د. نادية هناوي
ما يميز تموزنا عن سواه من شهور السنة، أنه شهد مولد اثنين عراقيين بامتياز: الأول ثورة عارمة غيّرت العراق عن بكرة أبيه، وقدمته إلى العالم في وجه جديد وأصيل، هي ثورة العشرين الكبرى. والآخر هو الجواهري شاعر العرب الاكبر الذي كان يوم مولده التموزي إعلانا عن ثروة أدبية، ستحفظ للشعر العربي ذاكرته، وستعيد إليه عنفوانه الذي كان عليه أيام ازدهار الحضارة العربية الإسلامية حين كان الشعر في ذروة مجده وألقه على أيدي أبي نواس وأبي تمام والمتنبي والمعري وغيرهم من شعراء العراق والشام وشمال إفريقيا والأندلس.
لقد كان الجواهري خلال مسيرته الشعرية المعطاء، بركانا من الشعر الفصيح، وكانت قصيدته جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية، تختلط بأديمها وتتمازج مع عواليها وتعبأ بعواديها، تتحسس العواصف وتستجيب للتطلعات. فكان هذا كله بمثابة نقلة استثنائية في وضع القصيدة العربية التي صارت تشمخ مع شموخ شعر الجواهري، وتتقدم جماليا مع وضوح مواقفه وتجاربه في الحياة، لتستقر في الوضع الذي ينبغي أن تكون فيه. وبسبب هذا وغيره، صار شعره لسان حال الجماهير والمعبِّر عن وجدانها والموئل الذي منه تستمد الجمال، ومن خلاله تنمي الوعي بواقعها حاضرا ومستقبلا.
حصدت تجربة الجواهري المقومات الحقة التي تجعل الشعر حيا نابضا يتجدد مع تجدد الأجيال، فكان أن تفرد وتفوق على الذاهب من الشعراء وعلى السائد منهم أيضا سواء في حياته أو بعد رحيله، ليكون آخر عمالقة الشعر العربي. ولم تكن الطريقة التي بها صنع الجواهري شاعريته بالهينة، بل هي حصيلة مران لساني وصقل معرفي وتحشيد نفسي مع ملكة أصيلة وموهبة سامقة، انقطع من أجل تنميتها – وهو في ريعان الصبا- انقطاعا تاما للقراءة حتى أخلص للشعر إخلاصا، معه تمكن من هضم منجز الشعر العربي كله من ألفه إلى يائه على سعة هذا المنجز وطول تاريخه. ومن ثم غدا ملتحما بالشعر بشكل نهائي، فلا يحتدم إلا به، ولا ينشدُّ انشدادا إلا إليه، حتى ملك ناصيته. فكانت القصيدة رهن بنانه، يطوعها كيف يشاء ومتى شاء، وأنى حل وارتحل.
ولقد أشار الجواهري في مذكراته إلى أنه كان يقرأ كل كتاب يقع بيده(كنت لا أدع كتاباً واحداً يفلت من يدي، وما أكثر هذه الكتب مترجماً ومنقولاً إلى العربية من أشهر كتاب الغرب: الأوباش لاميل زولا واللصوص لشيلر وابن الطبيعة لهايز باشييف ومذكرات حمار للكاتبة الفرنسية الشهيرة التي نسيت اسمها الآن ويخطر على بالي أن توفيق الحكيم استمد منها كتابه الجميل حمار الحكيم)
بهذا الشكل أخلص الجواهري للشعر تثقيفا وتهذيبا، وصارت الأصالة عنوانا دالا على ما لديه من مرجعيات، كانت تعمل بشكل جدلي ازدواجي، يتلاقى فيها دوما عنصران تكوينيان: الأول هو الذات والآخر هو الجمهور. وكانت كل واحدة من هذه المرجعيات عبارة عن تلازمية تعالقية فيها النص الجواهري، يؤسس لنفسه طرائق التقاسم الموضوعي أو التجاور الجمالي ما بين ذينك العنصرين أي الذات والجمهور، فهما اللذان يحددان له طبيعة التوظيف الاسلوبي والمكون الشعري. ويمكن إجمال تلك المرجعيات بـ: 1/ التلازم التراثي بين الديني والتاريخي و2/ المرجعية الابداعية ما بين الشعري والنقدي و3/ المرجعية الجنوسية بتلازم الثنائية الجندرية و4/ المرجعية الذاتية المتمثلة بالهوية انتماء واغترابا. وثمة مرجعيات أُخر، ساهمت جميعها في أن تجعل من الجواهري شاعرا كونيا، وتجعل من شعره شمولياً، يتعامل مع الأحداث العالمية والقضايا الوطنية والقومية تعاملاً انسانياً واحداً.
أضف إلى هذا ميزة خاصة بشعرية الجواهري وهي القدرة على الاستشراف المستقبلي الذي منح قصيدته الدوامية بوصفها لازمة جمالية من لوازم أي فعل شعري إبداعي والتي من خلالها تحاشت قصيدته المنوالية أي الثبات على منوال واحد معه، يكرر الشاعر نفسه. وواحدة من استشرافات الجواهري الخالدة ما كان يضمخ به العشرات من قصائده بالخطابات التي ترنُّ في الآذان قوية وهي تستنهض همم الشباب العراقي، واضعة فيهم الأمل ومحملة إياهم الرسالة باتجاه صنع غد جديد، لن يتحقق إلا بهم.
ولا شك في أن عظمة الجواهري هي في عينه الثاقبة في النظر إلى الماضي والمستحضرة للمستقبل تاريخا يقايضه الشعر بالتجدد وشاهدا يواكب الوثبات والانتفاضات والثورات، صوتاً لا يعرف الصمت، بل يعرف كيف يركِّز اللحظة ويختزلها وهو في لجة الاحتدام طارحا أفكاره الحرة ومواقفه غير اللينة، كاشفا عما له من ثقافة عميقة.
إن هذه المقومات والمرجعيات والاستشرافات التي ضمخت مسيرة شاعر الأجيال محمد مهدي الجواهري، استطاع نفر قليل من شعراء اليوم تدبرها، فأدركوا أن الوصول إلى الأصالة في عالم الشعر يعني الإخلاص له أيما إخلاص. ومن دون ذلك لا شعر ولا شاعرية، وإنما هو نفخ في قرب مثقوبة وهواء في شبك. مما نلمسه في كم كبير ممن يتسمون جزافا (شعراء وشواعر) وهم وهنَّ ليسوا كذلك بالمرة. وغالبا ما يتعكزون في هذه التسمية على ما لهم من وسائل لا شعرية؛ هي عادة ما تكون خدمية، يروجون من خلالها بضاعتهم الكاسدة. وكلما ازداد هؤلاء قوة وعددا، ابتعد الشعر أكثر، ليصير في المنأى بعيدا غريبا ومهجورا.
إن هذه الظاهرة جديرة بالتأمل وتحتاج إلى وقفات نقدية متأنية، نسائل فيها الشعر نفسه عن سبب هرولة المهرولين وراء التحلي بصفة(شاعر) ولماذا لا يكترث كثير من حاملي هذه الصفة أو يتفكروا في استلهام المقومات التي نصَّ عليه تاريخ الشعر قديما وحديثا، والمتجلية خير التجلي في تجارب الشعراء الكبار وفي طليعتهم الجواهري. ولعل أكثر الأدلة وضوحا على عدم الاكتراث واللاتفكر، أننا بالكاد نجد في هذه الكثرة من يمكن لنا أن نبحث في نصوصه عن تجربة أسست، أو موهبة صُقِلت، أو اكتساب أبان عن اكتراث بالأصالة.
من هنا يغدو استلهام التجربة الجواهرية، شكلا ومضمونا ومرجعيات، أمرا ضروريا لمن يريد أن يكون له موطئ قدم في عالم الشعر. وليس كما يتصور بعضهم من أن هذا الموطئ يُحصد ببساطة، بمجرد التصاق صفة الشاعر باسمه. ومن ثم لا قراءات ولا مثاقفات، وإنما هي مجموعة أسطر، ينشرها في جريدة أو مجلة ويصبح بعد ذلك شاعرا بالغصب والاحتيال.
هذا هو الوهم في استسهال فن الشعر، وما من خيار في إصلاح هذا الحال سوى باستعادة انجازات الشعراء الأصلاء الذين كان إخلاصهم للشعر وليس غير الشعر. وما استعادة تجربة الجواهري إلا استعادة لتجارب عمالقة الشعر وهو آخرهم. ففي شعره وسيرته نماذج للتدرب والمران والتزود بالإتقان واستلهام المرجعيات وجميعها مسائل لا غنى عنها لمن يروم الدخول في معترك الكتابة الشعرية؛ وبالشكل الذي يدعم الموهبة ويصقل البنيان ويهذب اللسان والوجدان. وهذا كله إخلاص للشعر الذي بدوره سيهدي قائله إلى الأصالة.
وكم من شاعر أبان عن موهبة، لكن عدم إخلاصه للشعر- بسبب مساعيه الى المغانم او تطلعاته الشرهة إلى المكاسب – جعل موهبته تذبل، وتجربته تتلاشى، وها هو اليوم “شاعر” بالاسم فقط.
ولشيوع هذا الحال، يقل الشعراء الأصلاء في راهننا الأدبي، ليستمر الجواهري علما في رأسه نار، يهدي نحو الشعر ويدل على سبل الإخلاص للقصيدة.
وليس غريبا بعد ذلك كله، أن يثير بعض فاقدي المواهب وقاصري التجارب بين الحين والاخر أسئلة خاوية وخابية: أين هو شعر الجواهري؟ وما الذي تبقى منه؟ لماذا تراجع أمام انجازات الشعر الجديد؟ معبرين بذلك عما في نفوسهم من الحقد والحسد لأولئك الشعراء الأصلاء، مسقطين ما في دواخلهم من حقيقة الانكسار والانطفاء وانتهاء الأجل الإبداعي. وإلا هل يمكن لأحد- أديبا كان أو غير أديب- أن ينسى الجواهري متنبي العصر الحديث وصاحب الشاعرية الحقة والحساسية المتدفقة بالفورة الجماهيرية والحماسة الشعبية التي تتجسد كل يوم في أشكال عدة من الرفض والانتفاض والثورة على الظلم والقهر والحرمان.
اقرأ ايضا
الجواهري فارس القوافي
رشيد الخيّونوعندما أكتب عن الجواهري لا يهمني كيف كانت حياته الخاصة الشخصية، إنما آخذ طبائعه …