وصال عبد العزيز محمد
حين شكل توفيق السويدي وزارته الثانية في 23 شباط 1946 جاء في منهاجها ضرورة تعديل معاهدة عام 1930 وتحسين العلاقات العراقية- البريطانية ثم تلت وزارة السويدي وزارة ارشد العمري الاولى ثم وزارة نوري السعيد التاسعة، ثم شكل صالح جبر وزارته الاولى في 29 اذار 1947. فجاء في منهاجها انها ستعمل على تعديل المعاهدة العراقية- البريطانية على اساس المصالح المتبادلة بين الند للند وتألفت لجنة للتفاوض في بغداد ثم لندن وتقررت المواد الواجب ادخالها في المعاهدة. وفي 28 كانون الاول 1947 اقترح نوري سعيد دعوة بعض النواب و الاعيان الى قصر الرحاب للاطلاع على ارائهم في المواد المطلوب تعديلها واطلاع الرأي العام على المفاوضات والمذاكرات حتى لايفاجأ به عن طريق الصحف الاجنبية وتحقيقا لهذين الغرضين تم عقد الاجتماع ضم مايقارب عشرين شخصية سياسية كان عبد العزيز القصاب واحدا من تلك الشخصيات.
وكان رأيه في عقد معاهدة جديدة ان تأخذ بنظر الاعتبار”مصلحتنا الوطنية فوق كل اعتبار اخر ومن الواضح حتى الان ان معاهدة 1930 لم تعد متلائمة مع وضع العراق الحالي فقد عقدت في وقت كان العراق يسعى لنيل الاستقلال والانتساب الى مجموعة الدول الممثلة في عصبة الامم ثم ان ميثاق هيئة الامم المتحدة قد جعل الدول صغيرتها وكبيرتها في موضع واحد كما اعطى نفس الحقوق الى الدول الموقعة عليه، لقد شعر العراق منذ مدة طويلة بالحاجة الى التحرر من قيود هذه المعاهدة، فتردد في مناهج الوزارات وعلى السنة المسؤولين ان هدف العراق من عقد المعاهدات يجب ان يكون تبادل المصالح على قدم المساواة والانطلاق من الاغلال التي فرضتها المعاهدة السابقة، ونحن نستطيع ان نعتبر وجود معاهدة 1930 وكل معاهدة ابرمت قبل ميثاق الامم المتحدة متنافية مع الاتجاهات العالمية الجديدة وان قيام الصداقة بين الدول لايصح اذا لم ينبعث عن اعتقاد صادق، وشعور بالثقة وتبادل في المصلحة، ومن اجل هذا اعتقد ان مصالحنا الوطنية ورغائبنا الشعبية وايماننا بحقنا هو الذي سيقرر علاقتنا الدولية بعد اليوم.
وبعد مداولات دامت بضع ساعات اجمع الحاضرون على ضرورة عقد معاهدة تحالف مع الحكومة البريطانية. وفي 5 كانون الثاني 1948 اوفد مجلس الوزراء وفدا إلى لندن يمثل العراق وخوله صلاحية التفاوض لتعديل المعاهدة بحسب الاسس التي اقرها مجلس الوزراء. وعلى اثر التصريح الذي اصدره وزير خارجية العراق فاضل الجمالي لتعديل المعاهدة العراقية- البريطانية قام طلاب كلية الحقوق والمعاهد الاخرى بمظاهرة سلمية القوا فيها بعض الخطب والهتاف بحياة فلسطين لكن السلطة استعملت القوة ضد الطلبة و المتظاهرين فحدثت مصادمات بين الطلبة والشرطة وعندما توصل الوفد الى عقد معاهدة بورتسموث ووقع عليها في 15 كانون الثاني 1948 واعلنت المعاهدة في بغداد في 16 كانون الثاني 1948 وكان عبد العزيز القصاب رئيسا للمجلس النيابي في ذلك الوقت.
حتى بدأت المظاهرات الصاخبة. ففي صباح 21 كانون الثاني 1948 عندما ذهب الطلبة الى المعهد الطب العدلي في المستشفى لاستلام جثث الشهداء وتشييعهم داهمتهم الشرطة واطلقت النار عليهم داخل المستشفىطالب عبد العزيز القصاب مع صادق البصام وكيل رئيس مجلس الاعيان من هيئة مجلس الوزراء بايقاف التصادم وفك الحصار عن الكلية لكن الوزراء رفضوا طلبهم بدعوى انهم مسيطرون على الاوضاع ووجه اليهم سؤلاً عما اذا كانوا سيوافقون على اعلان الادارة العرفية اذا اقرتها الوزارة فاجابهم عبد العزيز القصاب وصادق البصام بان ذلك من صلاحية الوزارة وعليهم تقدير الموقف والسيطرة عليه وسيكونون مسؤولين عن ذلك امام المجلس.ويذكر عبد العزيز القصاب قائلا” اني لاحضت غمزا وهمسا تبودل بين جمال بابان ووزير الداخلية توفيق النائب علمت بعدها انه كان حول ولدي الدكتور عبد المجيد نائب بغداد والذي صادف انه كان موجودا في كلية الطب في اثناء تأزم الموقف وشاهد بعينيه اطلاق النار على الطلبة فاتصل بوزير الداخلية من احد مختبرات الكلية راجيا منه ان يأمر الشرطة بالانسحاب كشرط لرجوع الطلاب الى صفوفهم لكن الوزير رفض الطلب متهما ولدي بالتحريض على الحركة وتزعمها”. دفعت تلك الاحداث عميد كلية الطب هاشم الوتري.واساتذة كلية الطب والصيدلة الى تقديم استقالتهم احتجاجا على هذا العمل. وفي 21 كانون الثاني 1948 امر الوصي بدعوة هيئة الوزارة وبعض ساسة البلد ومن بينهم عبد العزيز القصاب وافتتح الجلسة طالبا من الجميع ابداء رأيهم حول تعديل المعاهدة والحوادث التي وقعت بسببها في كلية الحقوق وكلية الطب ليس بصفتهم حكومة او معارضين بل بصفتهم مواطنين. فأبدى عبد العزيز القصاب رأيه قائلا” اشكر سموكم على اهتمامكم بالموضوع، بالنظر لما وقع من الحوادث بسبب المعاهدة نستدل ان هناك هيجاناً وتحمساً شديداً ضدها كما صرح الجميع وان هذا الحس وهذا الشعور هو عمومي “واضاف قائلا “بلزوم اصدار بيان للشعب بالتطمين اما باعادة النظر بالمعاهدة واما بدراستها، واما بالنظر فيها… ذلك لتطمين الشعب ولاجل اسكاته وعدم تهيجه الذي يخشى منه التهيج اكثر وانتم احرص على الشعب والبلاد.
وفي مساء 21 كانون الثاني 1948 امر الوصي بصدور بيان من رئاسة التشريفات الملكية يتضمن وعدا صريحا من الامير بعدم ابرام معاهدة لاتضمن حقوق البلاد وامانيها الوطنية، قابل رجال السياسة ومن بينهم عبد العزيز القصاب البيان بالاكبار والاعجاب فتكلم عبد العزيز القصاب قائلا” لقد دل رأى حضرة صاحب السمو الملكي الوصي وولي العهد المعظم الذي تضمنه بيان التشريفات الملكية على عاطفة هاشمية سامية في العطف على ابناء شعبه الكريم وبره بهم وشفقته عليهم. وقد حقن البيان دماء الشباب وابناء الامة الاخرين وكان في شكله بلسما لقلوب المخلصين واني اتضرع إلى الله ان يكلأه بعين عنايته ويحفظه للعراق والعرب اجمعين.
وقف عبد العزيز القصاب ضد معاهدة بورتسموث فبعد محاولة المتظاهرين عبور جسر الملك غازي (جسر الشهداء) من جانبي الرصافة والكرخ اصدر وزير الداخلية توفيق النائب الى مدير الشرطة العام بتهيئة قوة من الشرطة وتجهيزها بالاسلحة وعندما حاول المتظاهرون عبور الجسر من كلا الجانبين اطلقت الشرطة النار عليهم فسقط العديد من القتلى والجرحى. وعلى اثر تلك الحوادث الدامية التي وقعت عند جسر الشهداء قدم عبد العزيز القصاب استقالته من رئاسة المجلس النيابي وعضويته ايضا احتجاجا على الوضع. وفيما يأتي نص الاستقالة التي تدل من مضمونها على تمسك عبد العزيز القصاب بحقوق وطنه ومواطنيه ” حيث ذكر فيها “بناء على الظلم والقسوة التي حدثت من قبل رئيس الوزراء وزملائه تجاه الشعب وبناء على الضحايا الكثيرة التي وقعت من افراد الشعب بسبب ابرام المعاهدة العراقية- الانكليزية المجحفة بحقوق الشعب فأني اقدم استقالتي من رئاسة المجلس ومن النيابة ايضا. وعقيب ارسال كتاب استقالته إلى الوصي صرح لصحيفة الزمان”ان الوضع الذي تشهده البلاد هو فريد بنوعه وان السر هنري دوبس المعتمد البريطاني بجبروته وتعسفه لم يستطع ان يفعل مافعله رئيس الوزراء في الشعب العراقي هذا اليوم واصبح الموقف حرجا للغاية” واضاف “بانه لايستطيع تحمل اية مسؤولية بعد الان. وكان لتلك الاستقالة والموقف الشعبي الرافض والمظاهرات الصاخبة دورا مهما في اسقاط حكومة صالح جبر وفي رفض المعاهدة الجديدة(.
وعلى اية حال طالب الوصي بعد ذلك من عبد العزيز القصاب الذي بقي نائبا عن بغداد بعد استقالته من رئاسة المجلس اقناع محمد الصدر. بتأليف وزارة جديدة فضلا عن معرفة مطاليب رجال الاحزاب،فالتقى عبد العزيز القصاب بممثلي الاحزاب في داره وهم كلا من محمد مهدي كبة عن حزب الاستقلال،وكامل الجادرجي عن الحزب الوطني الديمقراطي، وعلي ممتاز عن حزب الاحرار وجعفر حمندي عن الجبهة النيابية طالبين منه اصدار قرار بألغاء معاهدة بورتسموث وحل المجلس النيابي لانه لايمثل الشعب وافق الوصي على تلك المطاليب وبذلك تشكلت وزارة محمد الصدرالاولى من 29 كانون الثاني 1948-23 حزيران 1948.. ومن الجدير بالذكر ان عبد العزيز القصاب رئيس المجلس النيابي صرح قائلاً “يجب أن نعطي الفرصة للحكومة للنظر في مطاليب الشعب العديدة. وعلى الحكومة الجديدة أن تفكر وتدرس هذه المطاليب. واضاف مرحبا بالوزارة الصدرية الاولى قائلا” وقد تألفت الوزارة الجديدة برياسة السيد محمد الصدر يعاونه بعض الرجال الذين ساهموا مساهمة صادقة في خدمة الشعب وقامت حياتهم على البذل والمفاداة لاسعاد ابناء الامة ولايسعني الا ان اعرب عن تأييدي وتشجيعي لهذه الوزارة، لقد شهد العراق فترة عصيبة لامثيل لها ولكنه خرج منها منتصرا أشد الانتصار ونحن نرجو ان يصاحب التوفيق الوزارة الجديدة لتستطيع القيام بالرسالة السامية التي اضطلعت بها لخدمة البلاد.
عن رسالة (عبد العزيز القصاب وأثره الاداري والسياسي في العراق 1882-1965)
اقرأ ايضا
إنقلاب بكر صدقي عام 1936..الموقف الملكي من الانقلاب
د. مجيد خدوريفور اطلاع الملك غازي على مؤامرة الجيش اتصل هاتفياً بالسفير البريطاني السير ارشيبالد …