شكيب كاظم
يوم انجزت قراءة رواية (الالهة عطاش) لاديب فرنسا الكبير اناتول فرانس (1924-1844) التي تولت مكتبة النهضة المصرية نشرها بطبعتها الاولى والاخيرة سنة 1952، كتبت على اصل الكتاب ما ياتي (انتهيت من قراءة هذه الرواية الصعبة الاسلوب، بسبب نهج مترجمها المرحوم عادل زعيتر الذي يميل الى التفاصح. رواية تظهر قسوة الانسان وظلمه، ومآسي الثوارت وانطلاق الغوغاء والرعاع، يعملون ما يحلو لهم وقساوة (ايفارست غملان) حتى على شقيقته وزوجها، وتلك النهاية الدامية التي انتهى اليها، رواية فيها الكثير من الصور والعبر لمن يريد ان يعتبر).
ورواية (الالهة عطاش) من الادب الذي ارخ وقائع الثورة الفرنسية التي نشبت في الرابع عشر من تموز سنة 1789، ضد حكم الملك الفرنسي لويس السادس عشر، وانتهت الى اعدامه وزوجته ماري انطوانيت، وكان من نتائجها ابتكار اداة قصل رقاب الناس بـ(المقصلة) الجيلوتين!! فضلا على رواية (قصة مدينتين) للروائي جارلس ديكنز التي قرأناها بالانكليزية نحن طلبة الثانوية في سنوات الستين من القرن العشرين، كتابا مدرسيا مقررا، والمقصود بالمدينتين: لندن وباريس، اذ تجري حوادث الرواية في هاتين المدينتين، قبل اندلاع الثورة الفرنسية واثناءها وما تلاها من ايام.
لقد استرعى انتباهي، وانا اقرا في نهاية الكتاب الرواية ثبتا بما كان قد ترجمه المترجم الفلسطيني البارع عادل زعيتر، اذ ترجم احد عشر اثرا من اثار الكاتب الفرنسي غوستاف لوبون، الذي طرق اسمه سمعي وذهني، من خلال (المدخل في تاريخ الحضارة العربية) للباحث العراقي الرصين ناجي معروف – رحمه الله- الذي كان يشيد بآرئه المنصفة للعرب والمسلمين، لدى مناقشته لاراء مواطنه (وايرنست رينان) (1823-1892) غير المنصفة، كان الكتاب مقررا على طلبة الصف الرابع الادبي في بداية سنوات الستين من القرن العشرين، فضلا على ترجمته سبعة من كتب الباحث الالماني اميل لودفيغ وكتب اخرى لأميل (درمنغم) وسيديو وايسمن، واضعين في الحسبان ان هذه الترجمات التي نافت على العشرين مؤلفا، هي ما انجزه المترجم الحاذق عادل زعيتر حتى سنة 1952 سنة نشر رواية (الالهة عطاش) وقد امتد به العمر بعد ذلك خمس سنوات اذ فاجأته نوبة قلبية وهو يواصل ترجمة كتاب (مفكرو الاسلام) للباحث الفرنسي (كارادفو) يوم 21/ من تشرين الثاني /نوفمبر/1957 واذ احس بتعب نادى زوجته لتسعفه بقدح ماء واذ جاءته به، وجدته قد فارق الحياة! كما يذكر ذلك الاديب المصري الكبير الاستاذ وديع فلسطين في الجزء الاول من كتابه (وديع فلسطين يتحدث عن اعلام عصره) وفي الفصل الذي اداره للحديث عن المترجم عادل زعيتر.
وانا اقرأ هذا الفصل الممتع والمفيد، وقفت عند اخلاق هؤلاء الرجال الاماثل، المخلصين والجادين واذ يقص علينا الاستاذ الوديع، ان مكامن دأب هذا المترجم الناسك، ان ينجز ترجماته في مدينته نابلس صيفا، كي ينتقل الى القاهرة شتاء ليطبع هذه المصنفات، ويبقى في المطبعة منذ الصباح حتى اخر النهار، حيث تغلق المطبعة ابوابها، يظل طوال هذه الساعات الطويلة ولايام عديدة يواصل مراجعة تجارب الطبع، والتاكد من خلوها من الخطأ الطباعي، لا بل يبقى يغير بعض المفردات، بحثا عن الابهى والاجدر، ليذكرني بالجواهري الكبير الذي يظل يتابع قصائده المرسلة للنشر في الجرائد حتى ساعة متاخرة من الليل، مضيفا، حاذفا، والامر ينطبق على القاص الانيق محمود عبد الوهاب وما يقصه علينا القاص والروائي الراحل مهدي عيسى الصقر عنه في كتابه الجميل (وجع الكتابة. مذكرات ويوميات) الصادر بطبعته الاولى عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد سنة 2001. اذ يظل يتصل به من البصرة، طالبا منه ابلاغ الاستاذ ماجد السامرائي يوم كان رئيسا لتحرير مجلة (الاقلام) حذف كلمة! واضافة اخرى، لدقة تقترب من الهوس المعذب والجميل في آن معا!
ولان الانسان نسّاء والعين موهمة، يحدث ان تفلت من رقابة عادل زعيتر بضع كلمات، ويحصي اثنتي عشرة خطأ من كتاب (البحر المتوسط) لاميل لودفيغوعدد صفحاته تسعمئة صفحة، تصور ايها القارئ مدى بساطة الامر، لكن عادل زعيتر، يصر على ادراج قائمة بهذه الاخطاء الطباعية، في حين لا يوافق صاحب دار المعارف في القاهرة التي تتولى طبع الكتاب شفيق متري، على ذلك عادا ذلك انتقاصا من رصانة دار النشر، فيقترح عادل زعيتر حلا وسطا ان يتحمل هو لا الدار مسؤولية الخطأ، كان هذا مقترحه لا مقترح شفيق متري، فصدر الكتاب بهذا التوضيح، وكأننا ازاء ملائكة، كتب زعيتر هذا الايضاح الاعتذاري (ظهرت الاغليط القليلة الاتية تصويباتها في هذا الكتاب الضخم وقوامه 900 صفحة) الذي طبع باشرافي في خمسة اسابيع، فانشر هذه التصويبات مع الاعتذار لدار المعارف التي اسجل لها شكري) تراجع من 310 من الكتاب وما دمت قد ادرت حديثي هذا لاستذكار هذا المترجم البارع، والحديث عن دقته ورصانته، فبودي ان اذكر انه خلّف نجلا هو (وائل) اشتغل بالسياسة والدفاع عن قضية الشعب الفلسطيني في بناء دولته، الذي اغتاله الموساد الاسرائيلي بداية عام 1973، اذ كان مديرا لمكتب حركة (فتح) في العاصمة الايطالية، روما، حينما كان يهم بدخول المصعد نحو شقته اطلقوا عليه اثنتي عشرة رصاصة اخترقت ظهره ومازلت احتفظ بصورته التي نشرتها مجلة (اليقظة) الكويتية بعددها الصادر يوم الاثنين 15/10/1973 وبالعدد المرقم 329، لقد سقط ارضا وهو يحتضن اوراقا لعلها جريدة او مجلة، ودمه سال على الارض القريبة التي توسدها وائل عادل زعيتر، فضلا على صورة اخرى تجمعه بصديقه اديب ايطاليه الكبير (البرتومورافيا) الذي كان متعاطفا مع امال شعب فلسطين، وكان الموساد قد خاض حملات ملاحقة واغتيال ضد رموز فلسطينية في العواصم الاوربية، ردا على الهجوم الذي نفذه عناصر من منظمة ايلول الاسود، ضد البعثة الاسرائيلية الرياضية المشاركة في الدورة الاولمبية العشرين، التي افتتحت اعمالها في مدينة ميونخ الالمانية يوم السبت السادس والعشرين من شهر اب / سنة 1972 واذ هاجم عناصر من منظمة ايلول الاسود مقر بعثة الفريق الاسرائيلي في القرية الاولمبية بميونخ، يوم الثلاثاء الخامس من ايلول، وقتلوا اثنين من اعضائها،واحتجزوا تسعة اخرين، وطالبوا باطلاق سراح مئتي سجين في السجون الاسرائيلية، بضمنهم الياباني (اكوماتو) من منظمة الجيش الاحمر الياباني المحكوم بالسجن المؤبد لاشتراكه واثنين من زملائه قتلا في الهجوم على مطار اللد الاسرائيلي يوم الاربعاء 31/5/1972، الا ان قناصة تابعين للشرطة الالمانية فتحوا النار على الخاطفين الفلسطينين بغية تخليص المخطوفين الاسرائيليين مما ادى الى نشوب معركة قتل فيها المخطوفون التسعة وخمسة من الخاطفين، فيما القي القبض على الاخرين، هذه العملية كان دافعا لقيام الموساد الصهيوني باغتيال وائل عادل زعيتر، وقبله محمود الهمشري ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، الذي جرح برسالة ملفوفة انفجرت بين يديه، وتوفي يوم الاثنين 8/1/1973، فضلا على اغتيال الدكتور باسل رؤوف الكبيسي مدير مكتب الجهة الشعبية لتحرير فلسطين في باريس، والذي شاركت في تشييعه صباح يوم الجمعة 13/4/1973 من دار ابيه بالوزيرية حتى مثواه في مقبرة الشيخ جنيد بالكرخ، واغتيال مدير مكتب الابحاث بمنظمة التحرير الفلسطينية الدكتور انيس صايغ برسالة ملفوفة، فضلا على قائد قوات منظمة الصاعقة، محسن ابراهيم على شواطئ الريفيرا! ويوم سمعت خبر اغتياله من اذاعة مونت كارلو ليلا، سألت نفسي: ما شأن المناضيلن اصحاب القضية بشواطئ الريفيرا ومنتجعاتها الزاخرة بالقيان والحسان، لاسيما وان محسن ابراهيم كان يؤم المنقطة وحيدا، لاشك انها لحظة من لحظات الضعف الانساني المميتة!.
· من ارشيف الراحل شكيب كاظم
اقرأ ايضا
ذاكرة لعادل زعيتر
منصور الجميلفي مرحلة شهدت مخاضاً عسيراً بين انهيار الدولة العثمانية وتقاسم بلاد الشام بين الإنكليز …