عبدالرزاق الربيعي
حين شاهدت الدكتورة إقبال نعيم في (مسقط) تؤدي دورها في مسرحية (نساء لوركا) للدكتورة عواطف نعيم قبل ستة أشهر، لم أكن أعلم أن ذلك العرض الذي قُدِّم ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي، ستختتم به رحلتها مع المسرح والحياة، رغم أنّ المرض حدّ من حيويّتها، حتى أنّ الفنان الكبير عزيز خيون زوج شقيقتها الدكتورة عواطف نعيم، عبّر لي خلال العرض عن قلقه عليها؛ لأنّها كانت تعاني من مشاكل صحيّة في الغدد، لكنّها حين صعدت على خشبة المسرح وضعت آلامها جانبًا، وتخفّفت منها، ولو لساعة واحدة أمضتها على المسرح، تتحرّك على خشبته مثل فراشة، تذكّرت يومها المرّة الأولى التي شاهدتها على المسرح، كان ذلك خلال سنوات دراستها بمعهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1981، وكانت تؤدّي دورها في مسرحيّة (الجمجمة) لناظم حكمت، وكان العرض أطروحة تخرّج للمخرج محمّد سيف، الأكاديمي، والمسرحي، والمترجم المعروف، الذي أكمل دراسته بعد تخرّجه في جامعة السوربون بباريس، وظلّ مقيمًا فيها إلى اليوم، في تلك المسرحيّة اشترك (54) ممثلا وممثلة، بعضهم صار اليوم من نجوم المسرح العراقي، فإلى جانب الدكتورة إقبال نعيم مثّلت الدكتورة سها سالم، وكريم رشيد، وناظم فالح، وسعد عريبي، وعدنان علوان، وسؤدد جورج وخديجة منخي، ورضا ذياب، ومحمد عيسى، ومحمد فليح، يومها أحدث ضجّة لما يحمله من مقولات، فسّرت بأنها يسارية، وربّما بعض المشاركين من خلفيّة يساريّة، أو محسوبون على التيار اليساري، خصوصا أن أطروحتها قائمة على مقولة ماركسية تنتقد النظام الرأسمالي، يقول ناظم حكمت: “تصل الرأسمالية في تطورها إلى مرحلة تحوّلت فيها القيم المعنوية نفسها إضافة إلى الأشياء المادية إلى بضائع معروضة للبيع والشراء” وبذلك تتحوّل تلك القيم إلى بضائع يمكن بيعها وشراؤها.
لكنّ العرض أُجيز، أُسقطت حجّة منعه، لكن حصل أن قُطع التيار الكهربائي في العرض الثاني بعد حوالي ساعة من بدئه، فأُوقف العرض الذي تعدّ الإضاءة والمؤثرات الصوتية من مرتكزاته الأساسية، فضلا عن الظلام الذي ملأ القاعة، وحجب الرؤية، وكان من العادي أن يُقطع التيّار الكهربائي، مع بدء الحرب العراقية-الإيرانية، واستهداف المدن، فحضرنا العرض الثالث، وكان عرضا صباحيًّا كما اعتاد الطلبة عند تقديم أطروحات تخرّجهم، ومن الغريب أن التيار قُطع أيضا وصعد المخرج (محمد سيف) على الخشبة ليعلن إيقاف العرض، وهو القرار الذي ندم عليه لاحقا، ورغم هذه المنغّصات، فإن المخرج نال المرتبة الأولى على دفعته عن أطروحته (الجمجمة) ونال ثناء النقّاد، فكتب عن العرض: حسب الله يحيى ومزاحم عباس وعلي حسين، وقد تابعت كل ذلك، بل تعرّفت على فريق العمل وأضفت الكثير منه إلى قائمة أصدقائي، ومن بينهم الفنانة الراحلة إقبال نعيم، التي أدّت دور (باولينا) رمز النظام الرأسمالي التي تسعى مع (وليامز) إلى التعاقد مع الدكتور دالبانيزو الطبيب الذي يكتشف مصلا لعلاج السل، لكن الشركات الرأسمالية تحاول ثنيه عن ذلك، واستغلال جهوده، وتضطرّه الظروف ليوقع عقدا لمعالجة الأبقار، ويتفرّغ لهذا تفرّغا كاملا، غير أنّه يواصل عمله في السر لإنقاذ ابنته المصابة بمرض السل لكن يُكتشف سرّه، فيُسجن، ويُشرّد، ويموت، وتُعرض جمجمته للبيع.
ومما وثّق علاقتي بالفنّانة إقبال صداقتي للفنان الكبير عزيز خيون؛ حيث جمعتنا حوارات في المسرح والحياة منذ مطلع الثمانينيات، ثم شاهدنا لها العديد من الأعمال التي أبرزها مسرحية (الرهن) في عام 1985، ونالت عن دورها جائزة أفضل ممثلة عن المركز العراقي للمسرح، مثلما نالت جائزة أفضل ممثل دور ثان عن مسرحية (ألف أمنية وأمنية) عام 1987، وتألّقت في مسرحية (ترنيمة الكرسي الهزّاز) للراحل عوني كرومي، ونال العرض جائزة أفضل عمل متكامل في مهرجان قرطاج المسرحي عام 1987، ولها مشاركات (في أعالي الحب)، (سيدرا)، و(هيروسترات)، ولها جهود في مسرح الطفل ونالت مسرحية (الريشة الذهبية) التي أخرجتها جائزة أفضل إخراج في مهرجان مسرح الطفل الأردني عام 2002 مع جائزتي أفضل تمثيل وأزياء، إلى جانب ذلك قدّمت في السينما عددا من الأفلام، منها (حب في بغداد)، و(ستة على ستة)، وعزّزت عملها في المسرح بمواصلة دراستها الأكاديمية، فنالت درجة الدكتوراة عن رسالتها الموسومة (الجروتسك في العروض المسرحية) تحت إشراف الدكتور وليد شامل، وهو من المصطلحات الفنية التي رحلت من الفن التشكيلي، إلى الأدب والمسرح، وتعني رفض الأشكال التقليدية والخروج على المألوف والغرائبية، والجنوح إلى الخيال، والتهكم والتنافر، وقد صدرت الرسالة عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة 2005م وقدّمت تطبيقات لعروض أخرجتها لمسرح الطفل، وظلت إقبال تواصل عملها المسرحي، رغم انشغالاتها في التدريس الأكاديمي، ومن ثم إدارة السينما والمسرح، خلال عملها مديرا عاما لها، وقد بذلت جهدا جبّارا في عرض (نساء لوركا) بمسقط، لتعطي الشخصية حقّها، وحين عادت إلى بغداد ظلت تصارع المرض حتى رحلت، عن عمر ناهز 67 عامًا، بعد مسيرة حافلة بالعطاء المسرحي، وظلّت شخصيّة (باولينا) التي أدّتها قبل (46) سنة على مسرح معهد الفنون الجميلة، ماثلة في ذاكرتي، مثلما بقيت أدوارها الأخرى في أذهان الجمهور.
اقرأ ايضا
إقبال نعيم..غرام الخشبة
نعيم عبد مهلهل1عندما يفقد العراق بهجة الأداء وعطر من وردة هاملت وأيامنا الممسرحة في ذاكرة …