقني النظر بعينين زرقاوين، وكنت لا املك الانتقال إليها ولا تملك الانتقال إلي؛ وكان جاري رجلاً ظريفاً كسائر البغدادين، فترك مقعده عمداً لأستطيع دعوة الفتاة إلى جواري. ولم تنتظر الفتاة الدعوة، فما هي إلا لمحة طرف حتى كان وجهها إلى وجهي، وكلمتني بالإنجليزية فلم أفهم، فاستوضحتها بالفرنسية فلم تفهم، فقالت بلسان عربي ملحون ما معناه: أرجوك أن تطلب من سليمة باشا أن تغني:
على بلد المحبوب وديني
ودار الصوت على الحاضرين ويدها في يدي، وعينها في عيني؛ وتلطف الكرام الكاتبون فلم يسجلوا غير الجميل
وبعد لحظات همت الفتاة بالانصراف، فجذبتُ يدها أقبلها فسمحت بعد تمنع واستحياء
ولم يكُ غير موقفنا فطارتْ… بكل قبيلةٍ منا نَواها
فواهاً كيف تجمعنا الليالي… وآهاً من تفرقنا وآها
ثم يجئ اليوم الخامس فألقي محاضرتي في كلية الطب، وأُعربد على الدكتور عبد الواحد الوكيل وعلى الأطباء المصريين، وأزعم أن أساتذة الطب في مصر من أكسل الناس، ولولا ذلك لنقلوا علوم الطب إلى اللغة العربية. ويصفق الحاضرون، ويقبل الجارم لتهنئتي فأقول: أنا تلميذك. فيقول: لقد بذذت أساتذتك.
ويجئ المساء فأذهب إلى الحفلة التي تقيمها الجمعية الطبية المصرية فأراها وا أسفاه حفلة مصرية حقاً وصدقاً، فلا شراب ولا رقص ولا غناء، فأقول في نفسي فضحتمونا يا ناس!
ولكن الدكتور عبد الواحد الوكيل ينقذ الموقف فيلقي خطبة يقول فيها إن الجمعية الطبية المصرية عرفت أنها تعجز عن إقامة حفلة كالتي أقامها معالي أمين العاصمة، أو حفلة كالتي أقامها سعادة رئيس الجمعية الطبية العراقية، فقررت أن تقيم حفلة ترقص فيها الخطب ويغني فيها البيان.
الله أكبر! الله أكبر!
وكذلك قضينا ثلاث ساعات في سماع الخطب والقصائد، ثلاث ساعات قضيتها في كرب، لولا الخطبة الظريفة التي ألقاها سعادة العشماوي بك، ولولا الوجه الأصبح الذي كنت أتعزى بالنظر إليه
ويجئ اليوم السادس وهو رحلة إلى السدة الهندية وأطلال بابل وأصل إلى القطار في آخر ثانية، فقد كنت في شواغل غرامية عاقتني عن مراعاة الموعد؛ ولكن حظي كان سعيداً، ولا أذكر كيف، فقد تتأذى بذلك بعض الوجوه الصباح. ويمر القطار على قرية اسمها الإسكندرية فأقول: لعل هذه هي البلدة التي ينسب إليها أبو الفتح الإسكندري الذي يروي عنه عيسى ابن هشام في مقامات بديع الزمان؛ وأملأ عيني من نخيلها وأكواخها لأكتب عنها كلمة في الطبعة الثانية من كتاب (النثر الفني).
أنظر يا جاحد! فها نحن أولاء في رحاب أسد بابل؛ وهذه صاحبة العينين. نعم هذه صاحبة العينين أما ترى يا قلبي؟ أما ترى يا جاهل أن صاحبة العينين تُنحّي زوجها بعنف لتظهر في الصورة بجانبك؟ اعترف يا جاهل بأن الله رعاك حين كتب أن تظهر في صورة عالمية في رحاب أسد بابل وفي جوار صاحبة العينين. اعترف يا جاهل بأنك كنت في إحدى لحظاتك أسعد القلوب.
مولاتي صاحبة العينين:
أعترف بأني آذيتك بعض الإيذاء، أو كل الإيذاء؛ ولكن الشاعر مغفور الذنوب، لو تعلمين؛ وقد قرأ الناس مذكراتي في مجلة الرسالة فعرفوا من أنت. فهل أطمع يوماً في أن تعرفي من أنا؟ وهل يعرف زوجك المفاضل أنني شاعر لا يهمه غير أنس الروح بالروح؟
المهم عندي يا مولاتي أن يعرف أبناء العروبة أن الجمال غير مقصور على من أنجبت لندن وباريس وبرلين، وأن في بغداد ودمشق وبيروت ومكة والمدينة وصنعاء والقاهرة والإسكندرية والمنصورة ودمياط وتونس ومراكش والمقدس وما شاء الهوى من الحواضر العربية أروحاً فيها جمال وصفاء.
مولاتي صاحبة العينين:
لست بالرجل الفاجر، كما يزعم المرجفون، وإنما أنا رجل شاعر يؤمن بأن من الوطنية أن يحبب العرب في بلادهم بالإشادة بما فيها من صباحة وملاحة وأخلاق.
فهل أستطيع أن أمر على بلدكم الجميل في طريقي إلى مصر، مصر التي فيها الزمالك وحلوان؟ مصر التي فيها شارع فؤاد، والتي فيها الزيات ومحمد الهراوي ومحمد عبد الوهاب ومدحت عاصم والمخلوق السخيف الذي اسمه عبد الله حبيب؟ مصر التي فيها أحمد فريد رفاعي وطه حسين وإبراهيم مصطفى وأمين الخولي وعبد الحميد العبادي واحمد أمين؟ مصر التي فيها المكتبة التجارية والجامعة المصرية؟ مصر التي فيها هوى القلب وشفاء الفؤاد؟
مولاتي صاحبة العينين:
أنا أشرف من العصابة التي حرستك مني، فاسمحي لي بتقبيل قدميك قبل أن أموت، ولكن… ولكن….
ولكن أينسيني حديث العينين وصاحبة العينين ما شهدت يوم زيارة القوة الجوية العراقية؟
إن تلك الزيارة تمثل روح العصر أصدق تمثيل، فقد كان المفروض أن يحلق في الجو بعض أعضاء المؤتمر الطبي، وكان المظنون ألا تظهر هذه الرغبة إلا عند عدد قليل من الأعضاء.
انتهت أيام المؤتمر، سقاها الغيث، ولكن جد ما لم يكن في الحسبان، فقد أذاع رئيس الجمعية الطبية العراقية أن البصرة هي المدينة التي ولدت فيها ليلى المريضة في العراق. وكنت خليقاً بأن أعرف ذلك من قبل، ولكن ليلى لم تحدثني عن وطنها الأول، ولم أسال عنه ظمياء، فرأيت الفرصة سانحة لأن أمضى مع أعضاء المؤتمر لرؤية الثرى المندى بالعطر والريحان، الثرى الطاهر الذي عرف النعيم يوم كان يتخطر فوقه ذلك القد الرشيق إلى وطنك يا ليلاي، إلى البصرة، إلى النخيل، إلى شط العرب الذي تحترب في سبيله أمم وشعوب، إلى وطن الجاحظ، إلى وطن المبرد، إلى وطن مولاي الحسن البصري امتطي القطار في ظلام الليل.
مجلة (الرسالة) العدد 248 ــ اذار 1938
اقرأ ايضا
الرحالة البريطاني جاكسون عام 1797.. بين البصرة وبغداد
حكيم عنكرتلقي الرحلة التي قام بها الرحالة البريطاني جون جاكسون إلى العراق، ضمن مسار طويل لرحلة أشمل انطلقت من …