من ذكريات ثورة 14 تموز 1958

بلقيس شرارة
عشية الثورة
أطلق سراح أبو رفعة كامل الجادرجي من السجن في شهر حزيران عام 1958، أي قبل انتهاء مدة المحكومية ببضعة أسابيع، و عادت معه بوابة الدار المؤدية للجناح الخاص به إلى نشاطها السابق. تفتح صباحاً و لا تغلق إلا ليلاً، و توالت زيارة الناس له بانتماءاتهم المختلفة، و عاد “سلمان” موظف الأمن إلى تواجده في شارع طه، يقوم بواجبه اليومي، مسجلاً أرقام السيارات الواقفة أمام باب الدار، ليبعث بها تقريراً يومياً إلى مديرية الأمن!
كانت مديرية التحقيقات الجنائية في العهد الملكي تقوم بحملة واسعة لتجنيد رجال شرطة الأمن السريين، من بين الطبقة الفقيرة العاطلة عن العمل، و التي لها معرفة و لو بسيطة بالكتابة و القراءة لمراقبة المعارضة في البلد. فجندت عدداً كبيراً منهم لمراقبة الناس و كتابة التقارير اليومية، و بثت عيونها عنهم في كل مكان، فلم تقتصر على مراقبة أعضاء الحزب الشيوعي الذين كانوا دائماً من المطاردين و المشردين، و إنما شملت جميع القوى المعارضة لسياسة النظام الملكي، من الديمقراطيين و اليساريين و البعثيين و القوميين. و قد وقع الاختيار بالصدفة على شخص اسمه سلمان لمراقبة دار كامل الجادرجي.
كان سلمان قميء المظهر، رث الثياب، يتجلى الذل على قسماته، و بؤس الفئة التي جند منها.امتهن هذا العمل البائس الذي يدر عليه راتباً بسيطاً، يقيه و عائلته من شظف العيش و الجوع التي تعاني منه تلك الطبقة التي ينحدر منها. نظرات الاحتقار لم تكن تُخفى عليه، من قبل أهالي الشارع لقيامه بهذا العمل الوضيع! فوظيفته تحتم عليه الوقوف في مدخل شارع طه، من الساعة التاسعة صباحاً حتى المساء، يتطلب واجبه اليومي تسجيل أرقام السيارات و أسماء الأشخاص الذين يزورون دار كامل الجادرجي. يقف على مقربة من الدار، يراقب الداخلين و الخارجين منها، صباحاً و مساءً، يضيف أسماء جديدة إلى قائمته، كلما شاهد وجوهاً جديدة!
تعامل معه أفراد العائلة باهمال، فالتجسس علنا كان أو سراً، لم يكن في يوم من الأيام عملاً محترماً في العراق.
و لكن اختفى سلمان فجأة من الشارع، عندما صدر الحكم بالسجن ثلاثة أعوام على أبي رفعة في عام 1956، و عاد ثانية عندما أفرج عنه في شهر حزيران من عام 1958، فاحتل سلمان ثانية مكانه المعين في الشارع، مواظباً في وظيفته، يسجل يومياً أرقام السيارات و أسماء أصحابها، ليضيفها إلى ملف مديرية التحقيقات! يكتب يومياً نفس التقارير، التي تضاف إلى ملف الجادرجي.
يوم الثورة
كنا ننوي رفعة و أنا، السهر في نادي المنصور ليلة الثورة. في المساء أتصل أبو رفعة تلفونياً، طالباً من رفعة آلا يتأخر في السهر تلك الليلة، لأن الوضع في العراق غير طبيعي، دون أن يضف شيئا على ذلك.
في الصباح الباكر رن جرس التلفون الداخلي ثانية، رفع السماعة رفعة، وإذا بوالده يقول: قامت الثورة من قبل الجيش و أطيح بالنظام الملكي والحكومة.
اتجهنا حالاً نحو غرفته، كان جالساً يستمع إلى الراديو يذيع بيانات الثورة. وأصغينا للبيان الأول الذي أذيع بصوت عبد السلام عارف، الذي كان يعاد بين قاطع من الموسيقى العسكرية. كان بيد أبو رفعة قلماً يسجل به الأسماء المذاعة من الراديو. لم تمض إلا ساعة حتى امتلأت غرف و حديقة الدار بالناس من كل حدب و صوب. فتركتُ غرفة أبو رفعة واتجهت نحو غرفة أم رفعة التي امتلأت بدورها بالنساء.
أمتلأت غرفته بأناس من مختلف الرتب والطبقات. شخصيات سياسية معارضة، منها ألبعثي و الشيوعي و الديمقراطي و القومي، مهنيون من جميع الاتجاهات و الملل، أكراد و شيعة و سنة و مسيحيين. كبار من الشيوخ و شباب متحمسون. أصبحت دار أبو رفعة في تلك الساعات المزار الذي يأوي إليه الناس، فهم يجهلون أسماء القائمين بالثورة من العسكريين من أمثال عبد السلام عارف أو عبد الكريم قاسم! و لكن الجميع يعرفون الجادرجي.
وغصت حتى الحديقة بحشود الناس، يتوافدون طيلة اليوم. وفد يدخل ليبارك أبو رفعة وآخر يخرج. حمزة القهوجي، مشغول في صنع القهوة العربية و تقديمها للوافدين، كراسي الحديقة لم تكف عن استيعاب الحشد الكبير منهم. فبعضهم واقف يتحدث مع مجموعة وآخرين جالسون. و امتزجت أحاديثهم بهتافات المتظاهرين الذين بدأوا يتجهون نحو الدار في شارع طه.


كان حمزة رجل وقور يحترمه الجميع، مرهف الحس، ثاقب النظر، له نظرته الخاصة، التي تعلمها من خلال تجربته التي عاشها في الجيش، إذ كان نائب عريف في الجيش العراقي و يتمتع بشخصية عسكرية محترمة. كان يراقب الداخلين و الخارجين من دار أبو رفعة، يحس بتقلبات الأوضاع السياسية و بالجزر و المدّ من خلال تلك البوابة! و كانت تعليقاته ذكية و أحياناً لاذعة، عن بعض الزوار الذين يتغيبون عن زيارة أبو رفعة، حتى يجدوا الظرف المناسب لزيارته.
كانت باب الدار هي الباروميتر بالنسبة له! فعندما ينحسر عدد الزّوار، يشعر أن الوضع السياسي في البلد متوتر، و إن السلطة الحاكمة بعيدة عن معالجة الأزمة التي تفاقمت في البلاد نتيجة احتدام الصراع السياسي الذي يبلغ الذروة أحياناً عندما تحاول السلطة حل الأزمة السياسية بإلغاء الأحزاب و تعطيل الصحف. و لكن عندما يتوافد عدد كبير من الزوّار، بما في ذلك أولئك الذين يشغلون مناصب مهمة في الدولة، يشعر حمزة عندئذ أن هناك انفراج في الوضع، و البلد بعيد عن الأزمات السياسية!
كان من واجبات حمزة إضافة للحراسة، طحن القهوة العربية و الإشراف على تخميرها بصورة صحيحة، و تقديمها للضيوف. فيجلس في الحديقة التابعة للمطبخ، أمامه الهاون الذي نستمع إلى طرقاته الموسيقية المتناوبة بين ارتفاع و انخفاض الصوت في طحن القهوة كما هي في المجالس العربية، و إلى جانبه المنقلة التي يضع فيها دلة القهوة الكبيرة على النار المشتعلة فيها، يحركها بين الفينة و الفينة، ثم يصفيها، و يسكبها في دلة الفضة الصغيرة قبل أن يقدمها إلى الضيوف بأقداح القهوة الصغيرة، يضعها بيده فوق بعضها البعض. أصبح صوت الهاون مقترن بنكهة القهوة التي تفوح رائحتها في أجواء الدار‍. أما في المساء، فقد كان سماور الشاي يحتل المركز الرئيس، فيطل شامخاً على طاولة الشاي، تحيطه باقة من الاستكانات الفارغة التي تنتظر ملأها.
نصب الجندي المجهول و الرابع عشر تموز و الحرية
طلب رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم من رفعة تصميم ثلاثة أنصبة، الجندي المجهول، نصب 14 تموز و نصب الحرية.
زرنا جواد – رفعة و أنا- في داره في المساء بعد ثورة 14 تموز بأشهر، وحدثه رفعة عن مشروع نصب 14 تموز، و قدم له رفعة قاعدة لبناء ضخم تشبه اللافتات التي كانت ترفع في التظاهرات آنذاك، على أن يملأها بالجداريات أو النحت النافر/ relief. أما بالنسبة للجندي المجهول فقد صممه رفعة بأقل من ساعتين.
ثم سافر رفعة إلى لشبونة عاصمة البرتغال، للتفاوض مع مؤسسة كولبكيان على التبرع كلفة الملعب الذي سيقام في بغداد، عندما كان محمد حديد وزير المالية، و وزير التخطيط/الاعمار بالوكالة. و طلب رفعة أن يرافقه أكرم فهمي، المسؤول عن الرياضة و الألعاب في العراق آنذاك. و بعد الانتهاء من المباحثات، اقترح رفعة على روبرت كولبكيان التبرع ببناء بناية متحف للفن العراقي الحديث، الذي سمي باسم كولبكيان في البداية، ثم أصبح متحف الفن الحديث.
من كتاب (هكذا مرت الأيام) الصادر عن مؤسسة المدى.

اقرأ ايضا

محاولات الاطاحة بالنظام الملكي قبل قيام ثورة 14 تموز 1958

رياض فخري علي فتاحلم تكن الحركة التي قام بها الضباط الأحرار صبيحة يوم 14 تموز …