الصناعيون العراقيون الرواد ودورهم في تطورالإقتصاد العراقي

د. عدنان القطان
عملت بريطانيا إبان فترة احتلالها ثم انتدابها للعراق (١٩١٤ – ١٩٢٠) على تبني سياسة مزدوجة اولاها تمثلت بدعم شيوخ العشائر والملاكين بغية الاعتماد عليهم في تسيير أمور الحكم في حين اتجه المحور الثاني نحو تنمية اقتصادية داخل المجتمع العراقي والارتكاز عليها وهو ما يطلق عليها (البرجوازية الكومبرادورية) وهي شريحة من البرجوازية في أقطار العالم الثالث، تمثل النقيض التام للبرجوازية الوطنية٫ إذ انها تربط مصالحها بالرأسمال الأجنبي والاستعماري وتشترك معه كوسيط في السيطرة على الأسواق المحلية، إذ أنها تقوم بدورها في إبقاء أقطارها كأسواق لتصريف البضائع الأجنبية وخاصة الاستهلاكية، وكمصادر الخام بالنسبة للاستعمار العالمي كما وانها تتبع الأساليب الملتوية في حصولها على الأرباح، ولأنها لا تؤدي أي إنتاجية محلية سميت بالعربية بـ (البرجوازية الطفيلية)، لذا نراها تعمل على منع قيام صناعة وطنية حقيقية وإبقاء سوق العراق مفتوحا أمام البضائع الإنكليزية المصنعة ومن خلال انشاء بعض الصناعات ذات الطابع الاستهلاكي ومنها صناعة الجلود والتمور والطابوق وبقصد سد حاجة الجيش البريطاني العامل في العراق بالدرجة الأولى.
بعد تشكيل الدولة العراقية عام ١٩٢١م:
رافق تشكيل الدولة العراقية حماس وطني من خلال جهود بعض الشخصيات ذات التوجه البرجوازي الوطني بتشجيع الصناعة الوطنية خاصة تلك التي تعتمد على المواد الأولية المحلية، وكان لتراجع الإنتاج الحرفي بشكل كبير حيث لوحظ ان الصناعات الحديثة كانت سببا في انقراض العديد من الصناعات التقليدية التي كانت شائعة حيث انقرضت هذه الصناعات في مطلع النصف الأول من القرن العشرين، كان لهذا أثره في افساح المجال أمام الرأسمال الوطني للدخول في الميدان الصناعي، ومن هنا اندفعت الصحف والأحزاب السياسية الى تنمية الوعي الوطني بإقامة مشاريع صناعية وطنية جديدة كصناعات الاسمنت والزجاج والورق مع الدعوة لتوفير الحماية لها.
وقد اتضح حرص الوطنيين على تنمية الاقتصاد العراقي بالدفاع باتجاه اصدار سلسلة من التشريعات القانونية الخاصة بتشجيع القطاع الصناعي ولعل أبرز هذه التشريعات قانون تشجيع المشاريع الصناعية لسنة ١٩٢٩م، الذي وضع الأسس الأولى لنهضة صناعية حديثة، والأمر الملفت للنظر ان الدعوة الى بناء صناعة حديثة عدت جزء من حركة وطنية أوسع نطاقاً وذلك في محاولة لإقامة قاعدة اقتصادية قوية لتحقيق الاستقلال السياسي والوقوف بوجه المحاولات الاستعمارية البريطانية التي كانت تستهدف إبقاء أبناء العراق في حالة من التخلف والتبعية، أثرها بدأ العراق يشهد بروز صناعات حديثة مثل صناعة المنسوجات الصوفية والسكاير والدباغة والشخاط والجلود والأحذية والصابون والمشروبات الكحولية والصناعات الغذائية والانشائية.
ومن المفيد بالإشارة الى ان مثل هكذا صناعات خاصة – أي ذات ملكية فردية – لابد لها من رعاة ونعني تحديدا بما يعرف بـ (البرجوازيين الصناعيين) ويأتي في مقدمة هؤلاء الذين برزوا على الساحة الاقتصادية العراقية نوري فتاح باشا (وهو تركماني الأصل من مدينة كركوك مواليد ١٨٩٣م ومن عائلة عرفت امتهانها التجارة، انتقل والده الى بغداد، فولد ببغداد وأكمل دراسته الإعدادية فيها وفي ١٩٠٩م توجه الى إسطنبول ليكمل دراسته العسكرية وتخرج منها عام ١٩١٢م برتبة ملازم في الجيش العثماني حتى عام ١٩١٦، وفي عام ١٩٢٦م اتجه للعمل مع والده في تأسيس معمل نسيج الكاظمية، توفي عام ١٩٧٦م.
معمل فتاح باشا للغزل والنسيج:
دخل في تاريخ الصناعة العراقية عام ١٩٢٦م (معمل فتاح باشا للغزل والنسيج) في الكاظمية ببغداد، لكونها كانت مركزا مهما تتواجد فيه أغلب معامل ومشاغل النسيج اليدوي، مما ساعد في رفد المعمل الجديد بالأيدي العاملة ذات الخبرة السابقة بالصناعة الصوفية، وبدأ المعمل يمارس نشاطه في عام ١٩٢٦م حيث تولى نوري فتاح إدارة الاعمال المالية والتجارية والإدارية، في حين تولى صالح إبراهيم إدارة الأمور الفنية، وكان المعمل في مرحلته الأولى يقوم بإنتاج الغزل الصوفي فقط ويجهزها الى مشاغل النسيج اليدوية الصغيرة والى مصلحة السجون التي كانت تقوم بإنتاج بعض المنسوجات الصوفية والسجاد اليدوي، وبلغ عدد العاملين فيه مع بداية العمل (٦٥) عاملاً، ومع مرور الوقت استكمل المعمل معداته حيث احتوى على (٤٠) نوالاً مستورداً من بولندا، وجهز بمحرك بخاري بقوة (٧٥) حصاناً وجهاز لتوليد الكهرباء، وباشر المعمل بإنتاجه، وحسب الشكل المخطط له، أواخر عام ١٩٢٩م، وأشرف عليه في بداية الأمر فنيون بولنديون ووصل عدد العاملين فيه زهاء (٣٠٠) عامل وعاملة، و (٨) موظفين اداريين و (٥٠ – ٢٥٠) فلساً يومياً حسب كمية العمل وقدرة العامل، وتجدر الإشارة الى ان نوري فتاح اعتمد في إدارة المعمل على زملائه من الضباط المتقاعدين، وذلك لضبطهم الإداري وحاجتهم الى فرص العمل.
غير ان النجاح الذي حققه المعمل لم يكن لولا المساعدة والتشجيع الشعبي والحكومي الذي حصل عليه، فعلى المستوى الشعبي لقي تأسيس المعمل ترحيباً كبيرا من قبل الرأي العام العراقي، وعدت الصحف العراقية هذا المعمل (المعمل الأول) من نوعه في العراق، ونموذجا يحتذى به لإقامة مشاريع صناعية وطنية مماثلة، بوصفه معملا يضاهي المعامل الأوربية، ودعت الشعب الى تشجيعه من خلال الإقبال على شراء منتجاته، كما حملت الحكومة والشعب مسؤولية بذل أقصى الجهود بهدف زيادة الوعي الشعبي للأقبال على شراء المنتوجات الوطنية.
وتلبية لدعوة الحكومة للمؤسسات الرسمية والعسكرية لابتياع منتجات معمل (فتاح باشا) تشجيعا للصناعة الوطنية، تعاقدت وزارة المالية مع المعمل لتزويد وزارة الدفاع بما تحتاجه من منتجات، بشرط أن تكون الأسعار أرخص من المستورد، كما قررت الوزارة منح المعمل سلفة قدرها (لكين ونصف لك روبية) بفائدة قدرها ٥٪ غير ان وزارة الدفاع طلبت من وزارة المالية إلغاء الفائدة، لكون هذه الصناعة في بداية نشؤها، وهي بحاجة لتشجيع حقيقي، فوافقت وزارة المالية على ذلك، كما تعاقدت وزارة المالية مع المعمل على تزويد منتسبي وزارة الداخلية بما تحتاجه من المنسوجات والبطانيات بشرط أن تكون الأسعار أرخص من المستورد أيضا غير ان المندوب السامي البريطاني (كلبرت كلايتون) اعترض على منح السلفة الى معمل. فتاح باشا، على أساس مخالفة للقانون الأساس العراقي، ولأن المبلغ يتطلب موافقة البرلمان لكن الملك فيصل أبلغ المندوب السامي بأن المبلغ ليس سلفة بقدر ما هو استثمار مبلغ يودع لدى المعمل مقابل ضمانة وفائدة محددة وبناء على ذلك وافق مجلس الوزراء في ١١ شباط ١٩٣٠م على منح المعمل سلفة قدرها (٧٥) ألف روبية من تخصيصات وزارة الدفاع في الميزانية العامة لقاء تزويد الوزارة باحتياجاتها. وبالمقابل وافق (نوري فتاح) على تسليم منتجات المعمل الى الوزارة وبسعر أقل من السعر المستورد، ولم يقتصر نشاط (نوري فتاح) على صناعة الغزل والنسيج فقط بل تنوعت نشاطاته وتعددت، فكانت له مساهمات في العديد من المشاريع الصناعية والاقتصادية الوطنية، إذ قام هو ومجموعة من العراقيين باستيراد مكائن والآلات لتأسيس محلج قطن وتم افتتاحه في عام ١٩٣٠م، في منطقة الصرافية في بغداد وبرعاية الملك فيصل الأول تحت اسم (شركة تجارة وحلج الاقطان العراقية المحدودة) وشغل منصب عضو مجلس إدارة فيها.
من بحث نشره مركز الرافدين للدراسات الاستراتيجية بعنوان (البرجوازية الصناعية العراقية ودورها في الاقتصاد العراقي منذ أواخر العهد العثماني حتى عام ١٩٥٨م).

اقرأ ايضا

من تاريخ الحركة الديمقراطية في العراق..رأي في مسيرة محمد حديد الديمقراطية

نجدة فتحي صفوةسجل كامل الجادرجي في مذكراته رأيه في محمد حديد الذي زامله في العمل …