زياد الرحبانى.. “دايما فى الآخر فى وقت فراق”

سيد محمود
عكس غياب الموسيقى اللبنانى زياد الرحبانى (69 عاما) أول من أمس حالة فقد شاملة يندر تكرارها فى عالمنا العربى، وكشفت تعليقات المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعى المكانة الاستثنائية التى احتلها لدى جمهوره، كما بددت الاتهامات التى لاحقته طوال حياته كموسيقى نخبوى وثبت للجميع أنه كان شعبيا للدرجة التى لم يتصورها أشد الناس إيمانا بموهبته الأستثنائية.
بدا واضحا أن زياد ظل حاضرا فى الوجدان رغم انسحابه الإرادى من الساحة لأسباب ارتبطت دائما بشعوره بشيء من الخذلان العام بعد تدهور الأوضاع السياسية فى العالم العربى، فقد حرص طوال مشواره على أن ينظر لمسرحياته وموسيقاه بوصفها مشروعات مناهضة لمختلف صور التردى، كما لم ينكر فى أقصى محطات نجاحه نزعته اليسارية الرافضة الأمر الواقع والداعية إلى تغييره.
اختلطت فى وداع زياد الرحبانى إشارات عديدة من الحزن والأسى، وذهبت الإشارة الأولى إلى والدته السيدة فيروز التى تعانى (فقدا متأصلا) طال قبل زياد ابنتها ليال، كما أن ابنها (هالي) الذى ولد معاقا وعاش سنوات حياته على مقعد متحرك يعانى البكم والإعاقة إذ لم يتبق لفيروز من نسلها المباشر سوى ابنتها (ريما(.
وعزز غياب زياد المباغت من الأسطورة المرتبطة بالعائلة الرحبانية التى على الرغم من النجاح الذى عاشته لا تزال مطاردة بلعنة تراجيدية على نحو ما.
من جهة أخرى سعت رؤى عديدة لتفسير غيابه خلال أعوامه الأخيرة إذ عاش منسحبا فى أجواء من الاكتئاب ولم تكن عزلته، ثم مرضه سوى الرد الطبيعى على المآسى التى شهدها خلال العقد الأخير سواء فى لبنان أو سوريا أو فلسطين.
وفى مواضع كثيرة أشار المحيطون به إلى أنه توقف إراديا عن تعاطى أدويته إذ عانى بخلاف الاكتئاب مشكلات فى الكبد وتردد فى إجراء بعض العمليات الجراحية بحسب إشارة وزير الثقافة اللبنانى غسان سلامة.
وكما هى العادة كان الموت مناسبة لتسليط الضوء على مشروع زياد الذى عرف تحولات مختلفة تراكمت فوق موهبة استثنائية بدأت من سنوات مراهقته ووضعته فى خانة “العبقرية الموسيقية” وهى خانة لم يستسلم لها قط فظل مغامرا ومجربا طوال الوقت.
فى مراهقته أنجز الراحل تأليفا وموسيقى كتابة مسرحيته الأولى “سهرية” وهو بعمر الـ17، وفى العام نفسه وضع لحنه الأول “سألونى الناس” التى وضع كلماتها عمه منصور، وأدتها فيروز تحية لوالده عاصى الذى كان يعالج آنذاك فى المستشفى من جلطة دماغية.
وواصل اشتغاله القوى على العمل فى المسرح اللبنانى الذى شهد آنذاك طفرة جمالية عكستها تجارب روجيه عساف ونضال الأشقر وعصام محفوظ. وفى عام 1974 ظهرت مسرحيته الثانية “نزل السرور” التى أكدت هويته الذاتية بمعزل عن محيط العائلة ثم جاء التحول الجذرى فى موهبة زياد خلال سنوات الحرب الأهلية فى لبنان التى مثلت أفقا مثاليا لكسر التوقعات وتغيير المسار الهادئ الذى كان من المتوقع أن تمضى فيه موهبته كامتداد للعائلة الرحبانية.
فى تلك السنوات تحول زياد إلى مؤسسة متكاملة وإلى مصنع له خطوط إنتاج مختلفة تكاملت فيها أدوار المؤلف والشاعر والموسيقى والممثل والمخرج ورأى فى صوت جوزيف صقر فضاء تعبيريا حرا مكنه من بناء مشروع لشراكة استثنائية تحولت فيما بعد إلى أيقونات للتمرد امتد تأثيرها إلى خارج لبنان فى وقت كانت فيه ثورة صناعة الكاسيت تيسر من عمليات النسخ والتبادل تقاوم مختلف صور الحصار الرقابى الذى لم يعرفه لبنان إذ ظل فى ظل أجواء الحرب يتسم بالتعددية وحرية الإعلام.
مكنته أجواء الحرب وصراعات الأيديولوجيات والفصائل السياسية من بناء صورة أخرى للفنان الملتزم وهى صورة سبقتها إليه تجارب الثنائى أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام ومن قبلهما سيد درويش الذى مثل مع زكريا أحمد وفيلمون وهبى مصادر إلهام استثنائية وانحاز زياد فى تلك التجارب لنبرتها التهكمية وطابعها الكاريكاتيرى الساخر الذى عمل على تطويره فيما بعد.
يشير الباحث الأمريكى كريستوفر ستون مؤلف كتاب (الثقافة الشعبية والوطنية فى لبنان) إلى أن زياد فى مسرحياته (نزل السرور، شى فاشل، فيلم أمريكى طويل) تمرد على الطابع المثالى الذى كانت تعبر عنه مسرحيات الأخوين رحبانى وفيروز لأنه كان مسرحا يعبر عن تصور فانتازى يوتوبى عن لبنان واحد وليس عن لبنان المتعدد لغويا وطائفيا، ومن ثم فإن حوارات مسرح زياد بنبرتها التهكمية حاولت استرداد التعددية الصوتية التى تسم لبنان الأكبر كما فى مسرحيته الشهيرة (نزل السرور).
ابتكر الرحبانى الصغير فى مسرحه ما تحتويه اللغة اليومية من انعكاس عميق فى النفوس والعقول ويجلب الإمتاع والعاطفة التى عبرت بشخصياتها القادمة من أصول متعددة عن صورة للبنان لابد من الحفاظ عليها ودعمها، كما سخرت فى فقراتها المكتوبة بفصحى أقرب إلى كلاشيهات من نمط المثقف الحنجورى وهو ذاته الذى كان موضع نقد وسخرية أحمد فؤاد نجم “مزفلط محفلط، عديم الممارسة، عدو الزحام”.
على الرغم من نجاحه فى المسرح فإن الجمهور المصرى لم يتواصل مع تجاربه ربما لأنها لم تكن متاحة إلا من خلال عمليات نسخ أشرطة الكاسيت وهى عملية اقتصرت على النخب ولم تمتد للجمهور العادى.
كما كانت تلك الأعمال تبث من إذاعة صوت الشعب فى بيروت ولم يكن من السهل التقاط موجاتها خلال السبعينيات والثمانينيات لكن معرفة الجمهور الواسع بإنتاج زياد جاءت من خلال أعماله الغنائية التى تواصلت مع فيروز منذ ألبوم “وحدن” ثم تواصلت فى “معرفتى فيك ـــ عودك رنان -شو بخاف” وظلت كلها تجارب مقبولة محافظة على المسار الرحبانى رغم تطعيمها بثيمات من الجاز بمختلف أنواعه وموسيقى البلوز والموسيقى الكردية، إلا أن الانقسام الأكبر جاء مع ألبوم “كيفك أنت 1991” فقد انقسم جمهور فيروز إلى فئة مؤيدة لهذا الطابع المعاصر الذى قدمه زياد وفئة أخرى رافضة له تماما إلا أن فيروز ساندت التحول واستكملته فى أعماله التالية “تحية إلى عاصى” ثم “مش كاين هيك تكون” وأخيرا “إيه فى أمل” وظل رهانها صحيحا فقد تقبل جمهورها تلك التجارب وتآلف معها تماما.
رغم أن زياد كسر فيها الغلالة الشفافة التى رسمها أهله لصورة المرأة التى تمثلها فيروز واستبدل بها صورة امراة واقعية حقيقية راسخة فى المكان والزمان كما تشير إلى ذلك الناقدة السورية حنان قصاب حسن التى ترى أن هذه المرأة صارت أقرب إلى صورة العصر فأصبحت امرأة قادرة على وصف حالها وإعلان تمردها كما لم يعد الرجل عاشقا رومانسيا بل يمكن أن يكون غليظا وغارقا فى الحب.
تقول قصاب: “إن العالم الذى رسمه زياد ظل عالما واقعيا متعبا مثقلا بالمشكلات ويهيم عليه ضيق البيوت كما فى أغنيته “أوضة منسية فى الليل”.
كانت تجربة زياد مع فيروز هى خطوتها الأهم فى اتجاه الخروج إلى الأجيال الجديدة انسجاما مع “الشعرية الجديدة” التى كانت تنمو فيما يسمى “شعرية التفاصيل الصغيرة”.
بتعبير الناقدة اللبنانية خالدة سعيد فى كتابها “يوتوبيا المدينة المثقفة” فإن تجربة فيروز مع زياد كانت وصلا مع تراث الرحبانية ثم انقطاعا عن محتواه الرومانسى، فقد استطاعت استقبال ابن غادر يوتوبيا الأب وقبض على العالم المتحول فى إيقاعه الجديد.
دخلت فيروز مختبر زياد فى صفقة واضحة المعالم نجح زياد فى إزالة الطبقة الأسطورية عن فيروز ودفعها فى اتجاه اللعب المجانى بينما نجحت هى فى خرق مشروعه وإلقاء الظلال الشعرية حوله والإسهام معه فى تعرية الحياة وإبراز شغب الواقع وصعوبته فى خلطة سحرية تضمنت التهكم والمحاكاة الساخرة والصورة الكاريكاتيرية لأن رهانها هو شعرية الراهن وهو ما يفسر الشعبية التى نالتها أغنيات زياد فى السنوات الأخيرة، إذ تحولت أغنيته (بلا ولا شى) إلى نشيد معبر عن عدمية اللحظة وتحول معها إلى أيقونة جيل محاصر بشتى صور الإحباط.
زار زياد الرحبانى مصر فى مناسبات فنية جاءت كلها فى صورة مبادرات لمهرجانات خاصة ومستقلة كان أبرزها دعوة مهرجان القاهرة الدولى لموسيقى الجاز التى جاءت بمبادرة من مدير المهرجان الفنان عمرو صلاح إذ عزف فى حفلات جماهيرية استثنائية فى ساقية الصاوى (2010) وحديقة الأزهر(2013) بمشاركة مجموعة من العازفين المصريين أبرزهم عازف العود حازم شاهين وعازف البيانو عمرو صلاح.
وخلال زيارته الأولى فى عام 2010، نظمت له مؤسسة الأهرام ندوة مفتوحة شهدت مشاركة من جمهور واسع، وطاف بعدها صالة التحرير وتعرف على تاريخ الأهرام وحصل على هدية تذكارية نسخة من العدد الأول للأهرام.
وخلال زيارته الثانية فى 2013 صور مجموعة من البرامج التليفزيونية وشاركته فى الغناء المطربة شيرين عبده فى حفلات أخرى خارج مصر.هكذا كان زياد وهكذا كانت مسيرته، ولكن كما تغنت فيروز يوما: “دايما فى الآخر فى وقت فراق”.

اقرأ ايضا

زياد الرحباني في أرض المستحيل.. فسحة المسرح من أجل الموسيقى

عبيدو باشاحين نهى عاصي الرحباني ولده عن الدخول في القوافل الشاردة في حزب الكتائب اللبناني، …