محمد علي الشبيبي
لا أخفي على القارئ الكريم تخوفي وتهيبي من قدرة الكتابة عن الشهيد عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) وقد أفشل في تقديمه للقارئ بما يتناسب مع نشاطه الوطني والصحفي وتكللهما بصموده الاسطوري في التعذيب ومن ثم شهادته اسوة برفاقه الشهداء من قادة الحزب الشيوعي العراقي الذين سبقوه أو ساروا على خطاه في الشهادة. لذلك ارجو من القارئ الكريم ان يستميحني عذرا إذا ما قصرت في تغطية بعض من جوانب حياة الشهيد ونشاطه، فهذه المهمة الجليلة أجدر أن يتبناها رفاقه ومن عاش بينهم وعرفوا الشهيد عن قرب.
ولد الشهيد في البصرة- محلة المشراق- عام 1920، نشأ وترعرع فيها ودرس في مدارسها. أنهى دراسته الثانوية بتفوق ورشحته وزارة المعارف في بعثة للدراسة الى إنكلترا، ولكن نشوب الحرب العالمية الثانية حال دون ذلك. فقرر السفر إلى بيروت ليكمل دراسته الجامعية في الجامعة الامريكية. تخرج من الجامعة الامريكية متخصصا في الفيزياء ومارس تدريسها في المدارس الثانوية. ولشدة ولعه ببعض الجوانب الفلسفية فبادر لدراستها فاهتم بدراسة فلسفة سقراط. وكان لابد لدراسته للفيزياء والفلسفة أن تعمقا طريقته في التفكير والتحليل للواقع الاجتماعي والسياسي الذي كان شعبنا يعاني منه فترة النظام الملكي. فعلم الفيزياء هو العلم الذي يجيب على لماذا وكيف ومتى لدراسة الظواهر الكونية، فتكون الاجابة دائما عليها علمية ومنطقية، وهذا ما ساعده على البحث عن أسباب ومعاناة شعبنا وما هي الحلول الضرورية لمعالجة تلك المشاكل. إن تعشيق الفيزياء ومنطقها وتحليلاتها العلمية مع الاسلوب الفلسفي في التفكير(1) لتفسير الظواهر الاجتماعية في مختلف المجالات، إضافة لما عايشه الشهيد من مآسي شعبنا في ظل النظام الملكي الذي كبل شعبنا بمعاهدات غير متكافئة استرقاقية، ومن هجوم بشع على المناضلين المطالبين بالحرية والتحرر والاستقلال من قبل النظام الملكي الذي كللها بجريمة إعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي وما أعقب ذلك من هجوم على القوى الوطنية…. كل هذا أحدث انعطافا جذريا في تفكير الشهيد الخالد فالتحق بصفوف الحزب الشيوعي العراقي، وحدد موقفه بوضوح وجرأة وشجاعة، أثبتت الأيام صلابته وقوة قناعته من خلال صموده في التعذيب الذي مارسه البعثيون خلال حكمهم الدموي بعد انقلابهم في 8 شباط 1963 فوهب حياته دون تردد من أجل قضيته المقدسة.
بعد تخرجه من الجامعة الامريكية عام 1943 عاد الى الوطن، فمارس تدريس الفيزياء في اعدادية بعقوبة ثم استاذا في كلية الملك فيصل حتى اغلاقها عام 1948 بسبب انتماء الكثير من طلبتها للحزب الشيوعي وللقوى المناهضة للنظام الملكي إضافة الى مساهمات طلبتها النشيطة في وثبة 1948.
وبدأ نشاطه السياسي غير هيابا حال عودته للعراق. فعمل في اواسط الاربعينات -1946- في صفوف “حزب الشعب” الذي كان يرأسه عزيز شريف، وكانت إلى جانبه ابنة عمه -زوجته ورفيقته- في النضال المحامية الراحلة نظيمة وهبي. ثم انتمى للحزب الشيوعي العراقي عام 1948 وكان حينها مدرسا في ثانوية الأعظمية.
ساهم بنشاط في الحياة السياسية والاجتماعية، فنشط في حركة السلم العراقية. وقد ذكر الدكتور فاروق برتو في مقالة له عن بدايات حركة السلم العراقية وتشكيل أول لجنة تحضيرية لأنصار السلام في تموز 1950 برئاسة محمد مهدي الجواهري وكان باكورة نشاط اللجنة إصدار بيان إلى الشعب العراقي نشر في الصحف بتوقيع عدد من رجال الفكر والشخصيات الاجتماعية المعرفة، يدعو البيان إلى تأييد نداء ستوكهولم وإلى مساندة الدعوة لنشر السلام العالمي ومقاومة أخطار الحرب. وكان من بين الموقعين على هذا البيان محمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب محمود (نقيب المحامين في العراق) والمحامي توفيق منير والشاعر بدر شاكر السياب والفنان يوسف العاني والشاعر محمد صالح بحر العلوم والمحامي عامر عبدالله والدكتورة خالدة القيسي والدكتور عبدالله إسماعيل البستاني، وكان أيضا من ضمن الموقعين الشهيد عبد الجبار وهبي.
كما ساهم في عمل ونشاط المنظمات المهنية والديمقراطية، حتى انه انتدب لحضور مهرجان الشباب والطلاب العالمي في وارشو (تموز 1955) وكان برفقته كريمته نادية (الفنانة أنوار عبد الوهاب) مع شقيقها سعد.
ولم يسلم الشهيد من الاجهزة القمعية فأصدر المجلس العرفي -1952- حكما غيابيا عليه بالسجن مدة 15 عاما، وذلك لنشاطه في حركة السلم والتضامن ولإصداره كتابا بعنوان (السلام العالمي)، إضافة الى دوره في انتفاضة عام 1952. ولم يثنيه هذا الحكم الجائر عن مواصلة النضال، فواصل الشهيد نشاطه السياسي والحزبي متخفيا عن أعين التحقيقات الجنائية التي كانت الرقيب والسيف المسلط على القوى الوطنية أيام العهد الملكي. ومع اشتداد الحملة المسلطة على الحزب وجماهيره قرر حينها – عام 1953- مغادرته الوطن سرا إلى سورية بجواز سفر يحمل اسم (الحاج محسن عبد) مصطحبا معه ابنته نادية وابنه سعد، تاركا زوجته المناضلة نظيمة وهبي تقضي ما تبقى من محكوميتها في سجن النساء في بغداد، بسبب إصدار كراس “أغاني السلم والحرية”(2)!. غادر وهو يحمل في داخله هموم الشعب العراقي، ومعاناة مناضليه ورفاقه الشيوعيين واليساريين وهم يقبعون في زنزانات النظام الملكي، ويتعرضون للمجازر والتصفيات والتنكيل والإهانات. غادر وأصوات رفاقه في السجن من خلال مكبراتهم البسيطة والمصنوعة من الكارتون وهم يهتفون بحياة الشعب والحزب ويناشدون القوى الخيرة في العالم لإنقاذهم من مجازر وحشية يعد لها النظام الملكي وقد نفذها فعلا، وواجهوا هذه المجازر غير آبهين للرصاص الموجه لصدورهم في سجن بغداد وسجن الكوت أو في تظاهرات الشعب ضد المعاهدات الاسترقاقية التي خطط لها الانكليز مع عميلهم (الباشا نوري السعيد). نعم أصوات رفاقه تناديه لينشر قصة نضالهم وجرائم النظام الدموية بحقهم وإيصالها للرأي العام العراقي والعربي والعالمي. فانكب الشهيد في سورية ليصور باسلوبه المتميز مأساة السجناء الشيوعيين في سجون النظام الملكي ويفضح من خلال ما يكتبه أساليب النظام البربرية في مكافحة الفكر الوطني، فكتب كتابه (من أعماق السجون في العراق)، وهو يصور بدقة الأحداث المأساوية التي حدثت في سجون النظام الملكي وبإشراف وأوامر (الباشا نوري السعيد).
واصل الشهيد نشاطه الفكري والإعلامي في الصحافة السورية واللبنانية، وكان أهم ما كتب في تلك السنوات كتابه (من أعماق السجون في العراق) الذي طبعه باسم مستعار (محمد راشد) في حزيران عام 1955، وللأسف كان نشر الكتاب خلال تلك السنوات محدودا بسبب الظروف التي تعاني منها دول المنطقة فجميعها تقريبا كانت تعاني من قهر الانظمة الاستبدادية والتابعة وكانت حرية النشر والتوزيع محدودة. فقرر توزيع كتابه خلال مشاركته في مهرجان الشباب والطلبة المنعقد في وارشو عام 1955/ تموز، وبذل جهودا لترجمته باللغة الانكليزية لإطلاع الوفود الاجنبية المشاركة في المهرجان على انتهاكات النظام الملكي لحقوق الانسان والواقع المر الذي يعيشه شعبنا.
اقرأ ايضا
عبد الجبار وهبي.. سيرة مناضل مثال
د. حسان عاكفمنذ عام 1963،عام استشهاده، وكلما ذكر اسمه أمامي أو قرأت شيئا له او …