مداولة لفهم تمرين على اليقين لـ عبد الرحمن طهمازي

سهيل سامي نادر
في سنوات شبابه الأولى تمرّن عبد الرحمن طهمازي على الشك. الآن، وقد تجاوز السبعين، انتقل الى تمرين أكثر تعقيداً هو “تمرين على اليقين”.”.
أقول هذا مسلّماً بعنوان القصيدة وإحالاتها، في حين أرى أن مضمونها يميل الى وضع الاثنين، الشك واليقين، في سياق التساؤلات لا التعارضات. والحال لا يمكن تفادي ذلك، فهما متقابلان في التجربة كما هما متصلان دلالياً، وعلى نحو لا تشكل تأثيرات التقدم بالعمر سوى اقتراح مسنود بتجارب عامة. يمكن القول إن التمرينين متداخلان في سياق التجربة وليس في سياق أفكار سابقة ولاحقة مع أثاث تاريخهما المحلي المتهاوي.
ارتبطتُ مع طهمازي بصداقة عميقة، ولعلي أتذكر أننا الاثنان مارسنا الشك في تمرين مرهق، وتوصلنا الى نتائج غير مرضية لكنها وافية. ولست أدعي الآن أنني أنا الآخر، وقد رحت أدقّ بوابة الثمانين، أمرن نفسي على اليقين، فما زلت أفتقد الحكمة، وأتأمل ما أنا عليه بضجر. إزاء ذلك لا أرى أن طهمازي يدير في قصيدته أفكاراً للوصول بها الى قناعة ما، أو يقوم برياضة الحكيم الذي يقنع نفسه أنه في عمر عليه أن يقلل من أحماله، وببساطة يقوم بتمارين من أجل حيازة اليقين. ما أراه أنه يمرر الدلالة شبه الدينية المتمثلة في تعبير (اليقين) باحتدامات جدلية، ولغة مشبعة بالتضارب.
ليس الزمن وحده من يدفعنا الى أن نستبدل الأهداف، فها هو طهمازي يكسر المرايا التي شيّدها الأخرون لرؤية صورنا المعكوسة كما لو أننا ما زلنا أنفسنا وكما يريدنا طغاة الطاعة والعابثون بالزمن. وبالعكس، يواصل طريقة نسيجه الشعري القديمة، إذ الوعي لا يتلاعن بل يلين بالحكمة والموعظة الحسنة، ليدعو إلى كسر المرايا لأنها قناع لأقنعة، وحافظة لصور كابوسية لاتريم:
” رجائي أن ترموا الأقنعة عن المرايا. وإن كان ولا بدّ
فاكسروا المرايا تلك واحدة إثر الأخرى.. والّا فاكسروها
مجتمعة. أتريدون أن تفعلوا ذلك مع الصدى “
يفتح طهمازي رؤياه في تمارين معقدة تفكك الشك باليقين واليقين بالشك، وما من يقين إلاّ ويمر عبر بوابة الشك، لكن ليس كل شك هو بحث عن يقين أو يصل إليه. والحال ليست قصيدة طهمازي تمرين في إيجاد حلّ بل تمرين في توسيع الرؤية لإعادة اكتشاف جروحنا غير المندملة بعد.
” إنّ الهواء
هنا في العراق يضيع
مَن الذي يقيس مناسيب الهواء.
يا أمّ ما هي مهنتك
ادرّب اليقين على الشك
وأنت أيّها الأب
أدرّب الشكُّ في اليقين..”
إن “تمرين على اليقين” هي في العمق جمع تشظيات تجربة، وإعادة رصفها في لحظات مبعثرة وحدسية، تمرين في حياة غادرناها وما زالت تنتظرنا، تمرين في التجربة وتلقيها، بحث يتصل بدلالات ذات صوت منخفض في الفكر، لكن بوشائج تجربة حياة أجيال.
ليس طهمازي من أولئك الشعراء الذين يضيعون بالأفكار، وتأريخ الأفكار. فهو منتبه الى أن المشكلة الشعرية تحمل عبء الحياة والوجود، وتفكك حالات الفكر بلغة مشفرة.
في الحياة العراقية كان تاريخ الأفكار غير ثابت، ينفلش بسرعة ويعاد بناؤه من دون عودة إلى صورته الأصلية، بالأحرى دون مراجعات، من هنا لا يصح أن نسميه تاريخاً، وإن صحّ أن نسميه كذلك فهو تاريخ هواء، اهتزازات وعجاج وهجرات هوائية تدور دورات لتعود الى مواقع مأزومة. إزاء ذلك فإن الأفكار لا تعود نفسها، وقد تغيّر جلدها واسمها.
قصيدة ” تمرين على اليقين” تُراجع تغيير الجلد هذا، وتوقّع دلالات التجربة في تحولاتها، من هنا فهي تجرّب مداخل ومخارج عديدة، تعالج الجروح بالمرح والأسى الحكيم. إن “تمرين على اليقين” تغيّر مداليلها ابتداءً من مفتاح استهلالي يسهل فهمه ويصعب إيلاجه بالأقفال. اسم المفتاح هو الحلم!.
” في قارب أخذت معي أحلامي، جمعتها حلماً في حلم
وعبرتُ بها الى اليقظة، وما إن وصلت تبعثرت كلها.. “
إنها تجربة تحدث لنا من جهة أن اليقظة تزعزع الحلم وتبعثره.. بيد أن القصيدة لا تتحدث عن حلم نائم، وإن كان النوم يرد في القصيدة، إذ لا مفر أحيانا من ازدواجية اللغة ما بين مراجع طبيعية وأخرى مشتقة من المفاهيم. والحال جمع الشاعر أحلامه في حلم حاملاً نفسه وحلمه في قارب، فهو إذن يتحدث عن أحلام ذات طبيعة أخرى، لها كيانات وارتباطات وأذرع وزعانف. إن دلالات حركة الزمن هنا صريحة فهي رحلة وعبور. إنها تحيل الى دلالات تجمع ما بين الأحلام بوصفها آمالاً، وبوصفها أهدافاً، وبوصفها وعوداً. تلك هي إذن أحلام شبابنا المترعة بالآمال وبالأهداف والوعود.
بيد أن القصيدة امتنعت عن بناء دلالة جسرية تربط بين الأحلام والآمال. حذر القصيدة هنا صارم، لأنها تضمر معرفة سابقة تجد تعبيرها في جملة هزلية كهذه: (الأمال المجهضة!)، وسيكون من السهل أن يعبر الخونة والشهداء معا في سياق مرويات سياسية مليئة بالمماحكات واللعب النذل. الشاعر سيحافظ على تجريدية تدفعنا الى اختيار ما يناسب أحلامنا غير المتحققة أو أحلامنا التي تنكئ جراحنا ولا تدعنا نستريح.
في مقاييس يقظة مأزومة، يقظة ترينا الحلم يتشظى بقواها المفتوحة على النور والوعي، فإن البعثرة تتضاعف، والقصيدة التي تتقصاها وتلملمها يخترقها زمن التجارب. إننا نتبعثر وإياها جسدياً وعقلياً، وستتولد عن مجهوداتنا سيرة تطارد تبعثرات متباعدة في الزمان والمكان والثقافة، وستكتشف السيرة وعوداً تناسلت مع شروط غابت، ومواجهة حقائق نشهد عليها وإن لم تعد مفيدة لنا في هزيع أعمارنا.
” وبدأ خيالي بالتمرّد، يا لي من حبيس، لقد طاردت
أبواب الليل وأبواب النهار، مثل الأغريقي الهارب
من العائلة بعد النضوج، كنتُ من أهل هذا العراق
لا أستطيع تعبير الأحلام وفاتني الإحساس بحقائق الليل
والوعود “.
هاهي الدلالات تصطف: أبواب الليل والنهار إزاء الأحلام واليقظات. لكن ما الذي نعرفه عن الوعود؟ ربما هي ذكرى ألوان ثورية في الأفق، ربما هي انتظار مدعوم بالأمل.. فما الذي فوته الشاعر منها؟ بيد أن الأحلام في اليقظة المتناومة تأخذنا الى الشك: أثغاث أحلام! ولسوف تغير صفاتها في يقظة مبحرة في العواصف:
” الأحلام السائبة، فدية اليقظة، العجائب الخلفيّة للفوضى”
تشغل سيرة المطاردة مساحة واسعة، مثل مساحة التبعثر، (مساحة القصيدة التي تضغط عموديا وأفقيا)، ولكي نجد آثار مواد الأخيرة أو مواقعها الدفينة في الزمن، فستمر القصيدة على تناقض اليقظة دلالياً، إذ هي اللحظة التي تتبعثر فيها الأحلام، مثلما هي دعوة مضمرة لعلاج ومعالجة وتأمل، من هنا فهي تولد خطابات متسائلة تقتحم جراحات الما ضي التي تأبى الشفاء:
” مَن هؤلاء الخاملون الذين يتهاوون في
أنفسهم؟ مِن أيّ مادّة حاكهم الحائك؟ لماذا لا
يميطون اللثام عن يقظتهم التي لا ثمن لها؟ ينتظرون
أمثالهم ولا يبرحون. أيّها الماضي ارحل الى ماضيك
أنت. لماذا لا تريم؟ أم الدم الفاتر لا يملأ جرحك
ليلتئم؟ املأوا جراحكم بدمائكم
لا بدماء أحفادكم. دمكم أشفى لكم
مطاردة الماضي لن تكفي لمبادلة أحلامكم
افتحْ أحلامك على باب النهار بلا مواربة “. “
في قصائد طهمازي نجد دوما نزعة خطابية، تتوجه فيها الكلمات الى رجال أضاعوا أقدامهم أو ضيعتهم الطرق، وقد تخاطب رموزاً ذات أشكال سلطوية كالبوابات والأبواب والمداخل الغامضة. وفي الأبيات السابقة تخاطب القصيدة احتمالات متقاربة: رجال أسقطوا في نفوسهم، فكأنهم في ماض تام مؤبد، أو هو الماضي نفسه المستمر الذي يلقي ظلاً كثيفاً على جراح لا يصلها النور فلا تندمل.
اعتادت قصائد طهمازي أن تستدرك بالمخاوف ومن لحظات الجمل المتيقنة من منطقها، وهي تستدرك هنا بالخوف على أحفادنا من جراحنا التي لا تندمل. إنها تخاطبنا نحن الماضي والجرح غير المندمل، وتدعونا إلى أن نخشى على أحفادنا من ماضينا، ونفتح أحلامنا على الضوء!
” هذه الأحلام المبعثرة أسرعتْ مثل فكرة ما نحو اليقظة
لتأخذ مكاناً لها في الخلود والاختمار الوديع الذي
يطرد الذكريات واحدة بعد واحدة
ما هذا الحلم الوسطاني المهبول وكأنه الدعاء الأخير؛
الطيور تسبح على ظهورها في الهواء الدافئ.
كفُّ عن هذا وانثرْ أحلامك على مهل بعد حراثة
اليقظة عسى أن ينشأ جيل جديد بينَ بينَ في الزمن”.
تنسج قصيدة طهمازي النثرية من تعديلات في الحالم والحلم، باستخدام أصوات متعددة، تارة هي خطابات، وتارة هي توصيفات، وأخرى هي حكم وأمثال، هزليات، ذكريات، تذكارات، حماقات، تساؤلات، تعقيبات، مباشرة وغير مباشرة، ضمنية وصريحة. بهذا النسيج المعقد، التلصيقي في الأطراف، العضوي في الدلالات، تنمو القصيدة وتتوالد وتكتشف كل التبعثرات المتباعدة لتضعها في نسيجها اللغوي. والحال إنها لا تتحدث عن حلم واحد بل أحلام، قبالة يقظات في قارب مبحر في الزمن. حلم قوي يعبث باليقظة التالية، حلم يقلبنا مثل طيور تطير فنفقد الاتجاه، وحلم يقود نفسه بعد أن استولى على القارب:

  • ” صبغت الأحلام كوابيسها بالألوان المائية عابثة باليقظة ومتخذّة
    طريقها الهوائيّ الى النوم تقليداً للطيور المقلوبة المحملقة في
    فضاء لا تراه ولا تعرف غريزتها الجديدة الانحدار الى
    الهاوية..”
  • ” وهذه الأحلام التي تمارضت حيناً
    عادت لتأخذ القارب منّي.. “.
  • “كانت الأحلام تتسلّى في يوم إجازتها”.
  • “لم تعد الأحلام مطاوعة. هي لا تسمع. ولابدّ من
    النوم في جوف القارب لتهوين الخلاف ومراعاته”
  • ” الأحلام ستظهر رغم أنفها ولن تفلت من اليقظة
    سنلتقي بهما خلسة”
  • ” وما إنْ فزّ الراوي من نومته حتى ارتأى أن يقايض
    أحلامه كلّها بأحلام الطيور التي ما زالت ملقيّة على
    ظُهرانيها”.
    الأحلام المتضاربة، مثل تخمينات اليقظة بشأنها، تنفصل وتتلهى مع نفسها. فإذا ما بادلنا أحلامنا بأحلام الطيور، وما أدرانا هنا، أهي أحلام هجرة، أم دعوة الى صياد، أم دعوة الى نشيج مشترك للصياد والطريدة في جراح جديدة وندم؟
    ” الاحلام تتضارب من أجل أن يخلو لك الجوّ أيّها
    المعذور. تمهّـل أيها الصياد وانظرْ الى عجائب الندم
    ومفاتنه ثم اطلق نارَك وخذْ حاجتك وما تقدر
    على حمله ولا تكسر رقبة طائر يصحو. إنّ رأسك
    سيمتلئ بأحلام الطيور وستجد الندم قد غزاك
    كما الدم تماماً ايّها الصياد المخضرم الفاتر.. ولا تنسَ
    أن تذكر لي هل التأم لك جرح؟”
    يتسع هذا القصيد النثري عن طريق تحولات ترتسم فيها الأحلام كذكرى لحاضر دائم، حاضر يحمل ثقلين، ثقل الذكرى وثقل الحدث الدموي المتصل بالجراح التي لا تندمل.
    ” هذا اذن هو الحلم الذي حطّمه الخيال الحارس تحطيماً أخفى الآثار
    والأسباب مثل تلك الحوادث التي لا تنتظر فاعليها”.
    ما الخيال الحارس الذي يحطم الحلم ها هنا؟ هذا المراقب، هذا الذي يحصي أحلامنا ويحطمها لكي تختفي الآثار والأسباب؟ باختفائها ما القضية التي يجب فتحها أمام قاضي الزمان؟
    هذا الاكتشاف القوي يأتي بعد خطابات بمضمون حكمة متأسية، تتوجه الى معاصرينا المترعين بالظنون والنسيان:
    ” هل صرتم تشعرون أنكم أسرى المستقبل. هل
    ستسألون موسيقى الكلمات العربية التي لا تخجل:
    من ذا الذي يدفع الفِدية؟
    لا تنسَ.. افتحّ طيات المتحف الترابيّ في اور
    واستروح في البطائح.. واذهبْ الى المترجم
    الاندلسي. والملا الشيرازي..
    …لا تتنكّر في أقنعة الحاضر عالية الضغط.. فالماضي خبير
    بحذافيرك وجذاميرك وراء هذا الاسفنج الادغم.
    الماضي سيكون نقيّاً بتدفق المستقبل البريء الى
    البيت العتيق الذي بُني سافاً بعد ساف للطواف
    والأطياف”.
    الأوصاف تتوالد من تداعيات وعي مهشم يتحرك ما بين تلفظات تراثية وتفوهات بلا قرائن وضغوط حاضر تدفع معاصرينا بعيدا عن ماضيهم الثقافي وتجاربهم الأصيلة. تتوجه القصيدة بخطابات مباشرة، تحمل كلماتها نبضات مسحورة من تباعد الدلالات وتركيبات اللغة وألعابها ومزاحها ويأسها مع قبضات من الحكمة المزعوجة:
    ” يالغيرة الطبيعة من الطيور.
    كلّ شيء يتحذلق ويندفع الى فشل فارغ بسبب توفير
    الأشكال السائبة، كما يفعل شاعر قد سئم تماماً
    من الايجاز فأغرقه بكلّ مالايعنيه. هذا إذن هو
    الحلم الذي حطّمه الخيال الحارس تحطيماً أخفى الآثار
    والأسباب مثل تلك الحوادث التي لا تنتظر فاعليها.
    هنيئا.. مريئا.. كيف اخترت أيّها المقدام طريق القلق
    الضيّق والتحقت بالشعب الذي يفرز أفراده
    لينتخبوا الاحلام المحطّمة المترفّعة.. المسامات
    المسدودة.. الذاكرة اليتيمة.. والخيال العقيم.
    ارفعوا الأوراق المتناسقة
    المحترقة من تلقائها في الدليل الضائع.
    هل سترتدون كلماتكم كما تخلعون ثيابكم
    أتعرفون كيف ولماذا تمدح المجتمعات الأفراد وهؤلاء
    يثنون على الشعوب؟ “.
    أثناء ما تنهي القصيدة حساباتها لا تنسى نفسها، ولا الأقران من شعر المعاني ومنتجيه. إنها تدعوهم، وتلك هي لحظة تشبه اليقين، ما دام اليقين، هذا الافتراض المدعوم بشظايا الأحلام، قرين ملتبس للحكمة والتدبير. وكم هي تمزح مزاحاً أخوياً، أو تنغز بدبوس، وتلفت رؤوس أدارتها سلطة نحو بضائع كاسدة:
    ” ضعْ عملتك في جيبك. أو القِ بها على المعاني
    اشترِ بها قطع غيار للتاريخ ومدّخرات للطاقة
    لا تكتم أنفاسك في سلال الألفاظ
    لأن الأسلوب لا مكان له إلا في الزنابيل التي
    تحملها أينما ذهبت محروساً ومتفاجئاً
    بالنعوت المتحّفزة.
    كن بلاغياً في أحلامك
    نحوياً في تعبيرها الى اليقظة فالمنطق يتأرجح
    هناك سيكون استثمارك غريزياً
    وستربح حصتّك من الإشاعة.
    تجنّبوا الذعر الكريه وإذا زادت معرفتكم
    بالظلم فتعلّموا العدالة..”.
    ” عليكم الانحراف يميناً أو شمالاً لئلّا تقعوا
    بين براثن الوسط حيارى يشرّدكم الخلود كما
    لو أنكم تتزلّجون على جليد التاريخ الخالي من
    الزمان..”
    ” يا للشعراء.. لله درّهم..
    يمرحون ويسرحون بالطواغيت.. يعرفون متى
    يضعون القناع الجنائزي.. وكيف يرمونه مؤقتاً
    أو الى النهاية.. هؤلاء هم الذين فهموا
    أنّ شعرهم يأخذهم الى الأمام حتى لو التفتوا
    على أعقابهم..”.
    .. ثم تلتفت القصيدة إلى هذه التي تلوي الرقاب وتمنع أن نراها:
    ” ألا تباَ للسلطة الرماديّة.. حيث ينام الفرد وكأنه
    مجموعة وتصحو الجماعة على أنّها فرد.. ذلك العار الصامت.
    أين طارت القافية البيضاء. ومن وضع تحت إبطه
    الحامض تلك البحور.
    ويحكم. هكذا تعتاش الكلاب على الأساطير والأساطير
    ايضاً تقوم الكلاب على تربيتها.. في السلسلة في الاعناق مقابل العظام ومهما تكرّر الكلام
    فلن تتهرّأ الأسماع. لا تنسوا أنّ السلطة
    تمحو الأهداف..”
    وهذه من القصيدة التي تقترح شعرا يتخفف باللطائف والعدل:
    “ليس الوزن هو اللحم والعظام، هو الفطنة الخصبة
    والانصاف العامّ “.
    وعلى سبيل الإنصاف تتباسط القصيدة الى أفعال الخير والكرم مع الخشية والتذكير بالأوردة التي شخرت بالدم مقابل جمل غير منتهية:
    ” حين تتركون الأهواء الركيكة ستعرض الأوزان
    نفسها على خوان الأحرار أمام أبصاركم والبصيرة طباقاً.
    الآن تستطيع أن تضع الملَل في جيبك ولا تهجم على
    أنفاسك. الآن تستطيع الضحك بالمقلوب. الآن تعرف
    الغصّات والشهقات.. إياك أن تكون جاسوساً
    على التاريخ.. هو وحده يعرف ضعفك
    الفيّاض. لأن ريحك قد ذهبتْ. كان التاريخ
    جاسوساً عليك.. هل تستطيع الاختفاء بين الكلمات
    هيا إذن انظرْ كم من الأوردة قطعت ومن الشرايين
    وهل مثلما تتقطّع الجُمل وتضيع. إي.. ثمّ تختلط
    في أحلام متنافسة..”
    وإذ تلملم القصيدة أغراضها تستبدل اليقين بأسئلة لا يمكن الإجابة عليها، فهي ليست معدة للاجابة بل لإثارة الخواطر:
    ” ما الذي جعل الطبيعة تتدخّل في وقت غير مناسب. هل
    هناك وقت مناسب لتطفّل الطبيعة الصبيانية.
    لماذا هذا النكوص وأنت بعدُ في طور الاستعداد الأخير
    لماذا فقدت الأثر وأنت تهمّ بالصعود وتتدهور. لماذا
    تعشق إذن وأنت في عز الإفلاس. لماذا تغفو ايّها
    الفؤاد في فراغ مفاجئ. أمالك من سلوى مبطنّة
    وصالحة لصراع يغذّيه أمل غير مدفون في ذكريات
    غامضة.. لعلّها زائفة. لماذا تتماوت في ميراث تطاول
    عليك وأخصاك. افّ. الم تقل لك بغداد أنك
    ابن الزمان.. أم هذا نسبٌ مطعون فيه يا..
    ليس الا الزمان مؤونة لك.. هو كذلك ولا بدّ هو
    الاحتياطي الأبديّ الذي يتسرّب إليه السراب أيضاً..”
    الزمان! ينهي هذا القصيد حساباته مع الأحلام، فمواقع الأحداث تغطت وجرى محو فاعليها وشروطهم، فلا يبدو أن الشك نزهة ولا اليقين كذلك، ولسوف تستبدل النهايات جمل الماضي والحاضر بالزمن الذي يظهر من تحت الرماد. الزمن الذي يغطينا فنتوهم أننا عبرنا من تحته، والزمن الذي يعبر من فوقنا ويتركنا لائبين. ومن الغريب أن الجملة التي تستفسر إن كان الزمان سيذكرنا تجيب على نحو مضمر – في- “مناسبتنا” “المنسية”، أي هناك شك في أن تحفظ لنا ذكرى، لتنتهي الجملة بإيقاظ الوعد والوفاء، وتلك حسابات أخلاقية نافعة للآتين الجدد لكي لا يكرروننا.
    ” هل مرَّ ببالك انّ الزمان يتكدّس فتأخذ منه ما تشاء
    من الدقائق وتترك الساعات وشأنها. أم أنّ
    الساعات تأخذ بناصيتك وتلقي إليك بفتات الدقائق.
    ما العمل والشبّان واقعون ضحايا التبذير بين الحقوق
    والواجبات.
    ليت شعري.. ما هذا الذي يمتصّ المكان حيث لا
    يتعلّق به زمان.. ليت شعري ما هذا الهواء الذي فقد
    عروقه ولم يترك نأمة من العبير الذي يتذوّق الألحان
    النائية. هل سيذكرنا الزمان في المناسبة المنسيّة.
    إن شئت فأيقظ وعودك.. لستَ مغلولاً يا ولدي
    لكنّه هو الوفاء يا أبي، الوفاء يعاودني بمثاقيله الثمينة
    التي تثرى منذ المهد في خفقاتها هناك”.
    الشاعر المنتبه الى أحلامه، ويدرك أعذارها، يجرب فتحها في غبشات يقظته حيث ما زال النور ضعيفاً، فيجرب سحب دلالاتها المتباعدة الى دلالات منضبطة بالنحو ومرتجفة بمعانيها الجديدة التي تؤشر وتطيح بتأشيراتها على ألف جرح وجرح “لا يمتلئ بالدم حتى يبرأ”. دلالات ذهن مليء بالشكوك حتى أنه ينسى دافعه الأول، ينسى أنه يسجل دعوة الى اليقين. دلالات لا تبني صوراً بلاغية بل جمل مفارقة ومشفرة، جمل ناغزة، وجمل حنان وتصالح ونصائح وحكم وضرب أمثلة. إن صناعة عبد الرحمن طهمازي ممتلئة بعاطفة نصوح، وأخلاق معلم نحو يعلّم طلابه الانتماء الى غرائزهم النبيلة والخروج من التاريخ الى شعاب الحياة والمغامرة.

اقرأ ايضا

الفنانة إقبال نعيم:لدينا مؤسسات فنية بيد عناصر لا يؤمنون أصلا بالفن

حوار: جمال الشرقيعرفت الفنانة الدكتورة اقبال نعيم من عائلة فنية، فهي اخت الفنانة د. عواطف …