د.عدي حاتم المفرجي
اختصت مدينة كربلاء بتراث شعبي واسع يتصل بعمقها الحضاري وثرائها الديني والمعرفي، فكانت بمثابة لوحة يتجلَّى فيها هذا الثراء بألوانه المُمتزجة بطوابع الحياة مُعبِّرة عن فولكلورها في اللبس والأزياء والعادات والتقاليد، وما يرتبط بالمعتقدات الكربلائية مروراً بالأطعمة والأشربة المُبرَّزة في تراث هذه المدينة؛ فكان المُبتغى من هذه الوقفة الاسهام في إلقاء الضوء على جانب من غنى هذا التراث وتنوِّعه اعتماداً على مشارب الكتابة في أرشفة التراث الشعبي الكربلائي على يد سلمان هادي آل طعمة وغيره من المعنيين بتوثيقه في مجلة (التراث الشعبي) منذ عام 1964م.
العادات والتقاليد الشعبية
عُرف المجتمع في كربلاء بعادات وتقاليد اجتماعية حرص عليها، لأنها تعبر عن شخصيته، فاتسمت العائلة عموماً بكثرة إنجاب الأولاد، ويعد الزوج المحور الأساس في العائلة، فهو رب الأسرة سواء كان متزوجًا بامرأة واحدة أم أكثر، فضلا عن بقاء أبنائه المتزوجين من الذكور مع بناته غير المتزوجات أو الأرامل والمطلقات ضمن نطاق البيت الواحد، ويكون الأب أو الجد المشرف على نشاطات الأسرة المتعلقة بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ويمتلك حق التصرف بشؤون أسرته في الانفاق والمسكن والمأكل ويحميها من الأخطار()، ولذلك كان أفراد الأسرة جميعهم يطيعون الأب وينفذون أوامره دون مناقشة، لإدراكهم لمكانته ورجاحة عقله وحسن تدبيره في تسيير أمور الأسرة.
ولعل من المفيد هنا أن نستشهد بما يقوله الرحال جيمس بيكنغهام عام 1816 عندما زار العراق “منطقة فرات الأوسط”؛ إذْ لاحظ أهمية الرجل في الأسرة وخاصة احترام المرأة له فقال” في مناسبات عديدة شاهدنا مبلغ عناية الزوجات بأزواجهن ومبلغ الاحترام والخضوع الذي تبديه الزوجة لزوجها وفي الصباح حيث يساعدن أزواجهن في ارتداء الملابس وخلعها والقيام بكل واجبات الوصيف ويؤدي الصلاة يجلس على السجادة بينما تهيئ الزوجة القهوة او الشاي وتقدمها لزوجها بخضوع بالغ وتقف على بعد منه مكتفة الأيدي في بعض الاحيان، وبعد انتهاء الزوج من شرابه يناول زوجته القدح وأحيانا تقبل يده علامة الخضوع والإخلاص التام.
أما مكانة الأبناء ودورهم في الأسرة فانهم يشكلون العناصر الفاعلة في مساعدة الأب اقتصادياً، يعملون في مختلف النشاطات الاقتصادية، لتوفير الإمكانيات المادية للعائلة، وبعد زواجهم تبقى مكانتهم في الأسرة، في حين تبقى البنات الأخريات في داخل الأسرة تحت سيطرة الأب والأخوة، ويمكن القول إن هذا النظام العائلي المنظم ينبع من طبيعة الكربلائي الذي يميل الى حسن العيش من خلال الأخلاقيات التي تسهم في إشاعة أجواء الاطمئنان والارتياح في داخل الأسرة الكربلائية.
وفيما يتعلق بالعادات والتقاليد الخاصة بأحوال الشخصية على سبيل المثال لا الحصر “الزواج ومتعلقاته، وولادات الأطفال، وعملية الختان، والمأتم” وغيرها من المناسبات، فأنها ترسم صورة لواقع المجتمع آنذاك، فعلى مستوى مراسيم الزواج كان الكربلائيون يتعمدون اظهار الفرح والسرور بهذه المناسبة وذلك عن طريق أشاعه الأهازيج والدبكات الاجتماعية، فضلاً عما يرافق زفة العروس الى بيت العريس من مظاهر إطلاق الصيحات “الهوسات” وكانت زفة العروس في عربات تجرها الخيول تسمى الربل وتم استخدام السيارات أيضاً فيما بعد وعند وصولها إلى باب بيت زوجها يذبح لها الخروف على عتبة الباب للبركة، فضلا عن الرقص المتعارف عليه عند الرجال بــ(الـﭽوبي) تعبيرا عن فرحهم وسرورهم، التي تجري برفقة عزف الفرق الموسيقية، واعتمد السياق الاجتماعي في المجتمع أصولاً متعارفًا عليها في مراسيم الزواج وخاصة ما يتعلق بتحديد مقدار المهر المتفق عليه بين ذوي العريس والعروسة وغالبًا يتراوح الصداق المؤجل “الغائب” بين عشرين وخمس وثلاثين ديناراً، أما المعجل “الحاضر” فتتراوح قيمته تقريبا بين أربعين وخمسين ديناراً، فضلا عن تقديم الحلي الذهبية لها التي يجري الاتفاق عليها، وبعدها يقرر هذا الاتفاق من خلال إشهار عقد الزواج، والزفاف الذي تسبقه ليلة تعرف في الاوساط الاجتماعية بـ”ليلة الحنة” والتي يحضر إليها الأقرباء من العروس والعريس، وعادة يزف الأقارب والأصدقاء العريس الى عروسته بعد صلاة العشاء ويسير الجمع وهم يرددون الأهزوجة الشعبية التي ما زالت تردد في بعض فئات المجتمع: “شايف خير ومستاهلهه”،” ألف الصلاة والسلام عليك يا رسول الله محمد، ويلاحظ في مضمون هذه الأهزوجة التي ترافق الزواج عند أهالي كربلاء، تشير الى كونها عرفاً اجتماعيًا يعود الى حقب طويلة، ومنها الحقبة العثمانية، ولذلك أتخذه الكربلائيون منطلقا لأهازيجهم.
وفي مقابل فعالية زف العروس، فان العروسة هي الأخرى تحظى باحترام اجتماعي في مراسيم الزفاف، إذ حرص الكربلائيون على حرمتها من خلال غطائها الذي يبدأ من رأسها الى قدميها، وفي ذلك مؤشر على مقدار تمسك أهالي كربلاء بعفاف المرأة لان اللون الأبيض الذي تتوشح به العروسة كان يدل على نقاء شرفها وعفتها، وتجدر الإشارة الى إن جدة العروسة او عمتها تصحبها الى دار زوجها، وهناك تباين نسبي في مسألة ملابس العروس بين منطقة وأخرى من المناطق التابعة لمدينة كربلاء، فاذا كان أهل المدينة يتخذون الملابس البيضاء للعروسة في زفافها فإن ذلك لا يتنافى مع ارتداء العرائس في المناطق الريفية للون الأحمر؛ ولا تستعمل ملابس العروسة أكثر من أيام معدودة؛ إذْ يتم الاحتفاظ بها ذكرى لتاريخ الزواج، أما ولادة الأطفال فيحتفي الكربلائيون بولادة أطفالهم، ويصاحب ذلك توزيع الصدقات على فقراء المحلة ولاسيما ولادة الطفل الذكر، إذ يشرع والد الطفل بإقامة وليمة لأهالي المحلة، كما كان لرجل الدين دور في هذا المجال إذ يتولى تلقين الأذان في أذن الطفل اليمنى والاقامة بالأذن اليسرى، فضلاً عن اعطاء الصدقات للمحتاجين والفقراء وبعدها يسمى الطفل بالأسماء المحببة لدى أهالي كربلاء، وقد يؤخذ المولود الى أحد العلماء أو الفضلاء؛ وذلك ليكبِّر في أذنه ثلاث تكبيرات ثم يقول اسم الطفل، وتبدأ بعدها مرحلة جديدة في حياة المولود في مجال تحصيله الديني من خلال دراسته في المدارس، وتجدر الإشارة الى حرص الأسرة على حث أبنائهم على قراءة القرآن الكريم وختمه، فعندما ينتهي الطفل من ختم القرآن الكريم، تقام لهُ وليمة يدعى إليها الاهالي لبيان المكانة الدينية التي وصل إليها الطفل بعد ختمه القرآن الكريم.
وكان الكربلائيون يحتفلون بختان الأطفال أيضاً، إذ تقام بهذه المناسبة حفلة خاصة في بيت والد الطفل المختون وحسب القدرة المادية لرب العائلة، ولكن في كل الاحوال كانت تجري بوصفها تعبيرا عن فعالية اجتماعية يحرصون على إظهارها، وتبدأ مراسيم هذه الحفلة بختان الاطفال في الساعات الأولى من النهار وذلك تجاوزا للحالات التي قد تحصل جراء تأخير عملية الختان وكانت عملية الختان تجرى اما في البيت او المستشفى، وانسجاما مع دعوة رب الأسرة لضيوفه بحضور وجبة فطور صباحية، ويُصاحب ختان الطفل رفع الأصوات بالتهليل والتكبير وتوزيع الواهلية والصدقات على فقراء المحلة.
أما المآتم (الوفاة) فيتم أخبار الأقارب والأصدقاء بحالة الوفاة، لغرض تشييعه في أحد مساجد المدينة، فإذا صادف مرور التشييع في أحد الأسواق تغلق الحوانيت احتراماً لذلك، وحين يكون التشييع خاصاً بالسادة والعلماء وأبناء الأسر المعروفة في المدينة والوجوه والأعيان، يدعو المؤذن الناس للحضور الى دار الفقيد أو إلى أحد المغتسلات على الوجه الآتي “أخواني المؤمنين: انقلوا اقدامكم الى مغتسل المخيم لتشييع جثمان المرحوم المغفور له السيد فلان بن فلان من آلـ فلان، الحكم لله الواحد القهار”، يكررها ثلاث مرات ()، وإذا كان المتوفي من شيوخ العشائر فغالباً ما يصاحب تشييعه إطلاق العيارات النارية أو ما يسمى بالعراضة. (.
Lمن بحث نشره موقع دار الشؤون الثقافية بالعنوان نفسه.
اقرأ ايضا
نص نادر..تاريخ مطبعة الحكومة في الموصل
رفائيل بطيأسست مطبعة الحكومة في الموصل – وكانت تسمى مطبعة الولاية في العهد العثماني – …