فواز طرابلسي
على مدى نصف قرن انطلق زياد الرحباني في مسيرته الفنية من نتاج الرحابنة وفيروز، ليبتدع أسلوبه المميز وشخصيته المستقلة بما هو موسيقي عبقري ومسرحي عميق الموهبة وناقد اجتماعي وسياسي ملهَم وملهِم.
افتتح مرحلة جديدة من حياته وفكره وفنّه عندما انتقل من منزل الأهل في انطلياس الى بيروت الغربية مطلع العام ١٩٧٦ في احتجاج صارخ على حصار ميليشيات “الجبهة اللبنانية” مخيم تل الزعتر واعلان التضامن مع المقاومة الفلسطينية ومع مشروع اليسار والحركة الوطنية في نظام ديمقراطي علماني واجتماعي. بدأ مع صديقه السينمائي جان شمعون في برنامج يومي بعنوان “بعدنا طيبين، قول الله” على الإذاعة اللبنانية كان بمثابة نشرة اخبار بديلة من منظار نقدي ساخر ذي حساسية مفرطة لوجع الناس واحلام الشباب في التغيير عبّر في الآن ذاته عن قلق الناس وخوفها وسؤالها المحموم عن لقمة الخبز والأمن في كل صباح. توقف البرنامج عندما احتلت “قوات الردع العربية” مبنى الاذاعة فيما زياد وجان يصدحان بالغناء متحدّين القفلة المأساوية لـ”حرب السنتين”: “اختلط الحابل بالنابل/سورية تبعت لك ردع/ومصر تبعت فلافل!”
على مدى نصف دزينة من المسرحيات نجح زياد الرحباني في أن يصوّر التحولات المتسارعة لرسملة المجتمع اللبناني المتسارعة، وصولا الى انفجار الحرب، وتابع اطوارها، من منظور يساري انساني نقدي معارض التمييز والظلم الاجتماعيين. وكانت السخرية عنده الواسطة الأمثل لكشف المفارقات وتنفير التناقضات الاجتماعية في تلك اللحظة التاريخية المميزة. لم يكن نتاج زياد الرحباني الفني إسهاما يساريا متألقا في الثقافة اللبنانية والعربية والثقافة الشعبية وحسب بل كان التعبير الانجح عن الواقع المتحوّل ومخزونه المحتمل من أي خطاب سياسي.
مسرحية “نزل السرور” (١٩٧٤) استشرافية تروي قصة مجموعة ثوريين رومنطيقيين لا يلبثوا أن يرضخوا لِقَيم المجتمع التجاري الذي أرادوا تغييره. داخل “بار” في المدينة تحكي “بالنسبة لبكرة شو” (١٩٧٧) عن مجتمع ممزق بين وعود “الاعجوبة” الاقتصادية الرأسمالية والقيم الاجتماعية التقليدية، حيث يصطدم الحب الزوجي مع شبق الارتقاء الاجتماعي، والمصلحة المادية مع الكرامة الشخصية. يدخل لبنان الحرب في “فيلم اميركي طويل” (١٩٨٠) من خلال مصحّ للأمراض العقلية لستَ تدري فيه مَن العاقل ومَن المجنون بين انفلات غرائز المرضى والقمع الماضوي الاعمى الذي يفرضه المعالجون “الأصحاء” من أطباء وممرضين. ومن زمان الطائفية/طائفية في المسرحية هذه الشقلبة اللامعة للسرد الهوياتي النرجسي: “المحمودات مَسيحيّي شي؟/-طبعا، لا/ -اذا ليش بدنا نحبّن؟” معادلة انجبت منوعات عنصرية نرجسية متضخمة بعد الحرب على مقام “بيشبهونا/ما بيشبهونا”.
تروي “شي فاشل” (١٩٨٣) مغامرات مسرحي عاجز عن إخراج مسرحية على غرار قرية الرحابنة الاهل – ذات الغريب والكنز والأعجوبة – هي عبث المحاولة لبناء السلام بواسطة ايديولوجيا فولكلورية ماضوية هي ذاتها من مسببات الحرب. تختم “بخصوص الكرامة والشعب العنيد (١٩٩٣) تلك السلسلة في نقض لأغنية فيروز “بحبك يا لبنان” التي تمجد “لبنان الكرامة والشعب العنيد” المنتصر على الانقسام والحرب. هي مجموعة مشاهد عن عودة لبنانيين الى العصر الحجري، يعيشون في جوار اكلة لحوم البشر، على الاطعمة المعلّبة (المهربة وفاقدة الصلاحية) يناوبون على محاورة كمبيوتر عجائبي، كأنه يحمل برنامج ذكاء اصطناعي، عن معاني وترجمات لمفردات ومصطلحات واستعارات وحكم بلدية لبنانية. ولا تلبث احدى الاستعارات ان تتحول الى حقيقة عندما عندما الارض تنشق وتبلعهم!.
كتب جوزيف سماحة عام ١٩٩٣ عن اللبنانيين المنقسمين بين رفيق الحريري بالغ التفاؤل وزياد الرحباتي، بالغ الخيبة والتشاؤم. بالفعل تحول زياد وفنه إلى رمز للمشروع المضاد لإعادة الإعمار. لكنها فيما يتعدّى التشاؤم والتفاؤل، واصل الابتكار والتجريب في موسيقى لا حدود لها، من وحي الناس وللناس وإذا اغانيه ومسرحياته قد شكلت لغة الحال الجديدة. بواسطتها تعرّف جيل ما بعد الحرب بعضه إلى بعض فيما تجاوز خطوط التماسّ، تداولوا كلمة رفيق، بما يتعدّي معناه الحزبي. اكتشفوا الجنوب و”جمّول”. استمتعوا بالجاز الشرقي ورقصوا على الطرب المخبّل في “عُودك رنّان”. ومن احاديث المقاهي نقل زياد منوعات جديدة من الغزل (“بحبك بلا ولا شي” و”مش فارقة معاي”) ومن الحساسية المميزة تجاه حقوق المرأة وتحررها. لكنها لغة تقول في الآن ذاته هشاشة العلاقات البشرية لجيل يعلن بلامبالاة مكابِرة بحثه المأساوي عن الصدق وعن الانتماء لوطن شلّعه اقتتال الاخوة ولشعب تملك وحدته القدرة العجيبة على ان “تفرد” على الدوام. وبهذه اللغة وتلك الألحان حمل العديد من بنات وابناء لبنانيي ما بعد الحرب براءتهم ومضوا إلى ١٧ تشرين ٢٠١٩.
والاهم انه في الذروة من كل هذا الابتكار الموسيقي، اعاد الينا الملحّن زياد الرحباني تألق فيروز في اغاني جديدة.
هذا هو بعض من النتاج المتفرّد الذي يتركه لنا العبقري المشاغب زياد الرحباني وتلك هي حجم الخسائر بفقده.
وبعد، تضخمت الأموال المسحوبة من جيوب الناس واللازم ترجع لجيوب الناس
والفيلم الأميركي الطويل يمرّ بعرض جديد في غزة ولا حاجة للتفصيل.
اودعك، يا رفيق زياد، على أمل… لأنه بَعد… في امل.
باقٍ بفنّك وشخصك
وفيروز الام الحزينة
لها شعب كامل يعزّيها بِك ويتعزّى بها.
اقرأ ايضا
الموسيقى التي علّمتنا الشغب
طارق عسراويبرحيل زياد الرحباني، يُطوى فصلٌ فريد من تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، حيث التقت الموسيقى …