الموسيقى التي علّمتنا الشغب

طارق عسراوي
برحيل زياد الرحباني، يُطوى فصلٌ فريد من تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، حيث التقت الموسيقى بالموقف، واختلطت النغمة بالمبدأ، واتخذت الأغنية شكل بيان سياسي منحاز للعدالة والحرية، وفي مقدّمته فلسطين. بل اتخذت أكثر من كونها مجرد بيان سياسي، وتعدّت الأمر بمسافات ومراحل كثيرة، فكان زياد المتحالف مع الحب في وجه الكراهية، والمجدّد فنيًّا، والمشتبك مع الحب، والمتمرّد الرعوي الذي نحب، زياد الذي يشبهنا ونشتهي أن نشبهه.
لم يكن زياد مجرّد امتداد لمدرسة الرحابنة، بل انشقّ عنها مبكراً، بمزاج يساري صريح، ورؤية عروبية جذرية. امتلك منذ بداياته حساً نقدياً حاداً، لا يساوم، ولا يهادن، ولا يقبل التجزئة في الموقف. انحاز إلى القضية الفلسطينية بوصفها مركزاً أخلاقياً للصراع، لقيمة الحرية في مكوّن الإنسان، لا كقضية تضامن موسمي. ظلّ واضحاً في رفضه للاحتلال، وللتطبيع، ولكل أشكال التواطؤ السياسي أو الثقافي مع المشروع الصهيوني، معتبراً أن الفن، حين ينفصل عن القضايا، يتحوّل إلى ترف فاقد للمعنى.
في مسرحه، كما في موسيقاه، ظلّ صوت المقموعين حاضراً: من المخيم إلى الزنزانة، ومن القمع السياسي إلى فساد النظام والقبيلة. ووسط هذا كله، ظلّت فلسطين الثابت الذي لا يتبدّل. لم يختفِ حضورها في أعماله، بل كان يتسرّب في التفاصيل، وفي النبرة، وفي الخيارات الجمالية ذاتها.
بالنسبة إليّ، كانت البداية مع زياد حين سمعت مقطوعة “أبو علي” وأنا فتى لم أتجاوز الخامسة عشرة. لم أفهم كل أبعادها آنذاك، إنما كنت الفتى المبهور بغابة موسيقيّة، يشده شغب الناي، ومشاكسة المقام الموسيقي، بألحانها المتوترة، ونبضها الآتي من زمن المقاومة. منذ ثلاثين عاماً وأكثر، بقيت “أبو علي” ترافقني كعلامة فارقة، وستبقى: بوابة دخولي إلى عالم زياد، ومفتاحي لفهم موقفه الجوهري من الفن والسياسة.
رحل زياد، وبقي إرثه الثقافي شاهدًا على أن الانحياز إلى فلسطين ليس خياراً فنياً، بل موقف مبدأ لا يقبل التأويل، وفي هذا الرحيل خسارة للإبداع، وفقد لمناضل عنيد، سيشعرنا غيابه بالفراغ، فثّمة غياب لا يمكن استدراكه، أو تعويضه.
· عن الاخبار اللبنانية

اقرأ ايضا

زياد الرحباني في أرض المستحيل.. فسحة المسرح من أجل الموسيقى

عبيدو باشاحين نهى عاصي الرحباني ولده عن الدخول في القوافل الشاردة في حزب الكتائب اللبناني، …