زياد الرحباني صانع الأمثال وخباز السخرية السوداء وجاز الانكسارات

شادي علاء الدين
رحل زياد الرحباني. كان يقيم معي في غرفة صغيرة على سطح المدينة، فيها بيانو عتيق ولغة جديدة وشتائم ونافورة قهوة. لم نكن وحدنا، بل نجحنا في أن نجر المدينة كلها إلى هذه الغرفة، فصارت تتوسع وتتوسع إلى أن صارت هي المدينة بكل ما فيها من أحوال وأخبار وصخب وضجيج وأمل وانكسار.
قيل اليوم إن زياد مات. لا أعرف إذا كان الخبر وصل إلى تلك الغرفة. يجب ألا تعرف كي لا تتقلص وتعود لتكون مساحة ضيقة لا تتسع لأحد، ولا تحضن الأصوات والتجريب والموسيقى والسخرية والرحابة، ولا تصلح لأن تكون بلادا أو وطنا أو أي شيء. لا بأس بالكذب في مثل هذه الحالة، بل قد يكون فعلا نبيلا للحفاظ على مساحة الجمال والموسيقى والحرية في المدينة التي وسّعها زياد لتحتضن الآمال والمخاوف والرغبات والمزاح وكل ما يجعل الناس أحياء وقادرين على الاستمرار والعيش.
سنقفل أبواب المدينة دون موتك يا زياد. لن نتركه يتسلل إليها ويغرقها. سندافع عنها بإحيائك إلى الأبد على طريقتك الخاصة، المضادة للأيقنة، والساخرة من فكرة الخلود. لقد سبق لك أن علمتنا الطريقة، وسنستعملها لكي نمنع رحيلك من الحدوث، بأن نسخر منه ونحوله إلى نكتة، كما كنت ستفعل في استقبال فكرة الموت.
سنخبر عنك ونتحدث من خلالك ونرويك، وسنهاجم السلطات بأدواتك، وسنقتحم زمننا البائس ببهجة جازك الشرقي، وسنعرّف عن أنفسنا بمسرحك، ونكتب بما فاض من أثر لغتك. ولكننا لن ننسخك، بل سنقيم خطوطا تتوازى معك. لن نقتلك بالنبوة الزائفة، بل بشجاعة الرغبة في التجاوز الذي يحتضن تجربتك ويتمثلها في الجديد والكامل والممكن.
نشأ مشروع زياد الرحباني من تصادم عاطفتين عنيفتين متضادتين، هما إعجابه الكبير بأهله وصورتهم، والرغبة الحادة في الاستقلال عنهم وتكوين صوته الخاص
كنت فعلت ذلك، أنت الذي نشأت في بيت مسكون بالصرامة والانضباطية والموسيقى والمسرح، تعرفت مبكرا الى فكرة المعمل وسلطة الأيقنة التي منحت لوالدك “الديكتاتور الموسيقي” والمسرحي الجميل، ولوالدتك السيدة فيروز التي جعلت مشروع الأغنية اللبنانية ممكنا.
تصادم عاطفتين
نشأ مشروع زياد الرحباني من تصادم عاطفتين عنيفتين متضادتين، هما إعجابه الكبير بأهله وصورتهم، والرغبة الحادة في الاستقلال عنهم وتكوين صوته الخاص. لم يكن مشغولا بقتل الأهل، بل بإقامة مشروع متواز معهم يتمثل خلاصة تجربتهم ويأخذها إلى أفق مغاير وجديد. نجح في ذلك بشكل باهر، ولم يكن مجرد رحباني آخر أو استئنافا مملا وتكراريا لتجربة الرحابنة، بل كان ذلك الآخر المتمرد الذي فهم حدود تجربتهما ومعانيها ومراميها وأحلامها وأوهامها، واعترض عليها باختراع أدوات مختلفة وجديدة وخاصة، ينتقدها بشراسة من دون أن يلغيها، ويقيم موازيا لها من زاوية التناقض والاختلاف، وليس التنويع على المنجز نفسه من زاوية الاعتراض.
لم يعترض زياد على منجز الرحابنة من داخله ومن قلب أساليبه ليكون مجرد مجدد ومطور، بل ذهب إلى القطيعة التامة، وبذلك كان مسرحه تفكيكا للأساطير ودفعا للواقع المر إلى الواجهة بفظاظة ومباشرة. لم يؤلف شخصيات، بل لاحقها ووثقها والتقط نبضها ولغتها، ولم يمسرح تلك اللغة، بل نظمها ومنحها إيقاعا وشكلا. كان دائما يلتقط السائد والمعروف والذي يبدو واضحا، فيعيد تعريفه بشكل مكثف وسهل وقابل للاستعمال والتوظيف والتحفظ والانتشار، فيبدو أنه اخترعه، فيصير عمليا صاحبه وينتسب إليه.
المؤرخ الشعبي الوحيد
لذا قد يكون المؤرخ الفعلي الشعبي الوحيد المعترف به لفترة الحرب الأهلية وما تلاها، بكل ما يضطرم فيها من عناوين الطائفية والعداوات والجنون وأثر الحرب والعلاقة مع التراث والأوهام والحدود بين المناطق والسيكولوجيا والخيارات الصعبة والمستحيلة التي يلجأ إليها الناس، واليأس والخراب، وكل ذلك. ولف كل تلك العناصر في بناء مسرحي يحتوي الهشاشات ويبرزها بعنف تعبيري شديد جديد وغير مألوف. ففي مقابل التنظيم الانضباطي الصارم وشبه العسكري لمسرح الأخوين رحباني، والذي يمكن من مشاهدته تلمس أثر التوجيه الصارم لعاصي ومنصور في الوقفات والحركات والديكورات وطريقة التمثيل، وفي طبيعة النصوص نفسها والبنية الغنائية التي تطغى على الحوار، فرش زياد مسرحا فوضويا بريا، فقيرا بالديكورات، وأدخل فيه ممثلين غير محترفين، وركب بناء نصيا شوارعيا يحفل بالعنف والبذاءة، والأهم من ذلك بانعدام البطولة.
يمجد ذلك المسرح، الانكسار والهشاشة والمهزومين الذين يجاهدون للتحايل على ما يفوق طاقاتهم، مثل الحرب والفقر وحتى التراث نفسه، الذي يحضر ثقيلا في هيئة تشبيحية أشبه بالميليشيوي المسلح والغاضب وغير المتزن.
استولد ذلك الصراع كذلك فيروز جديدة لم تكن ممكنة الوجود داخل منطق الأخوين رحباني. لقد ساق فيروز من السماء إلى الأرض، فصارت شبيهتنا وقريبتنا بلغتها وكلامها وموسيقاها التي قدمها لها زياد. “كيفك إنت” كانت أبرز علامات هذا النزول، لغة وموسيقى وغناء، وفيها غادرت عالم الكنايات والبلاغات والشعرنة المفرطة لكل شيء، لتسكن في عالم يتبنى شعرية رائقة، أليفة، أرضية، مباشرة، حية، واقعية، والأهم من ذلك أنها تستعمل اللغة اليومية العادية وتزج بها في الأغنية، كما أنها تفتح موضوعا غير مسبوق في تاريخ الأغنية العربية، وهو الحبيب المتزوج، والذي صار “عندو ولاد”. تدافع الأغنية عن نوع من العاطفة المهزومة، تتبنى رقة الذكريات من دون أمل ولا ألم، مع رشة بريئة من الغزل الذي يبدو مسروقا وعابرا، بينما يبقى الأساسي هو السؤال عن الأحوال بما يتضمنه من هدوء واعتراف بالواقع من دون لوعة.
وفي أغنيات كثيرة دخل الزعل والملل، وكذلك المقاربات الساخرة بين الأمس واليوم، وبين “الكميون” الذي كان رائقا وموزونا بينما بات اليوم مجنونا، وانفتحت فيروز كذلك على التعبير عن رفض الحب كله: “تمرق عليّ، اْمرق، ما بتمرق، لا تمرق”، مقدمة بذلك ولادة جديدة لها كنجمة معاصرة، مع الاحتفاظ بهالتها القديمة. لقد صنع زياد لوالدته تراكما فنيا جعل منها نجمة عابرة للأجيال والأذواق والأزمان، وربما قد يكون من دون رغبة منه قد ساهم في تمكين أيقنتها التي كان يعترض عليها، ولكنه في كل الأحوال جرّ صورتها إلى مقام أرضي مشبع بالعادي والواقعي.
موسيقى الجاز
وفي مشروع الجاز الشرقي، يستكمل زياد البناء على الهش والخسارات. بالنسبة اليه، وكما يعبر في أحد حواراته، فإن الجاز هو موسيقى الذين لم يعودوا يملكون ما يخسرونه. ومن هذا التعريف، كان مشروع الجاز عنده يتكامل ويتآلف مع خطابه المسرحي، ويستكمله ويفتح كذلك على المجال السياسي والطبقي.
وقد حرص على ملاءمة دلالة الخسارة وتضمينها في قلب البنية الموسيقية لمشروع الجاز، فصارت عمليا عنصرا تأليفيا، وليس مجالا تأويليا يمكن أن يحتمل إحالات لا تحصى، بل أمسك بالدلالات من خلال العناصر والخيارات التي تشكل مادة الشغل على موسيقى الجاز الصرفة أو تلك المتآلفة مع نصوص أغان تستحضر معاني الهشاشة والانكسار، وتعاين المرارات بسخرية، وتمارس الهجاء السياسي والنقد الاجتماعي بنوع من السخرية الشرسة والمصبوبة في قالب سلس يسهل الانتشار والذيوع.
لذا حفلت موسيقى الجاز عنده بعناصر خاصة يسهل التعرف اليها، تتجلى في أنه لم يستدمج موسيقى غربية في إطار شرقي، بل ولد نوعا من الصراع والحوار المفتوح بينهما، ومزج بين مقامية شرقية تؤديها آلات العود والبزق، وبين عناصر الجاز الميالة إلى الارتجال وتوظيف آلات النفخ الغربية.
لذا سيطر النقص واللااكتمال كنظام داخل تجربته في الجاز، وهو شكل لا يتعارض مع الجهد الكبير الذي يتعامل فيه زياد مع عمله الموسيقي، بل يتركه يتبلور كخيار قصدي مشرع على استخدامات خاصة للارتجال المقامي والإيقاع المتقطع والمنهك وحوار الآلات. جرّ ذلك الجاز وفق توليفة زياد لأن يكون حاملا للفوضى والتناقضات، ومشبعا بالسياسة، ومنحازا إلى الخاسرين والخارجين على التنميط والاعتراف. جرّه من الصالونية إلى الشارع والمطعم والتظاهرة والكلام اليومي، فصار موقفا مكتمل الأركان، يعيد تمركز هذا النوع في الموسيقى في مجال تعبيري نافر ومشاغب وحافل بالتوتر والقلق والتحدي والسخرية.
المؤثّر الكبير
ذلك النهج أثّر في حشد كبير من الموسيقيين الذين يمكن تلمّس أثر زياد على موسيقاهم، وعلى طبيعة مشروعهم بحد ذاته، حتى إذا كان ينتمي إلى منطقة موسيقية مغايرة، وإلى تجربة شديدة الاختلاف والتناقض مع ما جاء به. أثر زياد، يكمن قبل كل شيء في منطق التعامل مع العمل الفني ككل، وفي دفع التجريب والتحدي وكسر الأنماط والأعراف والمرجعيات إلى الواجهة. ينهل الموسيقيون الشباب من التأسيس الصلب الذي قام به لكل تلك العناصر، والذي منحها ملامح وصفات ومناهج. لذا، وعلى الرغم من ظهور كثير من المستنسخين الرديئين لزياد، والذين يفتقرون إلى أدنى المعايير الفنية، نشأت مدارس فنية ومشاريع وخيارات تتبنى التمرد والتجريب، مثل “مشروع ليلى” و”كايروكي” وفرقة “الراحل الكبير” وغيرهم. لا ينتمي كل هؤلاء إلى نموذج موسيقي واحد، ولا يتبنون نهج زياد في مشروع الجاز، ولكنهم يتبعون خطاه في ما يخص التمرد والتجريب وبناء لغة غنائية وموسيقية لا تردد صدى السائد، بل تخترقه وتسفهه بحثا عن آفاق جديدة للقول والتعيش والتعبير.
ويمكن كذلك تلمّس أثر لغته ومنطقه في مجال قد يبدو بعيدا جدا عنه، ولكن يمكن ملاحظة مدى تأثيره في تكوين مناهجه، وهو المجال الذي انفجر بقوة في هذه الفترة، وأعني به مجال الراب والتراب والموسيقى الإلكترونية وموسيقى المهرجانات. لغة الراب تتحدث عن المحظور والممنوع وغير المعترف به، وتقدم بأصوات تتمرد على منطق الغناء الشرقي وأصوله، وتذهب إلى تبني الرداءة الصوتية كنسق احتجاج ورفض، وتدفع به إلى الواجهة كنمط جمالي جديد ينسجم مع المواضيع الممنوعة التي تروي قصص الحب الخائب، والإدمان، والهزائم، والفقد، والاكتئاب، وانهيار الروابط الاجتماعية. وفي منطق المهرجانات نعثر على تلك الاحتفالية الزقاقية اللاهية والساخرة والمضطربة، وحتى في نتاج فرقة “كايروكي” نعثر على نمط جديد من “الروك”، بتعبير موسيقي جديد، وكلام يتحدث عن العواطف الممزقة في زمن التسليع، ويبني خطط الفرار والهروب والاحتجاج والغضب، وكذلك تستعيد فرقة “الراحل الكبير” بعد النقد السياسي والاجتماعي عنده وتوظفه في إطار جديد وحي.
ونتلمّس أثر زياد في نتاج الموسيقي الفلسطيني الشاب فرج سليمان، وفي كثير من المسرحيات والأفلام والبرامج، وحتى في المقالات والأعمال الأدبية، ويتجلى بشكل أكثر وضوحا في عروض “الستاند آب كوميدي” التي راجت في الفترة الأخيرة في لبنان والمنطقة، بوصفها النسق الأكثر تعبيرا عما لا يقال، وعما لا يمكن ضبطه. نتلمّس ملامح تجارب كوميدية شابة تحاول بناء خطوط موازية للخط الذي فتحه زياد، مستفيدة من تجربته ومناهجه لتصميم نصوص ذكية، تقارع السلطات وتسخر منها، وتفكك صلابتها بالهزء السيّال المنتشر والسهل الحفظ.
لقد صنع زياد لغة صارت بمثابة الأمثال، وباتت أشبه بالتراث الشفهي، فكان مؤرخ البلاد الموثوق به الذي نعود إليه لنعرف ماذا جرى حقا، وماذا سيجري لاحقا.
· عن مجلة المجلة

اقرأ ايضا

الموسيقى التي علّمتنا الشغب

طارق عسراويبرحيل زياد الرحباني، يُطوى فصلٌ فريد من تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، حيث التقت الموسيقى …