في ذكرى عادل زعيتر

وديع فلسطين
سنوات كثيرة تقضّت على مغيب علم الضاد المرفوع وحجتها المأمول وإمامها الكبير وعلامتها الجليل عادل زعيتر، الذي أطلعت دنيا العروبة لتفاخر به على مدى الدهر وأنجبته مدائن المقدس لتزهى به على العالمين. فقد كان اليوم، الحادي والعشرين من شهر نوفمبر لأربعين سنة خلت يوما أغبر في حياة الفصحى، إذ انطوت فيه صفحة الجهاد الأدبي المضني لهذا العالم الكبير وهو في أوج علمه وقمة نشاطه وذروة آماله المعقودات. فخسرت الضاد في عادل زعيتر طودا من المعارف وهرما من غزارة العلم. وحجة لا يقل شأنا عن العباقرة الغربيين الذين قدّمهم إلينا من خلال مؤلفاتهم، وعرّفنا بهم و أوقعنا على كنوزه, ودلّنا على تراث كان عنّا مغيّبا.
عرف عادل زعيتر منذ باكورة عمره أن دنيا الفكر أعمر الدنى جميعا، وأن رسالة الثقافة أخلد الرسالات طرّا، وأن مباحث العلم أقدس المباحث بغير استثناء، فاختار لنفسه هذه القيم الباقيات الفارعات، وهجر المحاماة وهي مقبلة عليه برفدها الوفير ومجدها الميسور، واعتزل التدريس الجامعي وشأوه المعهود، وانصرف عن حياة السياسة بخيرها القليل و غرمها الكثير وعاش مع الكتب في غرفة تضم صفوة فكر، ويختار منها نفائس النفائس، ثم يعكف على نقلها إلى الضاد بأمانة الرسل وبسالة الجنود في ميادين الاستشهاد، يدين له البيان المجلو مطوعا بين يديه، وتنصاع له العبارة البليغة انصياع الماء في الجدول الثقيف… ومحصوله يأتي في أوانه دائما كل عام كتابان أو ثلاثة كتب، لا تقوى على إخراج مثلها مجامع بأسرها، وهي تؤوي فحولا من كبار المترجمين ولو عقدوا الخناصر، وقسموا العمل بينهم.
هذا عظيم من عظماء أمته المخلدين، ازدرى وجاهة الحياة العامة، واستدبر لذاذات الحياة العارضة، ووأد بين جنيه مطامع الأرض وتُرّهاتها، وحصر دنياه كلّها في قرطاس ومحبرة وكتاب ومطبعة، وهي دنيا ـ لو يعلم الناس ـ أرحب من أن تسع الدنى جميعا، لأن الفكر أزليّ أبديّ سرمديّ باق، ولأن الحياة كانت في بدئها كلمة، وستكون في خاتمتها كلمة، وكل الحضارات منذ فجر التاريخ، بل قبل مجيء التاريخ، قوامها الكلمة ـ النيرة الموحية الملهمة الخيّرة النافعة، ولولا الكلمة، لجهل الناس حقيقة أنفسهم، ولعزّ عليهم أن يدركوا شيئا من ألغاز الكون من حولهم، وبفضل الكلمة، نستشرف إلى عالم أفضل ونرود كلّ مجهول خفيت عنّا معالمه.
فلا غروَ أن يُفني عادل زعيتر الماجد المجيد عمره كلّه في سبيل الكلمة. وأية كلمة؟ إنها الكلمة المثقفة، الكلمة الدالة، الكلمة التي تفتح كُوى العقل على مراتع الخير والرخاء، الكلمة التي تمكث في الأرض وتنفع الناس، فقد كان أمام عادل زعيتر صنوف وصنوف من المؤلفات، منها الروايات الرخيصة السريعة الرواج، ومنها الدراسات الرصينة التي تستهوي قلة من زبدة المختصين وأهل الرأي. وكان في وسعه اجتناء ثروات سريعة من ترجمة تلك الروايات الرخيصة التي تطلبها السوق وتلحّ في الاستزادة منها، ولكنه اختار أوعر الطريقين، وعكف على شوامخ الكتب وبواذخها يترجمها إلى الضاد الشريفة: ترجم لمونتسيكو، وجان جاك روسو، وفولتير، وكاراديفوا، ولوبون، ورينان، ولودفيغ، ودرمنغم، وسيديو، وحيدربامات، واناطول فرانس، وبوتول، وايسن، وكلّها كتب تتناول المباحث الحضارية والتراث الإنساني والتاريخي والديني، والمذاهب الاجتماعية والنفسية للأمم، وتراجم الأعلام وفلسفات الفقهاء واتجاهات التربية. وإذا كُنت كقارئ عادي أحمل لعادل زعيتر أسمى آيات الإعظام على فضله العلميّ السخيّ، فإنني كمترجم عانى مشاقّ النقل والتعريب، أرفع عادل
زعيتر إلى مراتب قلّ أن يبلغها غيره من عتاة المترجمين في أي لغة، سواء من حيث ضخامة العمل الذي أنجزه ولم يُمهله القدر لإتمامه، أو من حيث الجودة في الاختيار والإبداع في الترجمة والإتقان في إخراج كتبه مشكولة مضبوطة محققة الأعلام والمواقع، بحيث تستعصي على الناقد ولو كان أزرق الناب طويل الباع.
إن ذكرى عادل زعيتر إذ تطوف بنا في هذه الأيام تجدد فينا لوعة الأمس على فقده، وتعيد إلينا صحائف مجده منشورة مرفوعة، وتنبهنا إلى أن هذا الرجل العظيم الذي خلت حياته من كل أسباب التكريم، خليق بأن تتسابق أمم العرب والإسلام جميعا إلى تخليد ذكراه وتمجيد أعماله والحفاظ على تراثه المخطوط والمطبوع. فقد كان عادل زعيتر جامعة تؤمها أفواج وأفواج من طلاب العلم، وسيبقى باب هذه الجامعة مفتوح المصاريع ما دامت بين أيدينا مُتَرجمات عادل زعيتر الفاخرة (حضارة العرب) و (حضارات الهند) و (روح الشرائع) و (البحر المتوسط) و (النيل) و (السنن النفسية لتطور الأمم) و (تاريخ العرب العام) و (تلماك) و (بسمارك) و (نابليون) و (كليوباترة) و (حياة محمد) و (ابن خلدون) و (العقد الاجتماعي) و (ابن رشد والرشدية) وغيرها من المؤلفات التي نيّفت على الأربعين وتعددت أجزاؤها وطبعات بعضها.
إن عادل زعيتر بيننا اليوم بروحه، وبينا بقلمه النضير وفكره البصير ونتاجه الغزير، وبيننا بمآثره المخلّدات ومفاخره الباقيات. فلئن كان قد أبهظ كاهل الأمة العربية بديونه وأفضاله، فلا أقل من أن نذكره يوم وفاته تحية ووفاء وتكريما وإجلالا وإعظاما، وان نضع على قبره لا وردة تذبل، بل عاطفة من الحب تتجدد وتتأجج، وأن نردد فيه آيات العزاء لأسرته الصغيرة ولأسرة الضاد الكبرى في أمصارها وأقطارها ورحم اله نابغة العرب عادل زعيتر وأنزله أكرم المنازل في بساتين جناته.
· عن مجلة الهلال

اقرأ ايضا

رصانة المترجم الفسطيني عادل زعيتر ودقّته وأمانته

شكيب كاظميوم انجزت قراءة رواية (الالهة عطاش) لاديب فرنسا الكبير اناتول فرانس (1924-1844) التي تولت …